إملاءات المطر   إملاءات المطر


معطف [ الكاتب : مصطفى معروفي - آخر الردود : مصطفى معروفي - ]       »     مراحب [ الكاتب : فتحية الشبلي - آخر الردود : فتحية الشبلي - ]       »     آخر الأنقياء العابرين.! [ الكاتب : رداد السلامي - آخر الردود : رداد السلامي - ]       »     قصة حزن نوف [ الكاتب : خالد العمري - آخر الردود : خالد العمري - ]       »     مطر.. مطر [ الكاتب : أحمد بدر - آخر الردود : أحمد بدر - ]       »     حنانيــ .. آت ! [ الكاتب : عبد العزيز الجرّاح - آخر الردود : عبد العزيز الجرّاح - ]       »     ما أجمل أن..! [ الكاتب : عبد العزيز الجرّاح - آخر الردود : محمد الفيفي - ]       »     ركن خافت و [ أَشياء لن تهم أَحَداً ، ... [ الكاتب : ريم عبد الرحمن - آخر الردود : محمد الفيفي - ]       »     .. وَ .. [ الكاتب : أسامة بن محمد السَّطائفي - آخر الردود : محمد الفيفي - ]       »     افتقــــد !! [ الكاتب : ضحية حرمان - آخر الردود : محمد الفيفي - ]       »    


العودة   إملاءات المطر > الإملاءات الأدبيـة > حرائـر غيمتي
التعليمـــات التقويم

حرائـر غيمتي هنا .. تستأثر أنت بصوت حرفك وأصدائه.


اسهار بعد اسهار

هنا .. تستأثر أنت بصوت حرفك وأصدائه.


إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 29/10/2012, 02:01 AM   #11
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(41)

تزاحم الكثيرون حول مضاعفات مرض أبي المتفاقمة ، أخليت وجهي من كلِّ تعبير يعكس كمال دوائر الصخب في داخلي المكتظ بالأصوات الفاحشة ، وغرست عينيَّ في لحم النهار صامتاً ، أراقب نموَّ الحشائش التي تنمو بصوتٍ مسموع علي سياج الطلل ، العصارة في دفاتر الماضي القريب ، كنت في ذلك الوقت تحديداً ، أحتاج إلي قوميةٍ كبيرة حول قلب الفاجعة ، وكنت أدرك أنهم ، وأن الذين لم يتمكنوا من الحصول علي موطأٍ في السيارة ، فاشتعلت عزائمهم ، فجأة ، علي استدعاء سيارة أخري ، تؤمن لهم ، وله السابقات ، اللحاق بموكب الواقف في منتصف موته تماماً ، بل كان كلُّ الدوميين ، يلتفون حون الإيمان بعبثية الرحلة ، لكن الحقيقة ليست هي الإجماع علي الدوام ، كانوا أيضاً ، يتوقعون عودة الموكب خاسراً قبل أن يتجاوز مشارف الدومة ، وكانوا بالرغم من كلِّ شئ ، وبحماية كلِّ ما يمتُّ إلي حالة أبي في ذلك الوقت ، لا يعدمون الصواب تماماً ، بل راودني لبض الوقت شعور ، ينبؤني بأنهم قد يكونون علي حق .
لقد فشل أبي في أن يتيح للأرض أن تتغزل في خطواته ، فحمل حازم وعبد الفتاح نصف موته إلي سيارة الحاج الأمير الرابضة في جوف الطلل ، عيناه المفتوحتان علي ظلٍّ شاحبٍ من العدم .
لكن ، وخلافاً لكلِّ التوقعات ، طوي الموكبُ غابة من الكيلومترات تحت درع ثقيل من الصمت القاتل ، بالنسبة لي علي الأقل ، كأحد الواقفين في قلب الإطار المتضرر تماماً ، وفي قلب ذاتي تماماً ، أسترخي فوق معجزة تبحث عن تعريف ، لذلك كان الصمت مسوَّراً علي الوجود ، ساعات من الأسود الكلّيِّ لا ينتبه لمثلها مؤرخو الكآبة ، أنا وحدي ، وحدي أنا الذي يعرف ما يوجد وراء كواليسها .
انفرط الصمت ، فجأة ، بمجرد أن حطت السيارة ، علي بعد عالق بالمأساة ، بالقرب من البهو الداخليِّ للمستشفي ، أو الورم الممتلئ إلا وردة ، بالنوايا الملوثة .
تركت أبي علي حافة حازم ، وحواف الآخرين ، ينقلون نصف موته إلي سرير فارغ ، وتصدر البحث عن طبيب يفحصه لائحة اهتماماتي ، وارتطمت بمسخ أنثويٍّ شاب يتحسر علي إخفاقه في التوفيق بين وضعه الجديد وقبحه ، هذا جعلها تجد العثور علي ترميم لجرحها في التطاول علي الآخرين ، أسلوب أقرب ما يكون إلي حرج الأفق والبعد الواحد ، كانت تتحدث إلي الي بعض البسطاء من المرضي ، وبعض مرافقي المرضي بعجرفة النبلاء ، وقفزت إلي سطح ذهني فجأة ، ثم اكتملت بطلة حكاية من حكايات الماضي المجيد ، حكايات عمتي فتحية ، لقد اكتشفتُ بالفعل أن مثل هذا الوجه مختزن في ذاكرتي بوضوح أكثر مما ينبغي ، إنه وجه طيزان ، طيزان التي رفضت في طريق العودة من النبع ، أن تسقي الغراب من جرة أمها المبخرة المعطرة فلعنها قائلاً ، روحي ربنا يجعل سوادي في وشك ، ورفضت أن تسقي أبا قردان من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فلعنها قائلاً ، روحي ربنا يجعل بياضي في شعرك ، ورفضت أن تسقي الرمانة من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فلعنتها قائلة ، روحي ربنا يجعل حماري في عيونك ، رفضت أيضاً أن تسقي النخلة من جرة أمها المبخرة المعطرة فلعنتها قائلة ، روحي ربنا يجعل طولي في جسمك ، وتحققت بالطبع كل اللعنات ، فلم تستطع لطولها الباهظ أن تدخل من الباب ، فصاحت العجوز سوداء الوجه ، حمراء العينين بشكل مخيف ، من الخارج ، هدِّي البوابة يمَّايا هدِّي !! .
إنها هي ، وأعرتها في لحظة خاطفة اسمها ، طيزان ، دكتور طيزان .
قفز إلي سطح ذهني أيضاً ، بتصرفات منخفضة ، وجه شريك لي في الزحف علي أشواك الصيدلة الحادة ، كان من ضواحي محافظة أسوان ، أشار إلي لون بشرته شريكٌ آخر من شركاء الزحف الشهير علي الشوك الذي لا مراء فيه ، بنيَّةٍ فارغة من التعريض تماماً ، لا أتذكر الإطار العالق علي نحو أكيد ، ربما كان محور الحوار يدور حول دراسة أمريكية تقترح انخفاض منحني إصابة السود بتصلب الشرايين ، أو حبِّ الشباب ، وربما الإسهال ! ، وتجاهل الشريك بشري الشريك ، وغضب غضباً حقيقياً ، وتساءل بلكنة النوبيين :
- أنا أسود ؟! ، خبار يا زول ، إنتا عندك عمي ألوان ؟!!
ثم أضاف بلكنة النوبيِّ الواثق :
- أنا أسمر !!!
كان المصاب بعمي الألوان أحمد ، فإن كان لون بشرته أسمر كما ادَّعي ، لانهارت منظومة الألوان الشهيرة من جذورها ، وسداً لكلِّ الثغرات ، أقول بحياد تام ، إنَّ لون الغراب ، بالقياس إلي لون بشرته ، أبيض .
وبرغم هذا ، وربما بفضله ، كانت مطاردة النساء في شوارع المدينة وأزقتها ، هي اختيار دكتور أحمد عبد الكريم الأول للجنون .
دُفعتُ ، بالصدفة المحضة ، إلي تجربة جنونه ، ذات ظهيرة شديدة الأشواك ، فأشار فحمه مباشرة إلي ساقين ممتلئتين بالفضة لفتاة مسيحية ، وأطري عليهما كثيراً ، وقفز الشاعر القديم ابن الروميِّ ، فجأة ، من جيب من جيوب ذاكرتي ، وفجأة ، ذلك المتشائم الشهير اكتمل ، ووجدت التعبير عن فشلي في التوفيق بين الفحم في بشرة أحمد ، والفضة في ساقي الفتاة في ترديد بيتين من تراثه الذي لا يكترث له الكثيرون فضلاً عن موقعه الطليعيِّ في تراث الناطقين بلغة هذيل :
شغفتُ بالخرَّد الحسان ولا .. يصلح وجهي إلا لذي ورع
كي يعبد الله في الفلاة ولا .. يشهدُ فيها مشاهد الجُمَع
لم يفهم الطرح الشعري أحمد ، ربما أعاقه تركيز ذهنه في معني مفردة الخرد ، أن ينتبه إلي ما ورائها أصلاً ، وتساءل في بلاهة :
- يعني إيه بالخرد ؟!
كلام ، فاترك ذهنك في مظانه الرائجة يا أحمد ، لا تكترث لذهب العابرين الفاشل ، واتركني أدور في أزقة الجنون الخادعة ، وهزائمي .
كأن ابن الروميِّ كان يصف وجه دكتورة طيزان القديم ، وجه كالتابوت ، تنعكس علي بثوره النشطة غاباتٌ وغاباتٌ من الحسرات الداخلية المزمنة ، هذا جعله تعبيراً محمياً لا تستطيع امرأة ٌ في الكون أن تدَّعي صلاحيتها للتصدي لعبئه ، سوي راهبةٍ تعبد العدم في صومعة منعزلة ، ومن الخير لها ، وفي ما يبدو أنه الحل الوحيد المتاح لترميم جرحها الطريِّ ، أن تتبرع بجلده لمصابي الحوادث من كل قلبها ، هكذا ، ومن آن ٍ لآن ، بعض راهبات الكاثوليكية في الولايات المتحدة ، يتخففن من أعباء وجوههنَّ ، ويستقطبن في الوقت نفسه ، إلي الآحاد المهجورة ، زهد القلائل من المتحولين الكثر من اليسوعية إلي الديانة العالمية المؤجلة ، الحب فقط ، قد .
احتدَّ إيقاعُ صوتها فجأة ، لا يراقب نموَّ العواقب ، كأنه الورم ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء الغيظ ، أو الانسحاب من الواقع الفاحش ، تحلل قلقي إلي غضب حقيقيٍّ ، وشديد العراء ، تجاوزت البالطو الأبيض ، والسماعة المعلقة حول حجابها الذي يخفي شيبها ، وقلت لمؤخرتها :
- يا أبلة ، لو سمحتي !!
استدارت إليَّ في شكٍّ ، وأجابني الذهول المسوَّر حول وجهها ، ثم استدارت ، وراقني الطقس :
- لو سمحتي يا أبلة !
- تفتت شكُّها ، واستدارت في تحفُّز حقيقيٍّ :
- ايه أبلة دي ، احنا هنا فـ مدرسة ؟!
تنبهت للمرة الأولي إلي أنها تتكلم بلكنةٍ قاهرية ، وتنبهت أيضاً إلي ظني المستدير بأن جدتها كانت خادمة في بيوت أغنياء القرية ، أو راقصة عتيقة من راقصات الموالد والأفراح ، ولابسة التوب الأخضر برسيمي ، وراسمة عليه غلايين النار ، وحاطة البودرا احمر واصفر ، حلِّق واظبط من قدام ، فهل يكون طبعها الحار تعبيراً عن علمها السابق بما يقال عن فضائح جدتها ؟ ، يا طيزان ، إنك تتكلمين بلكنتي العمة ، استأنفت غضبي بلكنة قاهرية :
- إنتي اللي عاوزاها مدرسة يا أبلة ، وتكوني انتي الناظرة ، أنا زميل نقابة علي فكرة ، إنتي ازاي تعاملي العيانين كده ؟ ، هي المستشفي دي ملهاش كبير ؟
كانت دوائر استعدادي للتصعيد الطليق في ذلك الوقت تامة ، وكنت أستند علي دعم لوقت الحاجة من بعض الأصدقاء في بعض الدوائر الإعلامية ، سري التذمر من نفس مبتورة إلي نفس مبتورة ، بين أولئك الذين يواجهون ، علي الدوام ، كلَّ المقاربات المذلة بالخضوع التام ، ويقفون ، علي الدوام ، علي حواف الآخرين انتظاراً للتمثيل المشرف ، ويتنحي الشرف جانباً لوجود ضعفي بين أمراضهم ، فواجه ، فجأة ، غرورها إلغائه ، وتحلل غضبها إلي بوادر خوف :
- مين حضرتك ، وعاوز مني إيه ؟
انحسر سؤالها عن صرخة حادة جلجلت في جوف المكان ، واستقطبت ذهني حالاً ، ونشط الظن الذي لابد له أن ينشط في مثل هذه الظروف ، لقد تجاوزت يقيني بألا امرأة جاءت معنا ، وظننت أنَّ أبي قد مات ، وانسحبت من المعركة مذعوراً ، أطارد ظني ، كان رجلاً علي بعد سلة من الياردات الرخامية من سرير أبي ، قد انزلق في الفجوة الشهيرة ، والأخيرة التي لابد له ، فضلاً عن الإهمال ، منها . كان الموت إذن ، يرابط أمام سرير أبي ، وقد أضاء بوضوح أكثر مما ينبغي ، فريسة ، وتشاءمت جداً .
تكرر هذا الحادث فيما بعد ، وبتصرفات أنثوية متشابهة ، ولم أتطير ، هذا يدفعني إلي الاعتقاد بوجود ارتباط محض بين التشاؤم ، وقوة لحظة الانزعاج الداخليِّ .
بفعل استحواذ ذلك التشاؤم المؤدي ، انتحيت بحازم جانباً ، وهمست له :
- والله أبويا ما يبيِّت فيها !
أحرزت علي الفور مباركته ، لقد تشاءم مثلي ، ولكن ذلك المأزق الشهير دفعه للتساؤل الخافت :
- بس الفلوس ؟ ، أنا كل اللي معايا ألف وخمسميت جنيه !
– تدبر !
استدرت فجأة ،فامتصني الخجل ، لقد رأيت الدكتورة طيزان مستغرقة في استكشاف أبي ، لقد زال فجأة قبحها ، وأصبحت ، بالنسبة للخيال ، قلب الجمال الذي يستدعي من جيوب الذاكرة القديمة ، مليحة ، الأخت التوأم لطيزان ، مليحة التي سقت ، بكلِّ سرور قلبها الغراب ، من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلي لأجلها ، روحي ربنا يجعل سوادي فـ شعرك ، وسقت أبا قردان من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلي لأجلها ، روحي ربنا يجعل بياضي فـ وشك ، وسقت النخلة من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلت لأجلها ، روحي ربنا يجعل طولي فـ شعرك ، وسقت الرمانة من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلت لأجلها ، روحي ربنا يجعل حماري فـ خدودك !
لقد أخطأت طيزان إحراز كل هذه الكنوز بطقس بسيط ، الجشع والأنانية ، وأحرزتها مليحة النقية بالحب ، طقس بسيط .
تركت الدكتورة الأخت التوأم لطيزان تواصل جمالها الطارئ ، لأفتش عن أحد يرشد ظلي إلي مكان للعلاج يتَّحد بكرامة عزيز ، تذوب خلاياه من تلقائها بشكل مروع ، مع اقترابي من منحني الشارع ، سمعت نظراتي تنمو بصوت مسموع علي لافتة الورم ، ونشطت عيناي للبحث عن لافتة أخري ، ربما كتبوا علي لحمها ، سداً لكلِّ الثغرات ، بحروف محفورة حفراً دقيقاً منخفضاً :
" إذا كانت لديك معرفة سابقة ، لا تدخل " .
فلم أجد .
لم أكن أطلب المستحيل ، أو الفينيق ، فقط الحد الأدني من وضع إنسانية الإنسان كزنبقة في البال .

(42)

وأنا في الطريق ِ إلي مستشفي راشد التخصصي ، دون سحابةٍ علي جسدي ، هربتُ من رغبة السائق الجليِّة في تبادل أطراف الكلمات إلي الهند .
لقد راجعت الذاكرة فوَجَدَتْ التعبيرَ عنها في سطحها حياة ُ المهايانا ، أو الزورق الكبير الذي سوف تضمر كلَّ الأعباء علي كاهله ، ويملأ كلِّ الفراغات ، أو ناجارجونا ، أو مؤسس عقيدة الفراغ ، التي يدور حول محور غامض نوعاً ما ، غير أنه داخل تقدير الكثيرين ، ليست الحقيقة النهائية سوي فراغ ، وهذا الطرح يعني في أبسط صوره ألا وجود لولادةٍ ولا لموت ، ومادام الأمر هكذا ، ومادامت النوايا الطيبة لا تكفي لأن الأمل يعمل . لماذا إذن كلُّ هذا الدوران في الفشل ؟ . وكلُّ هذه المحاولات العصبية للاحتفاظ بأبي علي الأرض لسلةٍ من الشهور لا أكثر ؟ ، وماذا لو تركناه يموت في سلام ؟ ، أو ربما بدقةٍ أكثر ، لو تركناه يبدأُ دورة تناسخه بأسرع ما يمكن مرضه ؟ . وسمعت ، فجأة ، وبوضوح قاتل ، صوتاً داخلياً يتردد في ذلك البهو السحيق من الزهور الذابلة :
- لابد من الدوران مع العجلة . اضطربت قليلاً عندما قال السائق بتهافت :
- مستشفي راشد .
ونفضتُ عني الإثم الذي التحم ، بلا مشروعيةٍ، بخاطري ، ثمَّ .. دخلت .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29/10/2012, 02:01 AM   #12
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(43)

أكَّد العم مرتضي ، موظف الاستقبال النهاريُّ ، أن دخول المستشفي تعبيرٌ مسوَّرٌ فقط علي المرضي المحوَّلين من أطبائها .
من دربٍ كان كالعذاب ، إلي دربٍ كان كالعذاب ، يدور بنا الفشل ، فيما نهبط في رائحة البالوعة .
أيها العم ، إنه مجرد بروتوكول ليس من التجديف كسر دوائره ، ليس تابوهاً وهرطقة ، فباشر تربية حيز نضع فيه نصف موته ، ثم تأتي بعدُ الحاجة إلي الطبيب ، وضبطت نموَّ تعاطفه ، وأدركت من خجله الزائد عن الحدِّ أنه ، مجرد موظف لا يستطيع أن يلمس شيئاً خارج البروتوكولات الشهيرة :
- رشح لي دكتور لو سمحت !
- الدكتور خلف !
وتحسباً لمراجعة الجدل مرة أخري ، دوَّن علي ورقة ، بسرعة أكثر مما ينبغي ، عنوان الطبيب ، وتليفون العيادة أيضاً ، ألقيتُ نظرة علي الورقة ، فأطلت مشكلة ، كانت الطريق إلي العيادة صاعدة ، لقد قدَّرتُ في ذلك الوقت ، أنَّ هشاشة طاقته سوف لا تصمد لنقله من مستشفي سوهاج ، إلي عيادة في الطابق الثالث ، ثم إلي مستشفي راشد كنقطة أخيرة ، هذا إذا خمن الطبيب عائداً من وراء دخوله في الأساس ، وسوف أدرك بعد ساعتين من ذلك الوقت ، أن قلقي كان كالمكيدة المضاعفة ، جعلني أقزم من قامة أبي الداخلية المخبأة في جيب قامته إلي مدي بعيد ، وأضخم بالعوائق الصغيرة إحساسي ، فلم تكن هناك مشكلة ، أو كانت هناك ، وكان الحلُّ بسيطاً ، وجعلني أبي أتأمل أسلحة وعتاداً ، قد تكون التفاصيل هنا مزعجة ، ولكنها ضرورية ، ولها ما بعدها .
أتي حازم بمقعدٍ من العيادة ، وتكاتف والقلائل ، وأجلسوا مصير أبي في رقةٍ عليه ، حملوه ، وارتفعوا ، كان سلم البناية ضيقاً ، لا يتسع أفقياً لشخصين ، فضلاً عن الكثيرين ، يحملون مقعداً ممتلئاً ، فاضطروا ، تكريماً للانسجام مع ذلك الوضع الخانق ، لحمله من أمامه ، وخلفه ، وكان الحرص علي اتزانه من أقوي الدوافع الحاثة علي الحذر ، وأساليب السلحفاة .
قافية مؤلمة ، لكنها كانت ، فيما بعد ، من أقوي الدلائل لديَّ علي ملائمة الأسلوب العلاجيِّ الذي اقترحه الدكتور خلف للحالة تماماً .
لقد نسي أبي حالته في التماثل للشفاء تدريجياً ، ببطء هذا صحيح ، لكن باطراد ، وتذكر ، قبل ظهيرة اليوم الثالث من أيام المنعطف السوهاجيِّ الأكثر حظاً بين منعطفات حياته ، هذه القافية بالتفصيل الركيك ، فشكل هذا لي موقفاً محرجاً ، لقد تساءل بلهجة من يروي حلماً ، بإيقاع ركيك ، يخشي ضغط الزمن ، كأنه لائق :
- أنا كنت قاعد علي كرسي ، فـ بكان ضيق وزحمة ؟
اقترفت سعادة ممتلئة ، ولفرط سعادتي بتقدمه الواضح ، وليس جمال السعادة الإفراط ، اقترفت حماقة ممتلئة ، وقلت كلاماً ينمُّ عن البعد الواحد ، عن ظنه المستدير ، خلال الحلم ، بإحرازه دخول الجنة ، وأنَّ الذين يحملونه الملائكة ، وهكذا أخلاط أسطورية ، تهافت الآخرون حول الضحك ، أبي ابتسم أيضاً ، وتحول فائضٌ من الابتسام إلي ضحكة قصيرة متعبة ، أصغيت إلي وجهه ، فسمعت تعبيرَ عتاب ، لا الوقت كان ، ولا كان المكان ، يتسعان لهكذا حماقة ، الآخرون أيضاً ، لقد نظروا إليَّ سراً بالتأكيد ، نظرتهم إلي مختلٍّ عقليِّ ، أو ماس كهربائيٍّ ، أو عقب سجارة ، أو فار السبتية .
أدركت أن صمتي كان أطولَ من أن أكسره ، لأقول كلاماً عن قناعة لا تقبل القسمة علي الكثيرين ، ولا يفهمونه .
أخلي المرضي ، ومرافقو المرضي ، المنتظرون في العيادة ، وجوههم من كلِّ تعبير سوي الرثاء لذلك المريض (السلطان) ، وسرت بينهم همهمة أصداف بعيدة ، وتنازلوا له جميعاً عن أدوارهم في تسامح شديد ، وهكذا مروءة ، تكاد تكون تناذر سكان سوهاج الأصليين ، يتألق في أدني بقعةٍ من جذور العتمة العائلية ، كما يتألق في جذور النور المتوسط ، فضلاً عن تألقه في الجذور الأكثر عمقاً في حوزة النور المفعم ، من العم مرتضي ، إلي الدكتور خلف ، إلي تاجر الأفيون .
هكذا ، في ذلك الوقت ، رتب ذهني قوة السلالة ، بالنسبة للمظهر الخارجيِّ علي الأقلِّ ، ولكنني الآن ، وقد ازددت برحيل أبي وعياً بإحساس العزيز قوم ٍ ذلّ ، أرجح أن يتصدر العم مرتضي في لائحة السلالة حيِّزاً طليعياً .
في غروب اليوم الخامس ، راجعت غرفته ، أحمل قربة من الدم وإرهاقي ، كان التعب يتمطي في أعضائي بشكل لائق ، وحنينٌ جارفٌ إلي النوم يستحوذ علي ذهني بتصرفات عصبية ، لعلَّ كواليس النوم تلتحق بفكرةٍ بيضاء :
- أهو الدم جالك ، رغم انك مش محتاج دم ، وشك هيبك منه الدم !
وتأملت تجاهلاً ، وجبلاً يهتز بانكساره الحاد ، وأنفاساً عصبية ، أدركت بغابةٍ من التجارب السابقة ما يوجد وراء الكواليس ، إن الحاجة إلي الأفيون ، ركلت ذهنه من الخلف ، فصار في مقدمة الجنون ، وتوقفت عند الجذور ، فقدَّرت أنه لابدَّ قد نسي حالته في التماثل للشفاء تماماً ، تماثله التام للشفاء بحماية مرضه طبعاً ، ولابدَّ أن حاجة ذهنه إلي الالتحاق بمطلقه الخاص ، والافتراضيِّ ، علي أجنحة المخدر ، تعقيبٌ علي زوال الغيبوبة تماماً .
وأصغيت لما يرده الخجل أن يقوله ، كان يظنُّ أننا مرهقون مالياً ، وأن أعباءنا ترهلت بما يكفي لتخشي ضغط الزمن ، وهذا ينطوي علي كثير من الحقيقة ، وفي القليل عوض ، لقد خسرنا بالأمس حقلاً من قصب السكر ، التحق بخزانة بعض الحاذقين بتربية النقود المؤجلة بنصف ثمنه ، وانحازت إلي خزانتنا العارية أيضاً خمسة آلاف من الجنيهات المشبوهة ، والرائجة أيضاً .
كان الزمان زمانه ، وشروخ آلامنا تشبهه ، ورغباته تجيد العثور علي مفاتيح ثقوبها في آذاننا حتي من خلال صمته ، وابتسمت :
- عاوز أفيون ؟!
ابتسم ، وتفتت انكساره الحاد إلي شكوك ، ظل الحرج باقياً ، لكنه صار خافتاً :
- هتكفوا كام ولا كام ؟!
يا أبي ، إننا نمرض ، ولا نموت ، وبقية السيف أنسل .
- حاضر .
كنت أدرك أن للأفيون ، بما ينطوي عليه من غابة الألكالويدات نبضٌ خافتٌ في التأثير علي مستوي السكر انخفاضاً ، أدرك أيضاً حاجته إلي ارتفاعه في دمه ليطرد غيبوبته تماماً ، ولكن انكساره الحاد ، وتقديري الذي لا مراء في صحته ، لقد انقشعت الغيبوبة تماماً . لأنني من المؤمنين بأنه لا يوجد شخصٌ خاصٌ لعمل خاص ، ذهبت مباشرة إلي موظف الاستقبال المسائيِّ :
- عاوز وزنة أفيون !
– لمين ؟
تساءل ببساطة ، كأنني أطلب من الخالة زينب ، راعية الغرفة ، أن تفرغ كيس جمع البول في مظانه :
- لابويا
تأمل ، أيها العم ركل الورود ، ونحي النصائح جانباً ، إنني في قلب التعاطف المتطلب .
أرشد ظلي إلي مقهي قريب ، واسم التاجر .
- إنني لا أكتب بالقلم ، وإنما أكتب بصدأ القلب ، فمعذرة إن ظهرت بعض الأوساخ علي السطور - . تخلَّي ظلي في عتمة الطريق إلي المقهي عني ، حتي ظلي ، ووصل الدرب ، ولم أجد التاجر ، وفي ما بدا أنه تنفيذٌ لوصيته ، أعطاني أحد الجالسين رقم تليفونه ، اتصلت به ، كان بمحاذاة طهطا في الطريق إلي سوهاج ، خبأت ظلي في تجاعيد الليل في انتظاره لنصف ساعة ، وفقاً لتقديره هو ، لكنني فوجئت به قبل مرور دقيقتين واقفاً أمامي ، يمدُّ لي ورقة من السلوفان مبتسماً ، لم أفهم تصرفه لسلة من الثواني علي أية حال ، لابد أن النوم كان قد دهمني برهافة بالغة ، انتبهت فجأة ، فنهضت وأخذتها ، لونها الغامق ، لمعتها الزيتية :
- عاوز كام يا حاج ؟
أيها العم ، قل كم تريد أن تضيف إلي خزانتك من خسائرنا السائلة ، لقد وجدت امتناني بصرف النظر عن هذا التيار من التعاطف :
- ميت جنيه !
كان في حوزتي ستون ، أعطيتها له ، وأعطيت له رقم الغرفة ، لكنه ، وكأنه عرفٌ سوهاجيٌّ دارج ، تنازل في كرم حقيقيٍّ عن دينه .
وأنا في طريق العودة بلا ظلي ، ألح علي بالي كمديةٍ في البال سؤالٌ غريب ، هل تلتحق رغبة هذا التاجر التي لا تقبل المد والجزر بتناول الأفيون ، مثل أبي ؟ ، وهل توقَّف هذا الرجل فوق جذور جمال زهرة الأفيون ، ذلك الجمال الذي لا يواجه إلغائه ، ويجد التعبير عنه في الاستحواذ علي حواس الكثيرين من الفرادي في الزحام العالميِّ ، هل ؟ .
ليس الأفضل ، ولكن له أسلوبه في الإدانة أيضاً .
عقب انسياب العصير الأسود في دمه المعار ، تعثر أبي في الطريق إلي عالمه الافتراضيِّ بدهشتي الشديدة لاكتراثه الشديد بالعناية بتعمية العيون القادمة عن لفافة السلوفان ، لقد حفر لها في قلب الوسادة عميقاً ، هذا تصرفٌ يناقض اللياقة تماماً يا أبي :
- أمال يودوا كل الفلوس اللي عياخدوها وين ؟!!
أشياء بسيطة ، نختصر بها مسافات الإحباط والقهر ، ثم وجه حديثه ، فجأة ، وجهة أخري ، وربما نظر إلي الأفق بأكمله من زاوية أخري ، وأضاف دون أن أسأله عن جودتها ، ولا يعنيني :
- أفيون بلدي ، متساويش خمسة جنيه !!
كان ، لا كان موته ، لا يبقي علي فراغات داخل اللزوجة السردية لانزعاجاته الداخلية أبداً ، أو لم أفهم علي أية حال .
ولا أفهم سر الرقم الخامس الذي انتشر في لهجته بقوة في أسابيعه الأخيرة .
قبل أسبوعين من موته الذي لا مراء فيه ، كان يركب خلف عبد الفتاح موتوسيكلاً مخالفاً بوضوح أكثر مما ينبغي ، فلا رخصة قيادة ، ولا رخصة مركبة ، ولا خوزة ، واستوقفهما أمين شرطة المرور ، فشل عبد الفتاح في تضليله ، فأصر علي اقتياد المركبة والقائد إلي مركز الشرطة ، فلجأ أبي بسرعة إلي التقليد الذي كان يجثم علي المصريين في ذلك الوقت ، في مثل هذه المواقف ، جثوم العادة ، لقد طعن يده في جيبه غاضباً ، وكان من الذين لا يجيدون احتجاز غضبهم خلف وجوههم ، فخرجت بورقة من فئة العشرة جنيهات ، وفي ما بدا أنه استضخام للرشوة ، امتلأ تذمره السري علي وجهه ، وهو يعطيها لأمين الشرطة قائلاً :
- خد خمسة وهات خمسة !
يا أبي ، لا تقلق علينا ، لقد تركت لنا الكثير .
تركت لنا بوابة الحبِّ مفتوحة بيننا ، والتي يعرف الشجر والحجر والقطط والكلاب والطيور والأطفال ، كيف يجدونها بين المتحابين .


(44)

حرصت بعد أن استقرت غيبوبة أبي فوق سرير الفحص أن أخلي حجرة الطبيب من الآخرين ، وأبقي معه وحدي ، نفس المشهد القديم يتكرر .
لم تكن كلمات الدكتور خلف بعد الفحص مشجعة ، وكان الانطباع هو الإيمان بالإطار كمعركة خاسرة ، لقد تفاقم الوضع بصورةٍ مزرية ، وتحول جسد أبي إلي مأوي لغابةٍ من الأمراض المؤدية ، وبدأ الحماس ينحسر ، وبدأ التفكير في العودة يداعب ذهني ، ولكن الأمل حطَّ بقربي من جديد عندما أخذ الدكتور خلف يشرح لي أسلوب العمل وهو يكتب خطاب التحويل إلي المستشفي مشدداً علي ضرورة توفير سلة من قرب الدم علي عجل، وأطلت مشكلةٌ ممتلئة ، كان اليوم الذي انطوي علي تبرع حازم الأخير بدمه ليس بعيداً ، بما يسمح بفراغ جديد بين كثافة دمه ، كان أيضاً التبرع بالدم من المحظورات الأكيدة بالنسبة إلي مريض ٍ بالربو مثلي ، وإن كنت قد انتهكت ذلك الحظر كثيراً ، وكان الباقون من إخوتي أقلَّ من السنِّ الصالحة للتبرع بالدم ، والمعايرة طبيِّاً ، وكان من المحظورات الشخصية أن نرضي بمقاربات الآخرين للمساعدة ، متاهةٌ صلبةٌ .
أسكتُّ مخاوفي ونهضت لأبدأ العمل ، وإذا بي وجهاً لوجهٍ مع أحد الدوميين ، تنبهت متأخراً إلي الباب المفتوح ، وتنبهت أيضاً إلي اطلاع ذلك الرجل علي كلِّ شئ .
ربما كان كلام الطبيب غير المحرض علي التفاؤل ، محرضاً لذلك السخيف علي الصراخ في طريق السيارة إلي المستشفي ، وبمحاذاة مقام العارف بالله الشيخ عارف :
– الدوام لله !
شعرت بانزعاجاتي الداخلية تتفاقم ، واستدرت ، ونظرت إلي قرديَّته في تحفز حقيقي ، يا جرذ ، يا بقة ، يا رائحة العفن ، لو خسرنا حضورك لخسرنا مشبوها ، وددت أن أفتته قبراً طارئاً قبراً طارئاً ، ربما لحساسيتي المركزة حيال سخافات الآخرين ، وكدت أن أنفجر فيه انفجاراً طليقا ، غير أني عانيت امتصاص غضبي سريعاً ، أو وجهته وجهةً أخري بدقةٍ أكثر ، نحو صروف الزمن المتواطئ ، وغرست عينيَّ الدامعتين .. في لحم النهار السوهاجيِّ أرتعش ، كان هناك الكثير علي المحك .


(45)

بعد أن أودعت خزينة المستشفي ألف جنيه رصيداً ، وبعد أن أتمت غيبوبةُ أبي استقرارها في السرير ، توجهت إلي بنك الدم الإقليميِّ مباشرة ، لم أنتبه حتي ذلك الوقت إلي أنني لم أنم منذ ثلاثين ساعة ، ربما كان الخطر الذي يتمحور حول موت أبي ومرحلة ما بعد موته حتي وصولي ، ثم حول حياته حتي تلك اللحظة ، ولم أجد قربةً دم ٍ واحدةً من فصيلة (ب) موجب ، وبدأت تتجلي لي حقيقة كنت أهملها فيما سبق ، أهمية التبرع بالدم ، وامتدت نقمتي علي إدارة البنك ، بل إدارة البلاد التي لا تجعل التبرع بالدم شرطاً لحصول الممكنين علي أي خدمة حكومية .
وكان عليَّ العودة إلي مستشفي سوهاج .
آه ، مع ذلك ، سوف تتخثرين يا طرق الدم .

(46)

لم تكن كوردةٍ في البال وأنا في الطريق المجنَّح إلي مستشفي سوهاج المسائيِّ ، حقيقة أنني كنت في الطريق إلي غابةٍ من عناقيد الماس الأنثويِّ المركَّز ، إلي نخلةً في الحقل أطول نخلة ٍ ، وأجمل ما في غابة الورد من ورد ، إلي الدكتورة حبيبة .
بمجرد أن رأيتها تحلَّل قلقي إلي سلام ٍ قليل ، وشعرت مباشرة بشئٍّ من الشعر يجلجل حول القلب .
أشتبه الآن أنني في ذلك الوقت كنت أحاول الفرار من قلقي بقذفه فوق رءوس الكلمات ، أشتبه أيضاً أنني كنت أستعير بتصرفاتٍ مرتفعة ، أًصابع الشاعر الذي يحط علي الدوام بقرب القلب ، نزار قباني .
وكان شاهد ذلك المنعطف المريب ، سلة من الأبيات السهلة ولدت بسهولةٍ أدهشتني علي مقهي قريب ، جلست عليه في انتظار أن يتم سريولوجي الدم امتلائه ، لأقاوم أيضاً حاجتي إلي النوم ببعض الكافايين ، واختبأت مسودتها في ذاكرتي ، وسوف تبقي دون تعديل ، ذلك أجمل ، لا أريد أن أشوِّه قوة اللحظة بإحساس لا يمتُّ لها . ثمَّ لا شئ يعيد للحظة الهاربة الحرارة المجردة :
يا مسترقِّي منكَ كنْ معتقي : أرْهقْتني ، أفديك من مرهق ِ
ياغيمة الماس ِ علي المنحني : ومطلق ٍ حلَّقَ في مطلق ِ
يا إبنة النور وأحلي الذي : في غابة الزنبق ِ من زنبق ِ
يا موجة العطر ِ وطغيانها : اللهُ في محطَّم ِ الزورق ِ
أبيات مشتتة حيث يرتعش كلُّ بيتٍ برعشةٍ خاصة ، كأنما نظمت منجمة علي فترات متباعدة وادخرتها لها ، وأشتبه أنها تشبهني في ذلك الوقت تماماً ، كنت بفعل استحواذ الإجهاد أحلل الصورة تحليلاً منجماً .
جسدي أيضاً كنت أحسه منجماً ، جمعت أعضائه علي فترات متباعدة ، واجتمعت حديثاً ، أيَّاً كان الأمر .
لقد أحببت في ذلك الوقت ، لبعض الوقت ، د. حبيبة .

(47)

تبخر الخطر قليلاً ، أمام انفجار العقاقير ، وقطرات الدم الأولي في أوردة أبي ، وازداد نبضه خشونة ، ونبضي ، أصبح القلق خافتاً لكنه ظلَّ باقياً ، ولهذا كانت عضلة النوم قوية بما يكفي لعصيانه ، وترهل إرهاقي بوضوح أكثر مما ينبغي ، ففقدت بوصلتي الزمنية ليلتحق نومي بفكرة سوداء غامضة .
فسرعان ما انحسر النوم عن صرخات شريرة ، ونعيق غربان مشئومة ، لقد سقطت امرأة في الفجوة التي لابدَّ لها منها ، وتفادياً للقلق ومنعطفاته التي تؤدي علي الدوام إلي نقاط لا تبتكر الوردة ، اشتعلت عزيمتي علي إفساح سلة من عوائقه الشهيرة في طرق النوم بطقس بسيط ، جثم فيما بعد عليََّ جثوم الضرورة .
ذهبت إلي صيدلية المستشفي ، وسألت الصيدليَّ بعض الأقراص المنومة ، بمجرد أن تنبه إلي وحدة سياقنا ، وشوك الصيدلة المشترك ، ردني غانماً سقوطيَ القادم .
ابتلعت خمسة أقراص دفعة واحدة ، ورحبت بي بعد أقل من نصف الساعة أساليب نومي القادمة .
تنبهت في الصباح التالي إلي انطباعات الحنق تمتصني ، لقد دهمني النوم وأنا لا أزال علي مشارف جزيرة العطر المنبعث من حبيبة ، كان خطأي الذي لابدَّ من تلافيه في المرات القادمة ، ككل أخطاء البدايات بساطة ، لقد سلكت إليها الشوارع التقليدية الشهيرة ، الخطوبة ، ثم السفر إلي الخليج ، ثم خلافي مع الكفيل ، ثم .. تنبهت .
وطنت نفسي علي اغتصابها مباشرة في بنك الدم ، في حلم اليقظة القادم ، ثم نسيت تماماً ضغط عطرها الهادئ ، كأنه بلا قيمة ، أو كأنني ، وهذا هو الأرجح ، لقد أدركت ألا رجلاً يتسع لحبيبة .
تنبهت في الصباح التالي أيضاً ، إلي أضواء البشر الأولي تسطع علي وجه حازم ، لقد بدأت خيمتنا تستعيد أوتادها بوتيرة مرضية ، وهدأ قلب العاصفة قليلاً ، هذا ألهب حماسي للركض علي طرق الدم ، لاستعارة المزيد من قطراته المؤدية ، فارتطمت بهديةٍ لا تقوم بالذهب ، أو بحمر النعم في تراث الرمل .
عندما يصبح الدم هدية !
لقد تبرع طبيبان حديثا التخرج لأبي ، بقربتين من الدم ، فشكراً لهذين النقيين .
لقد تخثرت الهدية ، ويبقي المعروف سائلاً .
وشكراً للزنبقة في منتصف الأطراف المتهادية .
كان ذلك الصباح شديد الفراشات آخر العهد بعطرها ، لقد ازددت بكرمها الإضافيِّ وعياً بإحساس المتسول الثقيل ، فاختبرت طرقاً نائمة .
عدت ، لأرتطم بغابةٍ من الزائرين ، وعراء الفضول ، يتناثرون حول حواف أبي المتماثلة .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29/10/2012, 02:02 AM   #13
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(48)

دقَّ العم عبد الباسط غروب نهارنا الثاني في المستشفي ، متضمناً في رماده ، لقد ترك في الدومة ملامح وجهه السابقة .
كنت أدرك أن عضلة العوز القوية ، فضلاً عن عضلة مرضه ، تعاونتا في انسجام مدبر علي عجزه عن اقتحام سياج سوهاج الجنوبيِّ معنا منذ اللحظات الأولي .
توقف علي رأس السرير الذي يسكنه الورم مأخوذاً ، كان أبي لائقاً إلي حد ما ، وعاجزاً عن إقامة بنايات الكلام ، فقط تخطيطها ، ثم يفسر الآخرون دوائرها الناقصة ، واشتعلَت بينهما لغة الصمت الثالثة .
كان ألمه جلياً ، ليس الألم الصحيُّ الذي يمكن تفسيره بالممر الصادق نحو اكتشاف الذات ، بل الألم الذي يستقطب إدراك الإنسان ووعيه تماماً ، دعوته للجلوس فجلس ، واستأنف علي غير العادة صمته ، حاولت أن أكسر قشرة الصمت قبل أن يصبح الدوران في الصمت عرفاً دارجاً ، ظانَّاً بأني إذا أسلمته إلي الكلام ، سوف اضطر فيما بعد إلي الاستعانة بالطبيب ، ليصدر أمراً بطرد أعشاشها من الحجرة ، وسرعان ما واجه ظني إلغائه ، لا أدري كيف كانت تسير الأمور ، لكنها تفشل ، فامتنعت عن لمس الكلام .
ظلَّ شارداً ، يصغي لماضيه في ظلِّ جسده ، وظلِّ الجسد الممدد علي بعد سلة من الياردات الهوائية من قلبه ، والمهدد بالموت المرابط في جيوبه تهديداً واضحاً .
دقَّت سوهاج مساءها الخاص ، الخاص جداً ، فنبهته إلي ندرة وسائل المواصلات إلي نجع حمادي في وقت متأخر من الليل ، فأصرَّ علي المبيت ، واستطاع حازم أن يرتب له ليلة في الشرفة الباردة .
أتذكر أن سوهاج في ذلك اليوم تحديداً كانت تحتفل بعيدها القوميِّ ، فصارت ، فجأة ، سماءها ، بالنسبة لقلوبنا ، جزيرة حقيقة من الضوء الملون ، والمصوِّت أيضاً ، وانكمش الليل تماماً ، وزفَّ لنا زائرٌ بشري ممتلئة :
- جايبين شعبان عبد الرحيم ، أنا رايح نتفرج !
إحدي سخافات الآخرين الصلبة ، ولكن ليس بالقدر الذي يمكن أن يباشر تربية الحقد في قلب مفعم ، وعادل ، أو حتي مجرد الغضب ، كنت أدرك تماماً أننا لو تبادلنا المقاعد ، ولو كان غير السيد شعبان عبد الرحيم بالطبع ، لاتَّحد تصرفي بتصرفه السخيف .
إن ظلي يتخلي عني في العتمة ، فمن الحماقة أن أنتظر من الآخرين دعماً تام الدوائر ، لهم آلامهم أيضاً .
هذا قادني إلي ذكري قريبة الشبه ، وإقليمية ، وسحيقة ، تجد التعبير عنها في رسالة بعث بها أحد عمال المقابر الفرعونية إلي أمه ، يشكو لها فيها من سخافة حارس المقبرة ، كان قد استودعه حذائه ، وسافر إلي الدلتا لحضور مهرجان " تجديد شباب الفرعون رمسيس الثاني" ، يقول :
" سلمني الخفين ، وقال ، احفظهما لي ، وبحق بتاح ، لقد انسل بالليل إلي الشمال ، ما معني ذهابه للشمال من أجل اليوبيل ؟ " .
هناك بالتأكيد لذهابه معني ، يعرف الحارس فقط ، عندما طارد ذلك المعني ، ما يدور وراء كواليسه ، ولكن العامل الرقيق ، كان ينظر إلي ذهابه من زاويته الخاصة ، ويفكر فيه علي ضوء اهتماماته الشخصية .
وإن تناسل الجنوبيين المعاصرين في شرخ الذهاب إلي يوبيلات الدلتا الصوفية ، تكريماً لذكري ميلاد السيد أحمد البدوي ، وميلاد السيد إبراهيم الدسوقي ، وأساليبهم في الحديث بعد العودة عن ألوان الطعام هناك ، وألوان البهجة ، وألوان النساء ، كجزء رئيس في المعادلة ، وجمالهن الأخاذ ، بالنسبة لنساء الجنوب طبعاً ، وعطورهنَّ الجارحة ، وسهولتهنَّ ، وهي لا تعني بالضرورة انحلالهنَّ بقدر ما تعني ثقافتهنَّ المنفتحة علي تبادل أطراف الحديث مع الغرباء ببساطة ، يدفعني إلي الظنِّ المستدير بأن البواعث وراء الكواليس واحدة .
أصغيت ، فجأة ، بعد زوال الزائر إلي الاهتزازات العصبية لصدر العم عبد الباسط ، المتكوم في زاوية الشرفة بإهمال ، وتركت مع سبق الإصرار عينيه تابعان عطائهما الصامت في قلب دوائر الصخب .
ربما لتعقيدات ذاتي الصلبة ، وربما لخبرتي بمسارات القوي الطبيعية التي لا يمكن ضغطها في إطار النبوءة ، وفقاً لأيِّ قانون ، أصبحت لا أستجيب لأيِّ وثبة طبيعية تحرض علي الدهشة ، لذلك لم تجد دهشتي التعبير عنها في أن يكون آخر نعشٍ سار أبي ، أو بدقة أكثر ، حاول السير وراءه ، كان نعش العم عبد الباسط ، اكتمل ذلك المشهد قبل رحيله بسلة من أسابيع الغربان تقريباً .
كان وداعاً مبتوراً ، يرمم نقصه يستطيع تحليل رباطه حوله ، ليعزل بوضوح رنين خطواته .
لقد واجهت خطواته إخفاقها في الاتحاد بخطوات المهرولين خلف النعش ، وطرده دمه الشحيح من الوداع إلي أقرب مقعد التقطه مرضه ، وتزاحمت النساء السائرات خلف المشيعين من الرجال ، كما جرت العادة ، حول حرجه ، فمه الذي يتصيد الهواء من أقبية بعيدة ، كانت أمي متضمنة فيهنَّ ، لكنها خبأت دموعها المركبة بعيداً عن متناول انهياره ، وقلبها ، التقطت عيناه الهائمتين ، فجأة ، وجه عمتي ، فقال لها بصوت يفرز الهواء ، كأنه يخرج من نبع جاف :
- روحي يا عدلية ، متلميش الناس عليّا !
وربما لو نظر في تلك اللحظة خارج ذاته ، لرأي غابة من الأشجار المثمرة .
كان موت العم عبد الباسط ، النار الأخيرة فوق سطوح خسائره .


(49)

ليس هناك مجتمعٌ قبليٌّ سليمٌ في تفاعله ، أو ديني ، حقيقة لا تحتاج إلي الوقائعية للحكم علي امتلائها ، وبفضل هذه الحقيقة ، كانت المثانة البلاستيكية علي الأرض ، وكان الوريد الممتد منها إلي مجري البول ، وما ينطوي عليه من البول والدم المتضمن فيه ، يشكلان لأبي ضيقاً كلما زاره زائرٌ يشتبه في براءة نيَّته ، يتوقف حجم الاشتباه عادةً علي حجم التنافر بين الائتلافات كافة .
لقد باشر الذين تراثهم أقدمُ من تراثنا بسلال ٍ من العقود ، تربية الكثير من الخصومات ، وواظبَ المؤجلون علي حراسة جذور الإخلاص لها ، بل ولحالة الإيمان بها ، وولجوا شوكها دون روية ، ودون رؤيةٍ أيضاً ، وهذا ممرٌّ صادقٌ لطرح الشاعر القبليِّ القديم :
ساق العداوة َ آباءٌ لنا سلفوا ، فلن تبيدَ ، وللآباء أبناء .
وهي تقاطعاتٌ إلي مدي بعيد ، أو تداخلاتٌ معوجة ٌ إلي مدي أبعد ، في المطامح البسيطة ، والايدولوجيات الفقيرة فقط ، كأن ينحاز موقدٌ عائليٌّ إلي مرشح في انتخابات ما كان يسمي بمجلس الشعب ، وينحاز موقد عائليٌّ قريب النسب إلي خصمه مثلاً ، أمرٌ شديد البديهية والمشروعية والابتذال ، ولكلِّ امرئ ٍ أن يختار خرزته من العقد بحرية تامة ، هذا في المجتمعات التي ارتفعت عن أحقادها القبلية طبعاً .
قد تكون الكراهية أحياناً مبررة .. من الكامل فينا ؟ .
وإن أنس لا أنس ذلك الذعر ، وذلك الترقب ، الذين كان يسيطران علي الأفق الدوميِّ بأكمله ، وعلي مدي غابةٍ من الأيام المؤدية إلي يوم التصويت ، وغابةٍ من الأيام ، الأكثر بشاعة ً ، بعده ، فالجنازة علي الدوام حارة ، والميت علي الدوام كلبان من كلاب الحكومة ، والحيز الناجم علي الدوام متوتر .
ورغم ما بين المواقد العائلية من نسب ، أو لعله لما بينها من نسب ، فقد تناهضت العداء ، وهناك علي الدوام أولئك الذين ينشطون ، أو يتظاهرون بالنشاط في أوقات الصراع بين الواقد العائلية المختلفة .
هناك أيضا ، الذين يتَّخذون من تربية الصراع بين العائلات مساراً إضافياً ، وإيماءة ً ضرورية ، تلفت الآخرين بما يشبه الطعن إلي وجودهم ، وتلك الآلية الشائعة فتحت باباً بحجم الدومة ، ولجه الكثيرون من بعيدي النسب من البلاد المجاورة ، فانخرطوا في لهجاتنا ، وقد أضاءت نار الفريسة أسماءهم ، وأمسكوا بجذر الدومة تماماً ، وأصبح في مقدورهم أن يشعلوا أفقها في أيِّ وقتٍ ، وكلِّ وقتٍ ، ويطفئوه أيضاً .
ينسي الجميع علي الدوام تاريخهم المشترك تكريماً لمحتال ٍ يتبني إيقاظ الفتنة بين المواقد كافة ليرتفع كنخلةٍ من خلال وشائج صافية من الانحطاط الفكريِّ ، فما إن ينفرط عقد غابةٍ من المتشاجرين في الجيب الشرقي من الدومة ، حتي يتهيَّأ عقدٌ جديد من الذين يباشرون تربية المعركة في الجيب الغربي ، وتنتشر العدوي كفضيحة .
تبدأ المعركة عادة صغيرة ً يمكن السيطرة عليها ، ثم تترهل سريعاً ، ويصبح العنفُ تعبيراً غير محميٍّ تماماً ، ويصبح اليوم خواناً للحزن ، ويصبح الغد حطب ، وتكون الآثار الناجمة عادة ً متطلبة ، وربما أنفقت الدومة أعواماً قبل ذوبانها التام في الأعماق الخاملة .
كنت أدرك تماماً ، أن أسباب المعركة منجَّمة ٌ، لا طارئة ، جُمِّعت علي فتراتٍ متباعدةٍ ، واجتمعت فجأة . تصفية حسابات لا أكثر ، ولقد فطنت إلي هذه الحقيقة امرأة من الدومة ، سألتها عن أسباب معركة ، كانت تدور رحاها في الجيب البحري ، فأجابتني :
- ولا حاجة ، كل واحد عايز يطهر ولده فـ عرس غيره !
لهذا ، ولغيره .
كان أبي كلما دهمنا زائرٌ يتّهم بالسوء نيته ، أشار من طرف خفيٍّ ، إليَّ ، أو إلي حازم ، فنبادر إلي إخفاءها تحت السرير بأساليب ركيكة ، وتحت نظرات الزائر ، وتدبُّ في جسده فجأة ، قوة أسطورية لست أدري كيف ترتجل مثلها أعضاءه التي تتعذب بفعل استحواذ الورم الشامل ، ولا كيف يتزن اتجاهها ، يبدو أنه كان يشحنها بحيز داخليٍّ ، ويحيطها بالتوترات ، فيتحقق وجودها ، وينسحب المرض فجأة ، وتختفي فجأة صعوبات التنفس بشكل جيد ، وينتقل بالحوار في أزقة عالقة بمنابع خبزنا ، السماد وقصب السكر وبنك الائتمان الزراعي وشركة السكر ، ويكون الثمن علي الدوام باهظاً ، لقد كنت أكتشف عقب جلاء الزائر ، أو الزائرين ، أو الزائرين ، أنَّ أبي خلال هذه الدقائق قد حسم الكثير من قوته الحقيقية .

(50)

لا يقبل الموتُ القسمة علي اثنين ، ولا يقبل المدَّ والجزر ، ولا يقبل إلغائه ، بديهيات لا تحتاج ، حتي الآن ، إلي الوقائعية للحكم علي ابتذالها ، ولكنه ، والإحساس القويَّ النبض به أيضاً ، ينفيان عن النفوس أحطَّ طباعها ، ويستقطبان إلي مركزها أعلي نزعاتها الإنسانية رقة وجمالاً ، أو هكذا أظنُّ .
لقد تصدر البحث عن جراحي لائحة اهتمامات عصام ، عقب عودته مباشرة من رحلته العلاجية الأولي إلي معهد الأورام ، وضبطني ، فجأة ، علي حافة العزلة ، وبلا مقدمات جديرة ، صدمني ، فجأة ، صدمة ميسرة ، ولها ما بعدها ، كأنها الهدف الوحيد من الهجوم علي أطراف عزلتي ، قال جاداً :
- محمد ، إنتا لازم تكشف علي نفسك مقدم ، إنتا عندك النهتة زيي ، ووشك ما عاجبنيش ، ليكون عندك صرطان !!
هكذا مباشرة ، قافية معقدة ، وتأملت ببطء ، لكن بوضوح ، وراء الشوك ليلكة في الظلِّ .
كان يرغب في رفيق للطريق إلي مجهوله القادم .
نوع خاص من الحبِّ الرحب ، أو الذعر الرحب . يا عصام ، هل فوق موت ؟ ، جرح كونيٌّ يتناسل في دمه كلُّ الأحياء ، فتعهد ثباتك ، ولا مبالاتك :
– والله يمكن يا عصام ، مين عارف ؟!
علمت فيما بعد أنه قال الذي قال لي لصديقنا جعفر ، فكان تعقيبه جارحاً .
ربما لنقائه الشديد ، لم يفطن إلي الشوفان أمام النافذة ، يحجب الجبال البعيدة ، لقد نوَّه له المسكين عن قلبه المزدحم بحبه لا أكثر .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29/10/2012, 02:03 AM   #14
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(51)

استأنف أبي أوتاده الأخيرة كاملة قبل انحسار النور عن رماد اليوم الرابع ، بل استأنف كمال روحه المتهكمة ، وظلال أدواته في إبداع لسع الآخرين بالسخرية تحت درع ثقيل من النوايا الطيبة .
كان خلقاً ، خلقاً حقيقياً ، كنت شاهداً عليه .
من يري الخالة زينب للمرة الأولي ، سوف يجدها تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن الغجر ، ومن يسمع صوتها في أيِّ وقت سوف يجده تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن موسيقي الغجر ، ولكن من يسترخي فوق الطبقات المتراكمة في أعماقها المحتجزة ، سوف يجد تعريفاً للنبع الشهير من المشاعر الصحية بشكل متحيز .
قامتها ، تحمل بالتأكيد الزائد عن الحد ، سفر أحزان جداتها الممتد من رقم الطبيعة الصعب ، ذلك الصفر المختلف عليه ، لكنه رقمٌ لا يمكن تجاوزه وفقاً لأيِّ قناعة ، وكلِّ قناعة .
سلالة لا تواجه إلغائها .
ملامح وجهها الذكورية مرآة متطرفة لأحزان الخصيان البعيدة .
كأنها حدثت سهواً .
هي أيضاً .
كانت احتكاكاتها الأولي بنا تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكارها السابقة عن أساليب البدو في المعيشة ، وكانت بحماية سحن ، وأزياء الكثيرين من الزائرين معذورة ، فلقد كانت سحن الكثيرين الارتجالية صالحة فقط ، لتكون حكراً علي أسماء بعينها ، مثل ، حجر ، وجحرز ، ومضرط الحجارة ، وتأبط شراً ، والسموءل ، ولمعي .
لم تكن تدرك لبساطتها ، ربما ، وربما لتناقضاتها الداخلية الحادة ، أو لألفة الإطار ، وهذا هو الأكثر إقناعاً ، ذلك الفارق الرحب ، بين مريض ثانويٍّ يجد التعبير عن تماثله للشفاء في سلة من الإبر ، وسلة من الأقراص ، والأقماع والأشربة ، ثم يعود ، بعد يوم أو يومين ، إلي موقده العائليِّ ليتابع بقائه ، وبين مريض خاص لمرض خاص ، يلتحق وجه القبر المكعب بأفكاره السوداء صباح مساء ، وإن تظاهر بالاستهانة .
كانت تعاليمها الزائدة عن الحدِّ ، عن ضرورة المحافظة علي نظافة الغرفة والحمام والملاءات ، بل حراسة نظافتها ، وضرورة دعوتها قبل امتلاء المثانة البلاستيكية لتفريغها ، أكثر من كافيةٍ لجعل انخراطنا في الضجر يعمل .
هذا قبل أن يستأنف أبي أوتاده ، واستأنف أوتاده ، فتوقفت ، فجأة ، عن العطاء ، وبدأت بالأخذ .
تداخل أبي مع أولي سوناتات وصاياها الجارحة لمساء اليوم الرابع ، وتساءل في هدوء ، وغيمة علي جسده :
- إنتي من الصلعا ؟!
لملمت أنا ، ولملم حازم ، أكياس ضحكاتنا العصبية ، ولذنا بالفرار من المربع الآمن ، نتعثر في خجلنا ، يلاحقنا صوت الفريسة السهلة ، تفسر له باكتراث زائد عن الحد موضع الضاحية التي سقط رأسها في حفرةٍ من حفرها .
كانت الخالة لا تدرك المسار الصحيح لسؤاله .
لقد زهد في جوارنا ، وغابة من الذكريات تشكل لنا تاريخاً مشتركا ، واستوطنوا الصلعا ، علي مشارف سوهاج الجنوبية ، إخوانٌ لنا من الحلب ، بعد أن أنفقوا علي هامش الأجنحة العائلية المتصارعة ، وقلبي ، غابة من الأعوام المجيدة ، كانوا خلالها جزءاً أساسياً من معادلة الدومة الأهلية ، لا يواجه مناهضته العداء ما دام الحياد باقياً ، يخفت الحياد أحياناً ، فيناصرون موقداً في صراعه مع موقد ، فيصبحون ، بالنسبة لهامشيتهم علي الأقل ، بؤرة الانتقام ، وكان مجرد التلويح بنذر المعركة يكفي أحياناً لجعل انخراطهم في جوارنا يتوقف .
قومية انفصالية ككلِّ قومية انفصالية ، لا يعيشون أبداً علي الحافة كحافة الغجر الشهيرة ، ولكنهم أيضاً ، يرتبون علي الدوام لقوميتهم العيش في الجيتو ، لا لحماية قناعةٍ ما من المدِّ والجزر شأن اليهود ، بل خرزة من العقد استراحوا لها لا أكثر ، هذا جعلهم تدريجياً ، وبشكل منظم ، وفي ما يشبه العرف الدارج ، يكتسبون تعابير الجيتو الخاصة ، فسلط الآخرون عليهم تعبيراً عن تعابير الجيتو التي لا تقيم وزناً للكثير من التابوهات الجنوبية الشهيرة ، نظرة عنصرية ، لا تسلم من الشوفينية ، حيث توقف الوقت وعبَرَ الأساليب ، وفي ما يبدو أنه اندفاعٌ خلف الاحتجاج ، أو النكاية ، واظبوا من جانبهم علي مواصلة حراسة جذور الإخلاص لعاداتهم الموروثة جيلاً فجيلاً .
لأن الإسراف في الالتفاف حول عادة واحدة يكفي لجعل انخراطنا في الدهشة حيالها ينهار ، لهذا ليس من محرضات الدهشة علي الإطلاق التفاف الحلب حول عدم الانتماء لأرض أياً كان ثباتها ، خنجر معلق في ذاكرة مجتمعهم العامة ، حتي يمكن التأكيد الزائد عن الحد بأنهم جذور تعيش بغير أرض ، ولكن من يراقب نموَّ هجراتهم ليس من الصعب أن يلمس حقيقة أنهم يحتفظون علي الدوام في جيوب هجراتهم ، بغابة من خطوط الرجعة ، هذا يدفعني إلي الإشتباه في موجة بعيدة تسلم جذورهم إلي لبنان ، فما أشبه الحلب باللبنانيين ، حيث يتوفر الاستعداد الوافر للترحال تحت أيِّ قافية ، وكلِّ قافية ، بل الترحال لمجرد الترحال أحياناً .
ولكن القلائل .. يتهمون موجة بعيدة ، حملت فوق ماءها الآثم جذورهم القلقة من مدينة حلب السورية إلي مواقدنا .
وذكري بعيدة ، ونشاطهم المركز في تجارة الأقمشة ، والفنان صباح فخري ، تدفعني إلي الإنحياز بشكل مؤقت إلي هذا التقدير الارتجاليِّ ، لكن الممتلئ ، انتشار الحنين إلي سوريا في لهجاتهم أيضاً .
حتي كتابة هذه السطور ، لا يزال العم عبد الحميد ، أشهر بائعي القماش الجائلين في الدومة ، يزين بضاعته ، ويعلن في الوقت نفسه وفادته ، بالنداء الحيِّ المنغم :
- حريـ يــ يـر سوريا ، بضايـ يـ يـع سوريا !
ليس الموضوع في إطاره بالتأكيد ، وليست صناعة الأقمشة الحريرية محتجزة في سوريا ، لابدَّ أن هذا النداء المسنَّ تعبيرٌ عن ذكري غامضة ، ومتوارثة .
من تعابير الجيتو الحلبيِّ ، في رأيي الخاص طبعاً ، زواج العم عبد الحميد من امرأتين ، تتقاسمان منذ طفولتي رجولته ، وحتي كتابة هذا السطر ، وتتقاسمان اسماً واحداً أيضاً ، فاطمة ، فهل يقدم علي هكذا جنون سوي العم عبد الحميد ؟.
ومن تعابير الدومة الخاصة، أنَّ نساءها تواطئن علي تعريف زائد عن الحد للرجل ، أو عبد الحميد جوز فاطنات ، لقد جعلن من المرأتين غابة من النساء .
وتضخيم الأشياء يكاد يكون تقليداً دومياً شهيراً ، وهذا يقودني إلي ..
ذكري بعيدة .
كان العم "علي" بائعاً متجولاً للكيروسين ، أو الغاز في لهجاتنا ، أسترخي ليلة فوق أكبر أخطائه علي الإطلاق ، فوجد حماره تعريفاً لطريق الدومة ، دون أن تكون لديه أدني فكره عن لقبه الذي سوف يلتحق باسمه بقية أيامه ، لقد نشط ، تحت ضغط مؤخرته الضخمة ، ذلك التقليد الدوميُّ في العثور علي السخرية حتي في الظلال الصلبة ، ودون مراعاة للياقة ، أو الذوق ، راقبوا ، فجأة ، وبشكل جماعيٍّ ، نموَّ انتباههم إلي العلاقة اللغوية بين مؤخرته ونشاطه ، الغاز ، فضربت حواسهم عاصفة من المرح الداخليِّ ، وصاحوا جميعاً ، رجالاً ، وأطفالاً ، وشباباً ، خلف الرجل :
- علي أبو .... ، بياع الغاز !
أحصي الرجل فرديته ، وجمعهم ، فأسكت غضبه مرغماً ، ومضي بعربته صامتاً وازدادوا بصمته وعياً بإحساس المنتصر ، واتسعت المطاردة تدريجياً ، وتكاثر الدوميون حول حوافه ، علي مشارف الدومة توقفوا ضاحكين ، وتابع الرجل هروبه حتي تجاوز " كوبري حماد " ، وهناك توقف ، ونظر إلي بيوت الدومة ، وانفجر صائحاً :
- إتفووووووووووه عليك يا دومة ، يا بلد الغجر يا ولاد الكلب ، يا غوازي ، يا جعانين ، إتفوووووه !!
كان بصاقه الذي لا يصل ، وكان صدي صوته الهستيري المحتقن ، الذي يندمج مع ضحكات مطارديه العصبية ، آخر العهد بمؤخرته .كانت العمتان " فاطمة " ، تركبان الحمار فوق القماش معاً ، واحدة خلف الأخري في ترتيب لا يختلّْ ، بينما يسير العم عبد الحميد أمامه برقة عذراء ، ممسكاً برقبته ، كأيِّ ، جنتلمان حقيقي ، وأن تركب المرأة حماراً ، بالنسبة للدوميين ، انحلالٌ يفتت عفتها إلي شكوك ، وهو ، بالنسبة للحلب ، قلب العفة في إطاره ، بل من أكثر تعبيرات الجيتو الحلبيِّ شيوعاً .
ليسوا الأسوأ ، لكن لهم أساليبهم .
لهجاتهم أيضاً ..
ربما لعشوائية تنقلاتهم ، وكثرتها ، وحالة الإيمان بالجيتو كضرورة ، وخطوط الرجعة النشطة ، لا يستطيعون علي الإطلاق إخضاع ألسنتهم للهجة واحدة ، ويظلُّ علي الدوام أثر اللهجات المنسحبة حياً في سطوحها ، تختلف اللهجات أحياناً من كوخ إلي كوخ ملاصق ، بل من زاوية في الكوخ إلي زاوية أخري ، وأقسم بالعطر علي هذا .
وإن كان الانطباع هو الإيمان بالإطار كنوع من الوباء العام ، فإن من السهل أن تجفَّ المسافة بين الدومة ، والبطحة ، ونجع عمران ، والحوش ، سيراً علي الأقدام ، خلال أقلّ من ساعة ، ولكن هذه الدقائقَ ممرٌّ صادقٌ نحو اكتشاف العديد من اللهجات المتضاربة ، مع ذلك فإنَّ جسور الحوار بيننا ليس من الصعب تصميمها ، وفي لغة الإشارة أحياناً عوض .
مجرد التلميح بالأيدي ، واهتزازات الرؤوس ، وتحريك الحواجب يكفون أحياناً لجعل ارتطامنا بصعوبة الفهم يتوقف .
كان العم ، الشاب " سيد أبو ريا " ملجأً أميناً لكل الأمراض الممكنة ، هذا جعل شحوب وجهه الزائد عن الحدِّ يضفي عليه مظهر الميت العائد من موته ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء الخوف علي أطفالهنَّ من إحراز عدوي أمراضه الغامضة ، تجاوزت تحذيرات الأمهات من شراء ترمسه ، بل من مجرد ملامسته ، التهديد بالضرب إلي تحققه قبلياً ، ولكن مذاقه المميز كان علي الدوام منوطاً بتحريضنا علي العصيان .
قادت الصدفة المحضة العم سيد أبو ريا إلي أذان العصر ، أو رقية العصر ، وقلبي ، للمرة الأولي ، ذات عصر شديد العصافير ، فسكت عمراً ، ونطق كفراً ، ليس فقط لأنَّ صدي صوت نهجانه المكبر كان أعلي من صوته ، بل لأنه صاح :
- اللاهو إكبر ، اللاهو إكبر !
انفجرت في قلب المسجد ضحكاتنا ، وتفتت استغراق الرجل في المناغاة أو الرقية إلي شكوك ، واهتزت كلُّ كلمة برعشة خاصة ، وطارت أكياس ضحكاتنا في هواء المسجد ، ثم لذنا بالفرار .
وبرغم أنني كنت فرداً من قومية كبيرة من الصغار ، وقع الإختيار علي إخضاعي للمسئولية الكاملة منفرداً ، ونقل إلي أبي أولاد العاهرات من الدوميين الصورة كاملة ، وشوهوا الكثير من ملامحها ، سألني أبي في مساء ذلك اليوم بهدوء كأنه الصخب :
- صليت العصر وين يا محمد ؟!
دون تفكير ، مررت منحنياً تحت قوس براءتي ، ونبتت غيمة علي جسدي ، وانتشرت ، فجأة ، في الضحك :
- عارف سيد أبريِّا ، بتاع الترمس ، عيَّدِّن كيه ؟!
- كيه ؟
انتصبت ، ووضعت يدي اليمني خلف أذني ، وصحت من بين ضحكاتي :
- اللاهو إكبر ، اللاهو إكبر !
لمحت علي وجهه طيف ابتسامة ، ثم .. وفي لحظة خاطفة ، ركلني من الأمام فجأة ، فانزلقت في مقدمة الذعر ، والإنكار لا يفيد ، وتدخلت عمتي فتحية ، ودفعته عن جسدي بخشونة ، وبدأت انطباعات الوجع تعمل ، كان عراء أعصابه ذلك المساء أكثر مما ينبغي .ولكلِّ هذا ، فهمنا أن مسار سؤاله الصحيح ، والمعتني به تماماً ، للخالة زينب :
- إنتي حلبية ؟!
عدنا ضاحكين ، عقب انطفاء الفريسة من المربع الآمن ، نتأمل أسلحة وعتاداً ، وبادرته من بين ضحكاتي قائلاً :
- إنتا فـ إيه ولا إيه ؟
وضحك ، كان يختبر قامته القادمة .

(52)

الآن ، وأكثر من أيِّ وقت مضي ، أصبح المأزق القديم ضئيلاً ، ومنعزلاً ، ربما لأنني أقف منه علي مسافة كافية لجعل انهياره ، لوقت الحاجة ، في جيب ضحل من جيوب الذاكرة يكتمل ، ولكنني أظنُّ أنَّ بعض الأحقاد النشطة في قلبي ، تعبيرٌ حقيقيٌّ ، ومحميٌّ بتواصله ، عن أفكاري الناجمة عنه .
يظهر أحياناً ، فجأة ، وفي لمحةٍ يكتمل ، فأراقب نموَّه الداخليَّ بوضوح ، وأقرأ بمقاربة مرضية انعكاساته الخشنة ، أزيل عنه غبار الأيام العالق ، ثم أعطِّل نشاطه تماماً .
ربما ، لأني أودُّ للكثير من الأعشاب الرديئة ، التي نمت بصوت مسموع علي أسيجة بيتنا الرائدة ، حتي استطاعت أن ترتجل ضررها الخاص في أصص آثمة ، ومسيجة بظلٍّ شاحب من اللاشئ ، أن تنجو من أطراف الكلمات الحادة .
كان المكان متطلباً وكانت مقتنياتنا السائلة من النقود هابطة ، حتي أنها واجهت لليوم الثاني جفافها تماماً ، واشتعل المأزق كفضيحة ، وانطفأت ، فجأة ، مع سبق الإصرار ، وجوه الذين درجنا علي إحصائهم ملاجئ أمينة ومتاحة لوقت الحاجة ، وتغيرت ألوان الكلمات ، وازدادت الذرائع تدريجياً ، صلابة ورداءة ، ردعاً ضرورياً لمجرد التلميح ، أو حتي التفكير بطلب المدد ، وما كنا لنلجأ من تلقائنا إلي سلة من النكرات ، نما الضوء الركيك في أسمائها عقب خمول طويل ، وإن كانت الرغبة في مجرد الطرح متوفرة .
كان غموض مقاصدهم واضحاً أكثر مما ينبغي ، ويومٌ له ما بعده .
ومن المثير لطغيان الدهشة ، ومن السيئ أيضاً ، أن الرغبة الحقيقية في المدد قد امتدت من عروض الذين درجنا علي إحصائهم خصوماً وعوائق ، وأعتقد أن رفضنا كان تعقيباً علي أفكارنا الدارجة عنهم .
وبالقرب من هذا التيار من التعاطف الذي يصعب تحديده ، وجدوا تقديرنا وحبنا وبعض الندم .
وبالقرب من هذا النبع من التعاطف الذي يصعب تحديده ، ويصعب توقعه ، عثرنا علي العديد من الانطباعات الجديدة تتناسل تحت السطح ، وزاوية أخري ، وأضواء مختلفة ، للنظر إلي الثوابت التي تحكم العلاقات بين الأطراف كافة ، وأمكن فيما بعد ، تجاوز الكثير منها .
وتطور المأزق حيث لا يوجد تراجع ، وحيث لا يوجد تراجع ، اختبرت الطريق إلي قنا ، وكانت نجمة الشمال ممراً صادقاً نحو خلاصنا مؤقتاً ، وكان صديقي ، بحماية عصره ، سخياً .


(53)

يوم متوسط من أيام شهر أبريل ، والقرن الواحد والعشرون يتسكع في نقطته السابعة ، وملامح وجوهنا السابقة تفقد ألفتها باطراد ، وملامح وجوهنا القادمة تختبر تربصها ، وأبي يكتسب النقاط الأخيرة في المعايير الطبية للتماثل الأقصي لمريض بالسرطان للشفاء ، ويقترح الدكتور خلف خروجنا . انخرطت الخالة زينب في موكبنا العائد حتي باب السيارة .
لقد انحسر الأسبوع وبعض الأسبوع عن صداقة حقيقية بين أبي وبينها ، صداقة لا تقبل التأويل ، ولا تقبل المدَّ والجزر ، حتي أن أبي الذي لا يقبل النقد ، كان يرضي بمقارباتها لانتقاده بكلِّ سرور قلبه المتعب ، وهو نقدٌ يراعي صالحه ، أو هو عتابٌ لاسع ، كالعتاب علي التدخين الزائد عن الحدِّ غالباً ، وارتباك العمامة أحياناً ، وشهيته القليلة للطعام علي الدوام .
وحتي أن اسمها ، ظلَّ ينزلق في شرخ أحاديثه عن ذكري هذا المنعطف محتجزاً داخل حبه الوافر ، وبإسراف ، حتي النهاية الرديئة .
لابدَّ أنها هي أيضاً . محيرٌ ذلك النبع المشرع لتربية الدفء الإنساني بين غريبين يتقاطعان علي حافة الصدفة المحضة .
– نشوفوا وشك بخير يا زينب !
– ربنا يطمِّنا عليك يا حاج ، توصلوا بالسلامة !
ووصلوا بالسلامة ، وبحزمةٍ من الثوابت الطارئة ، ووصلتُ دونهم بحزمة الثوابت الطارئة ، وعادة طارئة ، تجاوزت حراستي لجذور الإخلاص لها رحيل أبي بسلةٍ من الشهور العصبية ، والجارحة أيضاً .
استدعاء النوم بالمنومات .
لأتفادي الليل ومنعطفاته المؤدية علي الدوام نحو يقين الألم ، ربما لأن الكيمياء تحترم قواعد المنظور ، أو تحترم المسافات ، والمساحات بين الإنسان وذاته .
كان انتحاراً منظماً ، لكنه غير حاسم .
بمجرد اقتراب الموكب من مشارف الدومة ، استعمل أبي كامل قوته الخارجية ، واستعرض النشاط الوافر لأعضائه الداخلية ، وأحاطها بالتوترات ، فاتزن اتجاهها ، وتحقق وجودها ، وانخرط ، علي طول الطريق في إلقاء السلام علي أطراف المتعاطفين ، والمتربصين ، والأطفال ، دون تمييز ، كأنه ليس ميتاً مؤجلاً ، وكأنه يعلنهم بأمنية ، رفعت لا يموت ، ولمست الكثير من نار المرح الداخليِّ المشاركة ، ولمست ، مع ذلك ، شهقات تتجمد علي وجوه النساء يصعب تحديدها ، ورأيت رجالاً يتجمدون لرؤيتنا كالأصنام .
توقف الموكب فوق الجذور ، وبين الطلل ، وأصرَّ هو أن يهبط من السيارة معتمداً علي ظله فقط ، دون مساعدة من أحد ، وطاردت الزغاريد المترقبة خطواته اللائقة بإلحاح ، ترشد ظله إلي قبونا ، كانت عضلات الطريق إلي بيتنا قد انهارت تماماً ، فتدحرجنا ، بإنفاق المزيد من الجهد ، إلي قبونا جميعاً .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29/10/2012, 02:04 AM   #15
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(54)

يقلُّ المهنئون بعيد الأضحي مخافة الاتهام بالحرص علي الفوز بنصيبٍ من لحم الأضحية التي يزيِّن بها المكتفون من الدوميين وبعض المرائين ذكري فداء اسماعيل تماشياً مع الأسطورة العالقة ، وتتجاوز الأسطورةُ المبالغةَ إلي الإحالة المؤكدة إذ تؤكد أن الكبش يعود إلي قربان هابيل الذي (تُقبِّلَ منه) ، ويصدق هذا الجاهلون ، وليس الجهل تعبيراً محميِّاً .
يصدق الجاهلون أيضاً أن ذلك الكبش الأسطوريَّ قد ادّخر في الجنة يرعي من أعشابها تكريماً لخلافٍ عائليٍّ ، تطوَّر إلي قسوةٍ ممتلئةٍ من أبٍ يتوقع الطاعة ، بل الصمت ، وابنٍ لا يتجاوز ظلا شاحباً من العدم .
ذلك أنَّ إسماعيل بالتأكيد الزائد عن الحد ، شخصية أسطورية ، نمَّي تراثُ الرمل الضوء في اسمه وأحاطه بأفعال قداسة ٍ حتي أصبحت أسطويته في حد ذاتها أسطورة ، ولا أعتقدُ أنَّ أحداً يستطيع أن يصلَ بنسب قريش إلي اسماعيل المفترض دون أن يقف علي حافة الخلق الشهيرة .
يقول القلقشندي في مؤلفه الشهير (نهاية الأدب في معرفة أنساب العرب ) ، في محاولة من الرجل لترميم الخلل في نسبة قريش إلي اسماعيل :
( وكان إسماعيل بن إبراهيم ، جده الخامس عشر ، أو العشرين ، أو الأربعين ) !
ولابد أن نلاحظ أن هذه هي نهاية الأدب ، وليس لديَّ علمٌ ببدايته ، ربما كانت :
كان إسماعيل بن إبراهيم جده الصفر ، أو الصفر ، أو الصفر .
لقد كان ورع المسلمين الأوائل ضاراً ، لقد عطلوا العقول ، وصعدوا بحماسةٍ صلبةٍ علي جذوع الخرافة حتي ذروة النقطة ، تحت قافية لا تزال حية حتي اليوم ، نكذب له لا عليه .
لا تعجبني نظرة البالين وأصحاب الحد الأدني ، إلي العقل كزائدة من الزوائد اللحمية لا أكثر ، كالحسنة ، أو السنطة ، أو الثألول !
كأنَّ التاريخ يجد التعبيرَ عنه في كذبةٍ تمَّ التفاق عليها كما اقترح نابليون تماماً .
إسحق أيضاً ، يقول جريرُ في مدح الزنوج :
ويجمعُنا والغرُّ أولاد سارةٍ ، أبٌ لا نبالي بعدَه من تعذَّرا !
لابدَّ أنَّ البيت تعقيبٌ علي ذكري غامضة ، وإلا فلماذا قاله ؟ .
وإلا فلماذا غمره الزنوج بالعطايا ابتهاجاً بنسبتهم إلي السلالة المباركة ؟ .
ربما يفسِرُ هذا البيت ، وجود يهود الفلاشا بتصرفات مرتفعة في أثيوبيا .
كما أنَّ ذكري انهيار الحاجز الضخم بمحاذاة جبل طارق ، الذي كان يفصل مياه المحيط الأطلسيِّ عن الأرض التي .. سميت بعد انهياره البحر المتوسط ، وصلت إلينا بالشكل الذي تبني اليهود انحرافه من حقيقة مؤكدة إلي خرافةٍ أتمَّت امتلائها ، طوفان نوح ! .
إنَّ الذين يعرفون اليهود أكثر يردون سحنة اليهوديِّ المميزة ، أو ما يسمونه بتعبير الجيتو إلي التعصب للعزلة والنظر إلي الآخر نظرة دونية .
ولكن الذين لا يعرفون اليهود لا يعرفون أنَّ المأزق ، تعبير من تعابير الجيتو أيضا ، فلايمكن أن يغيِّر اليهوديُّ خندقه إلا إذا احتفظ بمأزقه ، ولقد غيَّر عبدالله بن سبأ خندقه ، أو ادعي الإسلام علي وجه الدقة ، وكان التشيّعُ مأزقه الشهير ، وظلَّ مأزقه يكبر ، ويراقب الآخرين نموَّه في سلبية ، حتي تجاوزت العلاقة بين المذهب الشيعيِّ والمذاهب الأخري ، كل الثوابت التي تحكمها ، وحتي باتت سلامة الفكرة نفسها هدفاً للشك .
وكان مأزق عبدالله بن سبأ جرحاً تناسل في دمه الكثير من اليهود بعده .
وهب بن منبه مثلاً ، أو الرجل الذي خلق أسطورة الثور الذي يحمل الأرض ، والحوت الذي يحمل الثور ، ومقطف رقيق رقيق ، والكلبة تحلق في الطريق ....ويروح يجيبها وهب بسبع قرون .
وقد انتبه بعض الحاذقين في اصطياد الثروات ، في كل زمان ٍ وكلِّ مكان ، إلي بلاهة البالين وأصحاب الحدِّ الأدني ، وإيمانهم الطليق بكلِّ ما دوّن المغامرون الأوائل في التراث ، فباشروا تربية الكثير من الثروات الطائلة .
ولقد ظهر مؤخراً في سوق الدواء المصريِّ ، عقارٌ يحمل اسم " زيت كبد حوت البهموت " ، يبدو الأمرُ عادياً ، وفي إطاره أيضاً ، ولكن لابدَّ أن نأخذ في الاعتبار قبل الانزلاق في شرخ اللعنة ..أن اسم البهموت هو الاسم الذي اقترحه وهب بن منبه للحوت الذي يحمل الثور الذي يحمل الأرض ! .
هذا يحرضني علي ابتكار عقار يحمل اسم " خلاصة طحال الثور كيوثا " ، الفكرة جديرة بالاحترام ومؤهلة للرواج ، وربما صادره البالون من الأسواق في سلةٍ من الساعات لا أكثر ، لا يهم حول أيِّ محور مرضي يدور ، بل المهم ما سيحصلون عليه من بركة ، خصوصاً أن " كيوثا " هو الاسم الذي اقترحه وهب نفسه ، للثور الذي يحمل الأرض ، ولتكن دواعي استعماله هو تنقية العقول النقية من شوائب التفكير في غير الجحيم وعذاب القبر ، وليس له بالطبع من آثار جانبية ، سوي الإسهال .
سأبدأُ العمل علي الفور ، ولكن المعوقات كثيرة . للأسف !

لكن ، وإن كنت أشك في حقيقة اسماعيل ، لا أشك في أنَّ الكثيرين .. الكثيرين جداً يحظون علي شرفه بمائدةٍ موسميَّةٍ نادرة .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29/10/2012, 02:06 AM   #16
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(55)

وأتذكر أن أبي كان ينتظر في الساعات الطليعية من صباح عيدٍ من أعياد الأضحي جزاراً لايحتاج إلي الوقائعية للحكم علي انتظار بيتنا الموسميِّ له ، وتأخر كثيراً ، لقد أضاف الكثير من النباتيين القدامي أعباءاً جديدة إلي أعبائه ، وبدأ الضيقُ استحواذه علي أبي ، وأرسل عصام للبحث عنه في مظانه العالقة بالطقس ، والمعقدة في ذلك الوقت ، ويبدو أن عصام قد مرَّ بالجيب القبليِّ من الدومة ، فارتطم بالعم زكي يلاعب نفسه السيجة كالعادة ، فسأله ببساطة .
_ ما شفتش فوزي الجزار ياعم زكي ؟
ويبدو أن تعبير الكسل علي وجه العم زكي تحلل إلي اهتمام
_ عاوزه ليه ؟
_ عشان يدبح خروف عمي رفعت
ويبدو أن العم زكي في لحظة واضحة من لحظات العجز عن مراقبة العواقب قال
_ وليه فوزي ؟ .. ما انا جزار
ولابد أن يكون ذهن عصام قد تذكر مساره المهني من تربية المزاح ، أو تربية الذرائع لخلقه ، فقال للرجل وهو يبتسم ، وعيناه تنظران في الفراغ البعيد
_ يللا بينا .. الراجل مستنيك !
وحطَّ عصام بالقرب من ضيق أبي في حوشنا الذي سوف يكون في المستقبل النقطة الأولي التي ستتمدد خلفها العصارة حتي الطريق الذي يشطر الدومة إلي قسمين ، وخلفه العم زكي بقامته القصيرة يقبض بإحدي يديه علي سلة من السكاكين المختلفة الأشكال ، والتي يبدو أنه ادخرها ليوم يضئ فريسة ، ولسوء طالعنا أضاءنا له الولد عصام ببساطة ، قال ووجهه محتقن بفعل استحواذ فشله في السيطرة علي ضحكاته .
_ ما لقيتش فوزي الجزار . جبت عمي زكي الجزار !
ورأيت اهتزازات جسده وهو يستدير خلف عيني أبي ، فأدركت أنه يضحك .
كانت تعابير وجه أبي تنطق بالشك لثوان ٍ ، ولكن نظرته التي ارتطمت بسكاكين الخالة " محمودة " ، حللت تعابير الشك إلي غابةٍ من التعابير المتباينة ، استطعت أن أميز منها بوضوح ٍ شديد ، تعبير الخجل الصعب من الرجل المسنِّ الذي ادَّعي ، فجأة ، صلاحيته لممارسة الجزارة ، وربما بدقةٍ أكثر ، الرجل الذي يتجاهل أفكارنا السابقة عنه ، ويريد أن يمارس تجربته الأولي من نوعها في عيدنا ، وربما بدقةٍ أكثر وأكثر ، الرجل الذي يلاعب نفسه السيجة صباح مساء في ظلال بيته ، وسعياً وراء الجديد ، يريد أن يلاعب نفسه خروفنا .
استطعت أن أميز منها أيضاً ، تعبير الرغبة العارمة في أن يضرب عصام ضرباً يمطر في أوجاعه ، بل الرغبة تامة الدوائر في قتله دون مراقبة العواقب علي الأرجح .
توقف انخراطه في الدهشة فجأة ، وأدرك أن خروفنا يواجه واقعاً يجب إلغائه ، واتسعت المساحات البيضاء في عينيه ، وأشاح بوجهه ناحيتي ، وظهر غيظه فجأة ، ثم اكتمل ، وقال بصوت يراعي شراع الرجل من موجة حرج تضرب حواسه :
_ أحسن !
وتملَّكني الرعبُ ، لقد كنت أدرك ، ليس بالغريزة وحدها ، بل بفضل غابةٍ من التجارب السابقة أن أبي حين يستبد به الغضب من شئ لا يملكه ، يفتت ورده اللاسع في أوجاعي أنا ، حتي فونيا ماكينة الري ، كان حين يفشل في إصلاحها ، يغضب من فشله في التوفيق بين أدواته الميكانيكية البسيطة ، وتطلب أعطال الفونيا الصعبة ، ويجد التعبير عن ترميم لجرحه في إضاءة فريسة ، أيِّ فريسة ، ليس بالضرورة أنا ، ولسوء طالعي أنه كان يفشل في إصلاحها كثيراً ، وكان يحبني كثيراً ، وكان وجه حنانه المدور هو الآلية السرية التي تفتح لي ، وللكثيرين ، بوابات الانسجام مع الحياة ، لا تحدِّيها ، وكنت لا أستطيع أن أكمل دوائري إلا بقربه .
هدأ قلب أبي قليلاً ، ليستطيع أن يمسك بقدر لائق من المشكلة يصعب تحديده ، ثم يفكر في حلٍّ لها علي ضوء هادئ ، ربما لأن الشمس الزائدة عن الحد ، كافية علي الدوام لتعمية الشجرة عن قلب العاصفة . دعا العم زكي إلي الجلوس وطقوس الشاي ، وبعض السجائر ، قبل الدخول من باب تجربته الأولي من نوعها ، واسترخي فوق معجزة .
كنت قد اختبرت الطريق إلي بيتنا ، استجابة لأمر من أبي باستدعاء الشاي ، ونقلت إلي أمي وجدتي الصورة كاملة ، فاشتعل البيت مكاناً أفضل للعيش ، لقد انهارت جدتي في الضحك من كلِّ زرقة قلبها ، أمي أيضاً ، لكن بتصرفات أقل زرقة ، كانت تحصي سراً متاعبها القادمة .
سمعت في طريق العودة ، وسمع الشاي الساخن ، همسات أبي العصبية في زاوية الشارع ، للعم عدلي بظيو ، يطالبه بإيجاد تعريف معتاد للمعجزة التي يسترخي فوقها ، بأسرع وقت ممكن .
جلست أراقب انكسار الولد عصام الصناعيَّ صامتاً ، وأرقب نموَّ خطة أبي لتعويق الرجل عن التجربة ، كان ينعطف بالحوار في العديد من المتاهات السائلة بلا طائل ، لعلَّ مجيئ جزارنا الحقيقيِّ ، يضع حداً لجنون رغبة جزارنا المزيف في اللعب ، فينتهي المأزق الذي وضع الولد عصام بكلِّ بساطة ، عيدنا في قلبه ، ويتظاهر بالإيمان الطليق أيضاً ، بكل كلمة تخرج من فم العم زكي النشط ، تتطاير الكلمات كالريش ، وتتداخل ثم تتلاقي ، لتشكل سرباً من سكاكينه التي فجرها في شرخ شبابه في رقاب البهائم ببلاد بعيدة .
لا أدري حتي الآن ، علي أيِّ ضوء كان يفكر الرجل في خداعنا ، ليس الأفضل علي الإطلاق ، إنه العم زكي ، نعرفه تماماً ، ونعرف تماماً أن مهارته القديمة في التحطيب هي أكثر أعماله مدعاة لفخره ، ثم يتضاءل كل شئ .
يؤكد لنا الدوميون ، الذين ذكرياتهم أقدم من ذكرياتنا بالكثير من الأعوام ، أنه ، برغم جسمه الضئيل ، كان أستاذاً من أساتذة التحطيب القلائل .. القلائل جداً في الدومة ، وأنه أذاب بالتدريب المكثف فنه في كل رجال الجعدية ، كان يضرب المبتدئ تعبيراً عن خطأه في أي مكان في جسده ، ويشتم أحياناً ، ولا ينال المبتدئ استحقاقه لدخول المعارك القادمة في خطوط المواجهة الأولي قبل أن يشتبك مع المعلم في معركة حقيقية ومتزنة ، غير أن تحديد اتزانها يكون رهناً لتقديره هو .
كان جهداً رائعاً ، شكَّل الكثير من العاهات للعائلات الأخري ، ثم أصبح مؤخراً بلا قيمة ، لقد وجدت العائلات الأخري ، بالصدفة المحضة ، لتعاليم العم زكي حلاً بسيطاً ، حلٌّ ينطوي علي الكثير من النذالة ، هذا صحيح ، ولكن لا يهم ، ما دام تعريف النصر في النهاية ، يقاس بعدد المصابين من الجانبين .
لقد انتهي زمن الفرسان ، أيام كان الجد " عبد الرحمن أبو قناوي " يستحي ، في قلب المعركة ، أن يضرب امرأة معتدية ، ويتلقي الضربات المتعددة بصدر رحب ، ويعود في نهاية المعركة إلي بيته محمولاً علي أكتاف الرجال ، يسيل الدم من كل مسامه ، أقرب إلي الموت منه إلي الحياة ، يا رحيم ! .
بدأ الحلُّ بسلة من الأطفال يستشرفون نذر المعركة من فوق السطوح النشطة ، ورأوا رجال الجعدية ، يهجمون علي الساحة وسط بيوتهم ، ويدورون استدعاءاً لمعركة متوقعة رافعين عصيهم ، ويشتبكون معاً ، ويستعرضون مهاراتهم في التحطيب ، ويتقافزون ، ويضحكون ، ويرقصون ، وتصفق النساء ، ويزغردن ، وأسقط ، فجأة ، طفلٌ في الخامسة حجراً ، ودفعت الغيرة ، أو اضطراب المشهد بشكل مروع في الساحة ، والصرخات الملتاعة ، طفلاً آخر أن يقلده ، وتتابعت الأحجار ، فكان كلُّ رجال الجعدية ، قبل مرور سلة من الدقائق ، في عداد الغائبين عن الوعي ، وانتشر التقليد الطفوليُّ الجديد في طقوس تربية المعارك في الدومة إلي الأبد ، وذهبت تعاليم العم زكي علفاً للنسيان والرياح .
اكتسبت خطة أبي لتعويقه بدخول الخالة " منيرة " ، نقاطاً إضافية في معايير الزمن ، وانهالت التهاني بعتبة العيد الغامضة علي المترقبين لأدني فكرة عن مصير الطقس ، كالحزاني ، وتساءلت بنيةٍ طيبة :
- أمَّال جزاركم إتأخر ليه ؟
أجابها الصمتً المسور علي حوشنا ، ونظر اليها العم زكي متذمراً ، ولحرجها الشديد ، مررت منحنياً تحت قوس براءتي ، وقلت لها في رقة مدبرة :
- عمي زكي هو اللي هيدبح الخروف وبدأ انخراطها في الدهشة يشتعل ، فانطفأ ذهنها تماماً ، وتساءلت عفواً ، وهي تسمر عينيها علي وجه العم زكي مشدوهة ، كأنها تختبر ألفته ، وتتهم معرفتها السابقة عنه :
- زكي مين ؟
وجدت بعض الضحكات المحتجزة التعبير عنها في الوجوه المحتقنة ، والأجساد المهتزة ، وتذمر العم زكي ، كأن الجزارة ، لا الفلاحة ، هي مساره المهنيُّ الشهير ، قبل أن يقول غاضباً :
- إو ما عارفانيش إو ؟!
تأكدت شكوك الخالة فابتسمت ، وتحول فائضٌ من الابتسام إلي ضحكة قصيرة قبل أن تستدير خارجة ، وهي تقول :
- ع البركة !
والتحق ظهرها بأفكار العم زكي الفاحشة عنها ، في شكل شتائم عصبية ، حتي ابتلعها الشارع ، وكان لابد أن تتحرك في حذر بعض الضحكات المنفلتة في أمواج الهواء المريب ، ودخل في نفس اللحظة العم عدلي ، بانكساره الحاد ، وقال لأبي ، آمناً من معرفة العم زكي وجهة حديثه :
- راح نجع عمران !
ازداد غضب أبي خشونة ، لكنه تماسك ، وتمتم ببعض الشتائم العصبية ، واللعنات التي ليس من الصعب أن أدرك وجهتها ، العم فوزي الجزار بالتأكيد ، واحتجزنا حتي أنفاسنا .
مع ذلك ، ولأنه كان في الماضي المجيد ، من المؤمنين بضرورة الدوران مع العجلة وقت الحاجة ، رضي بالمقاربة غير المتوقعة ، ووجه غضبه المحتجز وجهة تتصنع الانكسار ، وجه أيضاً حنجرته الملتهبة نحو الولد عصام :
- قوم فز يا ابن المنتول ، هات الخروف من جوَّه !
ترهل غضب أبي فجأة ، وفشل في السيطرة عليه ، تعقيباً علي سخافة جديدة للولد عصام في الوقت الخاطئ تماماً ، لقد ظهر فجأة ، ثم اكتمل ، يمتطي ظهر الخروف ، قابضاً بيديه علي قرنيه ، يوجهه يميناً ويساراً بإيقاع سريع ، ومتلاحق ، كأنما يقود دراجة ، واستهدفه أبي بحجر أخطأه ، وهو يصيح جاداً :
- انزل يا ابن المنتول ، الله ينعل أبو اللي جابك !
ضرب الذعر حواس الولد عصام ، فارتبك ، وانزلق انزلاقاً اعتباطياً ، وانهارت سيطرته علي الخروف تماماً ، تجاوز الخروف بعد سلة من القفزات العصبية المذعورة عتبة حوشنا ، وتسرب إلي يقين الضياع ، هرول العم عدلي ، واتزن عصام ثم هرول ، وهرولت ، وانخرط الكثيرون من الأطفال يطاردون محاولته للفرار، وشوارع العيد المتثائبة إلا عن الخواء .
مطت المطاردة أرجلها ، وطالنا الاستياء ، وطالنا التعب ، وطال المطارد أيضاً ، فلجأ أخيراً إلي حيز يخون الطريدة ، فأمسكنا به ، وعدنا به إلي التجربة الأولي من نوعها بالنسبة للعم زكي ، والأخيرة من نوعها ، بالنسبة للمسكين حيال الحياة .
طرحه العم عدلي أرضاً ، فاتزن خط خضوعه ، وجلس الولد عصام علي سطحه ، قابضاً بيديه علي قوائمه أماماً وخلفاً بقوةٍ تلائم مراهقته ، وصاح العم زكي من بين سحب الدخان :
- أيوة كده ، كتفه زين يا بو قنين !
لقد اكتشفنا في نفس اللحظة ، بعداً جديداً من أبعاد شخصية العم زكي ...... زكي الشاعر ! .
نبح ، فجأة ، كلبي الرماديُّ ، فاستدرت ، فرأيت علي مشارف نباحه سلة من النساء ، يقفن أمام حوشنا ، يتجسسن علي عيدنا الجارح ، يخفين ضحكاتهنَّ في جيوب طرحهنَّ الجديدة ، عيونهن الدامعة ، وحواف أفواههن التي لابدَّ كانت مبتلة ، تفرقت قاماتهن المذعورة ، تعقيباً علي انفجار أبي في مرحهن الداخليِّ :
- إيه فيه ، عروسة ؟! ، غوروا !
التحق ، كالعادة ، صياح العمِّ زكي بضحكاتهنَّ المبتعدة :
- يا شراميط !
واستدعي الولد عصام ، ملامح وجهه الغاضب ، وصاح في تذمر لائق :
- منيرة شمَّهت الدنيا !
استوعبه أبي بعينين باهظتين ، وتساءل من غضبه :
- منيرة هي اللي شمهت الدنيا يا بو الست ؟!
لقد حاول الولد عصام أن يدين قدراً تافهاً من مشكلةٍ ، تعود جذورها إلي إحدي حماقاته هو .
استأنف العم زكي تجاهله ، وربما جهله ، بتراكمات نزوته الحية ، وتساءل ، وهو يتأهب للدخول في بروتوكول تجربته الأول :
- تشمه الدنيا ليه ؟! ، إو عجوبة خروف يدِّبح إو ؟!
كان من الذي يصعب تحديده ، هل هو حقيقة ،لم يفطن بعدُ إلي موطن الغرابة ، أم هو يفطن ، ويتغابي . هذا أثار ، بتصرفات منخفضة ، ضحكاتنا المحتجزة .
لا أدري كيف سارت الأمور في اللحظة التالية ، ربما كان ما حدث بتدبير من الولد عصام ، وهذا هو الأرجح ، وربما كان الخروف قد استجمع قوته ، أو استقطب ذعره قوته إلي مركز اللحظة التي أطاحت بالولد عصام بعيداً عن سطحه ، يتضور ألماً ، وبإيماءة مخجلة ، طرح العم زكي أرضاً ، واختبر الطريق إلي الشارع مذعوراً ، وصاح أبي وهو يهم بالنهوض :
- حلِّق يا عدلي ، اقفل الباب !
ونبح كلبي الذي بلون الرماد ، وارتبكت قومية من الصغار يطاردونه ضاحكين ، أو يطردونه بدقة أكثر ، وركض العم عدلي نحو الباب ، وأحكم إغلاقه ، واستعاد العم زكي اتزانه ، وتابع الولد عصام ادعاء الألم ، وطوقت المكان هالة من التوتر ، واتجه أبي نحو خبث الولد عصام وركله ، وكنوع من اقتراف حماقة تقبل القسمة علي اثنين ، طاردني وركلني من الخلف ، ولجأ حازم إلي استخدام الدرع التي تؤمن له الخلاص غالباً ، فبكي من تلقائه ، وأصبح الوضع الجديد هستيرياً وسائلاً .
اقترح أبي في غضب حقيقيٍّ ، إخضاع العم عدلي لمسئولية السيطرة علي الخروف منفرداً ، واستأنف :
- خلِّي اليوم اللي زي الروبة دا يفض !
امتثل العم عدلي صامتاً ، وهدأ قلبي قليلاً ، وتوقف حازم عن البكاء ، وتابع الولد عصام خديعته العارية .
انتظم بريق عيني العم زكي فجأة ، كان تصميمه واضحاً لا يمكن إنكاره ، وانخرط في بروتوكول تجربته الأول ، الذبح ، فجَّر سكينه في رقبة الخروف بوضوح أكثر مما ينبغي ، فكان بريق عينيه المنتظم ، وتصميمه الواضح ، وإفراطه في استخدام السكين ، دوافع كافية لانخراطنا في الضحك المتوجس ، لعدم انبثاق ، ولو بعض نقاط الدم الحار ، من جسد الفريسة ، لقد ظلَّ الخروف حياً ، فقط جحوظ عينيه ازداد جحوظاً ، وازدادت محاولاته العصبية للنهوض عصبية .
اتخذ أبي من فشل أولي محاولات الرجل ذريعة للتخلص منه ، كان صوته فارغاً من الخجل هذه المرة ، وصاعداً :
- السكين تالمة يا عم زكي ، يحرم علينا !
التفت إليه العم زكي ، كأنه يلومه علي هذه الإهانة ، مسح بظهر يده ، قطرات العرق الباهظ ، التي نبتت علي جبهته ، وأكد أنَّ خيبة سكينه تعبيرٌ عن جلد الخروف السميك ، ليس تعبيراً عن ضمور حدَّتها ، وأكد أيضاً ، أنه متأكدٌ من أدواته ، وفي ما بدا أنها محاولة ركيكة لخداعه ، وربما ، ليضفي علي إخفاقه أصداء من الشيوع والابتذال ، استأنف مبشراً :
- بس الخروف اللي جلده تخين ، عيرمي لحم كتير ، مجربة !!
أخفي الولد عصام وجهه الضاحك في التظاهر بالنظر إلي جملنا البارك علي بعد أمتار منه ، يجترّ ، واضطرب أبي قليلاً ، ورفض أن يبتلع هذا الخداع ، واقترح ، كنوع من التماهي مع أعوامه الستين وأبعد ، أن يستدعي من بيتنا سكيناً حارة ، فاحتدَّ إيقاع غضب العم زكي فجأة ، وأكد في عنف ، وهو الأدري طبعاً :
- العيب مش عيب سكين ، العيب عيب خروف !
كان في عينيه تصميمٌ ، جعل أبي يشعر بأنه ليس من الحكمة اختباره ، وكان في التعريض عوض :
- ما كناش عارفين مقدرنا يا عم زكي ، كنا جبنا خروف تفصيل !
ضحكت ، وعاد وجه عصام إلي مائدته الأولي بتصرفات منخفضة ،نض الجمل فجأة ، وفعَّل ذيله يميناً وشمالاً ، ليطرد بعض الحشرات الضارة من مؤخرته ، وظلَّ العم عدلي كالعادة داخل اتزانه ، وفي ما بدا أيضاً أنه تجاهل للتعريض الباهظ في لهجة أبي ، أو جهله به ، اقترح العم زكي ، وهو يفعِّل سكينه في رقبة الخروف مرة أخري :
- إنتا لما تروح تشتري حاجة زي دي ، خدني ننقي لك !
ضحكنا سوي العم عدلي ، وتخلي الولد عصام عن حذره ، واهتز جسده بفعل استحواذ الضحكات المحتجزة ، وسعل بشدة ، وانزلق بعض السعال في شروخ ضحكاته ، بل لمحت طيف ابتسامة مؤدية علي وجه أبي ، نظر إليه ، فجأة ، فاستعاد انكساره ، ونظر إليَّ فجأة ، وصاح في غضب :
- غور افتح الباب لحد يجي !
وامتثلت صاعداً بحماس أكثر مما ينبغي ، واختبرت الطريق إلي الباب المغلق .
لا أدري كيف سارت الأمور خلال انقطاعي ، ولكنها نجحت ، وارتطمت عيناي في طريق العودة ، ببقعة صغيرة من الدم الحار علي الروث المتحلل ، ظلت تكبر تدريجياً ، ومقاومة الضحية تصغر تدريجياً ، ثم ، فجأة ، تلاشت ، حدث ذلك قبيل أذان الظهر بسلة من الدقائق .
جلس العم زكي حتي تطرد عروق الضحية دمها كاملاً ، وأشعل سيجارة ، كان اعتداده بنفسه ، تعبيراً عن النصر الصغير الذي أحرزه ، وافراً في حديثه والعتاب :
- قال ، وإنتا تقول السكين تالمة قال !، يروح وين هبابة خروف ، قصاد جمال دراو ؟!
أفسح لنا أبي بضحكته القصيرة ، غابة من قيود الضحكات المحتجزة ، العم عدلي أيضاً ، انسلخ للمرة الأولي من اتزانه المزمن وابتسم . ووجه كلبي الرمادي حنجرته بحماس نباحه الزائد عن الحد إلي الشارع ، لقد جذبت رائحة الدم سلة من الكلاب المتطفلة ، تفشل في التوفيق بين رغبتها في الانقضاض وبين جسارتها ، زجره أبي بقسوة ، فانكمش نباحه إلي أبسط أنواع الأنين ، ظلَّ ، مع ذلك ، يتقدم ، ويتأخر ، ويدور ، وينحني .
همَّ العم عدلي أن يصعد السلم الخشبي ، ليمرر كما جرت العادة ، طرف حبل طويل من التيل ، أعدَّ سلفاً ، بين سيخين من أسياخ الكوة فوق الباب ، ثم يرده إلي الداخل هابطاً حتي يتوازي مع طرف الحبل الآخر ، فيشكلان " المجوز" ، الذي تعلَّق في طرفيه الذبيحة من رجليها الخلفيتين ، كما جرت العادة ، ولكن جزارنا المزيف رفض بإصرار ، واتهم أفكارنا السابقة عن طقوس الذبح بالرجعية والمحافظة ، لابد أن بمنظومة الذبح الشهيرة أخطاءَ ، سوف يقوم هو بتصحيحها ، هو يري أن هذا البروتوكول من بروتوكولات الطقس إنفاقاً للمزيد من الوقت والجهد دون داع ، ويري أنه سوف يحتاج فقط إلي أن يرفع العم عدلي ، أو غيره ، الخروف من رجليه الأماميتين إلي أعلي ، وأن يحرس توازنه حتي ينتهي هو من ضرب انتفاخه بالعصا ، وحصير فقط من نبات الحلفا ، يستقر الخروف فوقه حتي ينتهي من فصل اللحم عن الجلد ، وتقطيعه .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29/10/2012, 02:07 AM   #17
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

أبي الذي لم يكن لديه أدني فكرة عن مصير الخروف تمسَّك بالصمت التام ، لابد أنه كان يسترخي فوق أمنيةٍ ، أستطيع الآن أن أجد لها تعريفاً ، الرغبة في نهاية للموضوع برمته بأيِّ شكل .
امتصني الحقد علي الرجل تماماً ، إنه برفضه الأخير ، لم يذبح الخروف فقط ، بل ذبح أيضاً ، يوماً كاملاً من أمواج الهواء التي تنحسر عن خزانة من الأحلام البهيجة ، ذبح أرجوحتي ، كنت بطقس بسيط ، أتردد في خزانة الأحلام الموسمية ، فقط أضع ، بعد إنزال الذبيحة ،عصاً قوية بين طرفي المجوز ، ثم أدق الهواء المفعم بالأساطير .
استعاد ، فجأة ، بريق عيني العم زكي انتظامه ، واختبر الدخول إلي البروتوكول الأصعب ، الأصعب بالنسبة لرئته الهرمة طبعاً ، انحني ، ورقد علي الروث المتحلل ، واتزن اتجاه رقدته بمحاذاة الخروف ، برك الجمل أيضاً ، التقط ما اشتبه في أنه باب الأمعاء ، ثم نفخ ، ونفخ ، وتابع النفخ ، وانخرطت في مراقبة نموِّ سطح الخروف ، قبل أن تقرأ عيناي ارتفاع السطح ارتفاعاً لائقاً ، قرأتا فجأة هبوطه إلي نقطته الأولي ، وسمعت جزارنا يسعل في إيقاع حاد ، لا يخشي ضغط الزمن ، ثم اعتدل ، ظهر وجهه فجأة ، ثم اكتمل ، فاشتعل المكان كفضيحة ، لقد سال شلال حار من الضحكات الآمنة ، التي لا تقيم وزناً لأيِّ تعقيب مهما كان ضارياً ، أبي أيضاً ، لكنه ضحك مشوب ، لقد أصبح فم العم زكي ، وشاربه الأبيض ، ونصف وجهه ، جزيرة حقيقية من اللون الأحمر وشعر الذبيحة ، يبدو أن هذا كان تعبيراً ضرورياً عن خطأه في تحديد الموضع الملائم لذبح الذبيحة ، أو تحديده الباب الملائم للأمعاء ، لم أفهم علي أية حال .
كانت ضحكاتنا لا تزال في ذروة النقطة ، وكان العم زكي لا يزال يمسح من الدم أشياءه ، عندما اقترح الولد عصام رغبته الممنهجة في مساعدة الرجل :
- عنك إنتا يا عم زكي ، وسع لي هفة !
تساءل العم زكي ، وهو يلهث :
- إو تعرف ؟!
كأن معرفة الشئ قبل الإقدام عليه ضرورية في عرفه الدارج .
لا يوجد شخص خاص لعمل خاص ، هذا صحيح ، لكن ليس إلي درجة الهجوم متأخراً ، ودون درع لائق ، علي مسارات الآخرين الصعبة .
أكد الولد عصام معرفته ، فأفسح له العم زكي مكانه ، ورقد هو ، وتظاهر بالعثور علي الباب الملائم ، ونفخ ، وتابع النفخ في بالونة غامضة ، دون أن يطرأ تغييرٌ علي السطح ، ولكن الجدار الغامض في طريق زفيره ، جعل وجهه يحتقن ، ظن العم عدلي الطيب ، أن فشله الواضح تعقيبٌ علي مرض الربو ، ونصحه قائلاً :
- يا ولدي ، إنتا عندك النهتة ، مش هتقدر ، قوم !
لكنني ، بحماية معرفتي بأساليب الولد عصام ، أستطيع أن أؤكد الآن ، أنه اقترح المحاولة من جذورها ، ليتساءل ، ببراءة ، عقب فشله المدبر :
- عم زكي ، يكون ممباره مخروم ؟!
تجاوز إيقاع الضحك ذروة النقطة الرائجة ، وضحك أبي حتي أن السعال انزلق في شقوق ضحكاته ، هذا دفع الكثيرين من المارة في شارع العيد الذي أصبح نشطاً ، إلي التوقف لبعض الوقت ، من بعيد ، فوق الجذور للفرجة ، ثم توافدوا علي استحياء ، وانخرطوا في مأساتنا ، يراقبون الدم المتخثر ، ويضحكون ، دون أن يدركوا سبب ضحكنا ، والضحك علي الدوام محرض علي الضحك .
لقد تجاوز الولد عصام الخروف علي حافة التعفن ، ليس فقط إلي مجرد القليل من اللحم ، نسترخي فوق معجزة ، يواصل جزارنا فشله في العثور علي تعريفٍ لها ، بل إلي لحم تمَّ حشوه ، ثم استأنف قبل أن تنزلق الضحكات إلي منتصف النقطة ، بينما يمسح الكثيرون عيونهم الدامعة :
- عم زكي ، لازم تنفخ يعني ، ما تصلخ علي طول ؟!
ارتفعت الضحكات مجدداً إلي ذروتها ، وصاح العم زكي جاداً :
- عمرك يا ولدي ، شفت جزار يصلخ البهيمة قبل ما ينفخها ؟!
التحم سريعاً ، تساؤل الولد عصام المرح ، بنهاية طرف تسائله :
- شفت ؟!
انحسر تساؤله عن عاصفةٍ من الضحكات العصبية ضربت حوشنا ، تخلخل الاستغراق فيها قليلاً ، فصاح العم زكي جاداً ، في لهجة تقريع واضحة :
- قاعدين تضحكوا ، عشرين نفر ، ما قادرينش تنفخوا هبابة خروف ؟!
قدمنا تقريعه علفاً للضحكات الحية ، عيوننا الغارقة ، أكفنا التي علي بطوننا ، كأنه يريد إخضاعنا لفشله هو .
اقترح العم عدلي ، تفادياً لمأزق رئته المنهكة ، أن ينفخ جزارنا الخروف نفخاً منجماً ، هو يعني أن يدفع هواء زفيره في الممر الهوائي بقدر استطاعته ، ثم عليه .. عندما يلمس إجهاد رئتيه ، أن يغلق الممرَّ بإصبعيه ، تفادياً لتسرب الهواء المحتجز إلي الهواء الحر ، ليتابع ، بعد أن يستعيد حيويته ، من حيث انتهي ، هكذا يفعل الجزارون الحقيقيون أحياناً .
كان تدبيراً رائعاً ، أحرز بفضله العم زكي بروتوكولاً آخر ناجحاً ، واكتسب نقاطاً إضافية في مقاييسنا لمهارات المبتدئين ، لكن الوقت ينفذ ، كان قد استرخي فوق نجاحه ، علي مشارف العصر .
تسلل ، فجأة ، إلي حوشنا ، سيدنا " أبوبكر " ، وسيدنا " عمر " ، وسيدنا " أبو هريرة " ،وأمنا " عائشة " ، وضحكاتنا لا تهدأ ، لقد أخذ حديث جزارنا المزيف منحي فقهياً ، يدور حول محور واضح ، يجوز ذبح الضحية في اليوم الثاني من العيد .
أمي التي كانت تحصي .. لا تزال ، متاعبها القادمة ، أعانتني علي حمل الحصير غاضبة ، وضحكات جدتي تتجدد ، أعانتني أيضاً علي اتزان اتجاهه فوق كتفي ، ورتبت لي خروجاً آمناً من الباب الموارب .
عدت ، لأجد بعض الضحكات النشطة ، وأجد العم زكي متكئاً علي غصن جاف قويٍّ من شجر السنط ، يكتظ سطحه بالنتوءات الطبيعية ، والقليل من كتل الصمغ المتحجر ، متأهباً ، والرغبة المحمومة ، للدخول إلي أبسط البروتوكولات علي الإطلاق ، وأحبها إلي قلبه بشكل خاص .
بسط العم عدلي الحصير علي الروث المتحلل بعشوائية ، ثم نقل والآخرين ، جسد الضحية المتورم إلي سطحه ، وتماشياً مع زاوية العم زكي المريبة للنظر إلي أساليب الذبح الحديثة ، تكاتفوا ، ورفعوا الخروف من رجليه الأماميتين بطول قامة العم عدلي الأقلّ طولاً ، اتزن خط ارتفاعه تماماً ، فأصبحوا ، كأنهم والضحية في عناق صحيٍّ .
أبي الذي ، ربما كان يدرك ما وراء الكواليس ، انخرط في الضحك مبكراً ، وربما لحداثة الصورة الزائدة عن الحد ، الولد عصام أيضاً ، ربما كان يلمس شيئاً في الظلِّ ، فقد استعرض ألوان استعداده للقيام بضرب انتفاخ الخروف منفرداً ، فغضب منه العم زكي غضباً حقيقياً ، وصاح به جاداً :
- إو هو لعب ؟! ، تتصدر في الساهلة ، والله العظيم ما تضرب ضربة !!
أيها العم ، فليهدأ قلبك ، إنه مجرد عرض لا أكثر .
كان الانطباع هو الإيمان بالإطار كلعبة يمارسها الرجل حقيقية .
استدار هذا اليقين في أذهاننا حتي صار منعزلاً ، يمكن الاطمئنان إلي صحته ، عندما رفع العم زكي العصا ، واشتعلت عزيمته فجأة ، ثم بدأ في الدوران في دائرة مركزها الرجال والضحية ، يتسع محيطها تدريجياً ، وأخذ يتقدم ، ويتأخر ، وينحني ، ضاق محيط الدائرة فجأة ، وضرب الخروف من جانب ، ثم دار ليطارد الجانب الآخر ، ونغزه ، وانفجرت الضحكات حتي استلقينا ، إنه ينازل خصماً يرج في جسده قوته الكاملة ، إنه يحطب ، فشل الذين يحرسون ارتفاع الخروف في السيطرة علي ضحكاتهم ، سوي العم عدلي ، ولانت أطرافهم ، وانسحبوا من تلقائهم ، ظهورهم المقوسة ، وأيديهم التي علي بطونهم ، فواجه العم عدلي خضوعه لحراسة ارتفاع الخروف منفرداً ، صمد قليلاً ، ثم فشل في التوفيق بين قوته ووزن الضحية الميتة ، فصاح في حدة :
- الحقوني !
نهض الجمل مذعوراً ، وترنح جسد الضحية ثم استعاد توازنه ، كانوا قد أدركوه ، واستأنف العم عدلي من داخل هياجه جاداً ، ولاهثاً :
- اخلص يا عم زكي ، نحبوا علي رجلك ، اخلص !
دخل جزارنا بروتوكول تجربته الأولي من نوعها قبل الأخير ، السلخ ، ولابد من تعمية تفاصيله ، والإبقاء علي فراغات داخل الكثافة السردية ، تكريماً لذكري العم زكي .
لقد كان بوسع الرجل أن يجعل مني بشكل خاص نباتياً ، وكان بوسع أمي أن تفصل ، وهي تتمتم ببعض اللعنات ، الكثير من كيلوات اللحم الملتصق بالفروة ، أو ما قدَّرت أنها الفروة ، لقد جعلت منها سكاكين العم (زكي) منخلاً ، ولقد رفض الرجل علي غير عادة الجزارين أخذها ، ربما لإدراكه أنه ليس من اللائق بأية حال أن يأخذ الجزار ثلث لحم الذبيحة .
كان الضوء ينحسر عندما انتهي العم زكي من فصل ما تيسَّر من اللحم ، وكانت ملابسه قد أصبحت جزيرة ً حقيقية من الشعر والدم ، وقال وهو يتصبب عرقاً :
- أهو الخروف مدبوح والستة والتمنطاشر . الناس عاملين الجزارة واعرة !
كيف تطيب الحياة بعد هكذا طيبين ؟
قال لأبي أيضاً ، بعد تقطيع ما تيسر من أوصال الخروف ، بلهجة من تذكر شيئاً :
- الراس ، نسينا الراس !
صاح أبي جاداً :
- أمانة لاه يا عم زكي ، بارك الله فيما رزق !
حدث ذلك بعد أذان المغرب .
رحل العم زكي المرحوم ، وتوقفت سكينه إلي الأبد ، عصاه أيضاً .

(56)

في مساء الخميس الثالث عشر من نوفمبر والقرن الواحد والعشرين يتسكع في نقطته الثامنة ، أحدث موتوسيكل عبد الفتاح جزيرة ً حقيقية ً من التراب في سماء فرشوط ، لقد عاد وجهه إلي مائدته المعتادة قبل عام ٍ وبعض العام ، تغيرت خلالها ألوان اهتماماتنا ، وأصبح مرض أبي في الزاوية المحدودة غير المعتني بها .
كان ذلك تعقيباً علي عامين وبعض العام من الخداع المنظم ، مارسه الرجلُ علينا برهافة ٍ بالغة ، وفك البيتُ التحامه بالموت ، ونظفنا بدورنا البيت تماماً من تلك المفردات التي كان لابد له منها ، القبر وإسماعيل الفحار والجنازة .
أشتبه أنني رأيت وجهي علي خاصرة دمعة ٍ من دموع عبدالفتاح ، وكنت محتاجاً إلي ردِّ الفعل لأستطيع أن ألقي بالحقيقة المؤكدة ، والمتوقعة ، لكن المؤلمة ، علي رؤوس المسلمات :
_ أبوك تعبان !
في البيت كان الحزن يهيمن ، وهالة من الشؤم تطوق النوايا ، والهالات السوداء تسيج العيون ، ووحدة السياق ، نقلنا غيبوبة أبي إلي مستشفي نجع حمادي الأميري ، وكان طبيب الاستقبال غبيا بما يتسع ليعتقد أن غيبوبته تعقيب ٌ علي مستوي السكر المنخفض ، والتقطت خيط رجاء من بين غابة ٍ من الخيوط المتشابكة . والمتشابهة إلي حد بعيد .
لكن قبل أن تتم نقاط ُ الجلوكوز عطاءها في وريده ، توقف فوق الجذور ، وتراجعت الجدران أمام تقدم عينيه ، واضطرب جسدُه فجأة ً وشخصت عيناه .. ثم تدلي لسانه ، وظهرت فجأة ، ثم اكتملت في عينيه الجبال البعيدة .
عدنا للمرة الأولي بدون أبي ، لم يكن في البيت ثغرة سوي السرير الذي جلس عليه ، اتخذت من الذهول دريئة ًمن الانفجار ، وخيل لي أنني أحلم حلماً سخيفاً ، والتقط الحلمُ صوراً منجمة ولكن واضحة ، رأيت أطفالاً يجلسون علي حواف التين الشوكي ، وخياماً عارية ً ، ومداخن ، وأغربة ً تتسلق حنجرة َ الدومة ، ثم .. ضربت حواسي فجأة ، صرخة جدتي الملتاعة :
- رفعت ، رفعاات ، يا رفعاااااااات !
انهار ذهولي تماماً ، لقد أفلت أبي البالونات كما في الوداع تماماً ، تماماً .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29/10/2012, 02:07 AM   #18
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(57)

كانت نهاية أبي تتواكب في أحلامي لعام ٍ وبعض العام ، فاستطاع ذهني أن يواكبها ، وربما بدقة ٍ أكثر استطعت أن أحدد العمق الأليف للموت في حضوره الهائل السعة فأصبح أليفاً وغلفت الاستهانة به حواسي .
هذا شكَّل لي صباح يوم الجنازة مشكلة ً هائلة ، ذلك أن عينيَّ تحجرتا تماماً ، وهذا بحماية التقاليد الأهلية محرض علي الرجم بغابة ٍ من الشكوك في محبتي لأبي ، بل الرجم برغبتي في إقصائه ، وقد يطال الشك نزاهة َ أمي ، إلي حد ٍّ يمكنني من أن أسمي ذلك التقليد الصارم تناذر الجنوب .
هم لا يصدقون أن الحزن الصعب ، يعطل مجري الدمع بتصرفات مرتفعة ، وأن لجفاف العيون عند الحاجة ، غابة من النقاط الإضافية في المقاييس الطبية لدلالات الحزن الصادق .
استعرضت ُ ألوان الذاكرة ، فلم أعثر علي جرح لم ترممه غابة ٌ من الدموع المتزامنة حتي لا يتسع لقطرة ٍ طازجة .
حاولت أن أطارد شبه أبي البشري تحت أيدي الذين يغسلونه ، وطردت الصور تباعاً ، وشحنت عينيَّ بحيِّز ٍ داخليٍّ لأتحقق من وجودهما وفشلت في العثور علي نبع ، وشعرت بمأزقي الذي أسير إليه منفرداً .
انحسر الخجل ُ فجأة ً عن آلية ٍ سرية ٍ تفتح باباً لخلاصي .
كان الخلاص صاخباً حتي كأنه هدوء ، أصوات النادبات ، وأصغيت إلي ماضيِّ في ظلال أصواتهن ، وفصل ذهني الأصوات سريعاً ، وعزل صوت الخالة " سنية" ، الحاد المميز وتفاعل معه :
- يا مغسلو لبسو الدبلة .. دا أصلو كان في البلد عمدة .. ووووووووووووه !
نشط مجري الدمع ، وابتلت المرئيات تماماً .
- يا مغسلو لبسو الخاتم .. دا أصلو كان في البلد حاكم .. ووووووووووووه !
وانفجر مجري الدمع .

(58)

وأنا أنظر الآن إلي الوراء ..
تعتري حواسي موجة من الإحساس بالذنب حيال استجابة عينيَّ المتأخرة حيال أبي ، وتحت ضغط أجير ، تمثَّل في سلة ٍ من الكلمات المطروقة وضعت ماضيَّ في إطاره الصحيح ، مستقبلي أيضاً .
لقد شكَّل صوت الخالة بما شحنته من حزن ٍ صناعيٍّ مرآة كبيرة ً ، رأيت في لحمها بما لا يدع مجالاً للشك موت أبي في إطاره .
يضخم من هذا الاحساس بالذنب ، يقين ٌ درجت علي يقينيته ، وهو أن حزن النساء الأجير في المآتم ، هو اتفاق ٌ غير مكتوب ٍ بين النساء علي مقايضة الحزن عند الحاجة ، نقوط ٌ من الدموع يلزم رده عند الحاجة ، لا يبكي النساء الميت َ، وإنما يبكين ميتاً خاصاً ، ولا يقوم دليلاً علي ذلك أتم امتلاءاً ، من تزاحمهن عقب انكسار حدة الغياب ، حول حزمةٍ من الأحاديث المفككة ، وربما بدقة ٍ أكثر قبل أن يعمر الميت قبرَه حول الحديث عن الأشياء التي تلتصق بمشروعية بيوميهن ، تزاد وتيرة النسيان وعدم اللياقة تدريجياً حتي تتماسك الأحاديث وتتسلل بعض الضحكات إلي حواف المأتم ، تتوغل إلي مركزه سريعاً ، ولهذا لم يسلمن من الخضوع لذلك التقليد الدوميِّ الخاص ، أو السخرية لا أكثر .
يزعم الدوميون أن امرأة ما في عزاء ٍ ما مزدحم ٍ بغابة ٍ من النساء ، أطلقت ريحاً ، وهذا في كل ِّ بلاد المسلمين حادثٌ أليف.
ولكنه في الدومة لابدَّ له أن يتخذ الشكل ً الذي لابدَّ له منه .
يزعم الدوميون ، أن قائدة النادبات عندما التقط أنفها خيوط الرائحة ، أضافت إلي منظومة الندب الشهيرة قولها بصوت منغم :
_ يللي عملـ .. تـ .. تـيها ، اطلعي برررررره !
وصاحت التي (عملتها) في صوت حاد :
_ غصب عني يخـ .. تـ .. تي ، ووووووووووه !
ألا لعنة الله علي الدوميين .

(59)

كان شبه ُ أبي البشريُّ يسير في النعش بخطوات سريعة إلي درجة ٍ لم تستطع معها خطوات الكثيرين .. الكثيرين جداً من المشيعين الأحياء أن تتحد بخطواته .
وكان الكثيرون .. الكثيرون جداً من الأطفال يسيرون خلف شَبَهِ أبي البشريِّ مولولين ، ربما كان ذلك تعقيباً علي وجه حنانه المدوَّر ، واكتراثه بطفولتهم اكتراثه برجولة الرجال حول النار الحرَّة ، وربما ، وهذا هو الأرجح ، كان تعقيباً علي تحريض ٍ مدبَّرٍ من النوايا القريبة ليحظي شبهُ أبي البشريُّ بوداع ٍ لائق .
أضفي عبد الفتاح بإغماءاته المتكررة ، اتساعاً هائلا علي المشهد .
وكان الترابُ يعكسُ السماء ويشوِّهها .
وذلك اليتمُ المدوَّرُ لإسلام ، منح نفسي ببطءٍ الشكلَ الذي يجسِّدُ مخاطرَ المستقبل .
لا يكفي اللجوء إلي الانطباعات لتحويل الأشياء الإنسانية إلي قصيدةٍ كلامية.
كانت الجبانة ساكنة إلا من نباح الكلاب ، وكانت أشكال القبور تدعم ببساطةٍ العلاقة بين معتقداتنا الخفية ومعتقدات أجدادنا البعيدين ، مسطحات طينية تعكس في الذاكرة أشكال التوابيت الفرعونية تماماً ، لولا أنها سطحية .
والحق .. أنهم لو كانوا يثقون بالبقاء المحض بعد الموت ، لما استطاعوا أن يفكروا في مجردبنائها نفسه ، وإلا ..
ما معني أن نبكي عابراً ، سواء كان يسير نحو الأفضل أو الأسوأ .
وددتُ ، لينسجم المشهدُ ، لو تمكنت من أن أضع ، بشكلٍ اعتباطيٍّ ، علي الرمال الصفراء بعض الأوراق الجافة . وهيهات .
عمَّرَ شبه أبي البشريُّ قبل ظهر الجمعة قبره ، وتكاتف الذين أوراقهم أقدم من أوراقه بالكثير ، وأهالوا عليه التراب ليؤكدوا غيابه .
ورأيته فجأة ، يترهلُ بين أسيجة الجبانة ، سعيداً ومتفائلاً ، رافعاً رأسه كأنما يطاردُ نجماً في السماء ، وجهه أبيض كحلم هيملايا ، ولم أشأ أن أجرحَ كبرياءه في نفس اللحظة .
وفي نفس اللحظة ، اختلط صوتُ المقرئ بغابةٍ من الأصوات الداخلية ، تتدفق من ذلك البهو السحيق من الزهور الذابلة ، استبعد ذهني المألوف منها وعزل الغريب ، وفصل الصوت الأعلي نبرة :
الكلُّ في واحد
عندما يصيرُ الوقتُ خلوداً
سوف نراك من جديد
لأنك صائرٌ إلي هناك
حيثُ الكلُّ في واحد

(60)
بقيَ مشهدٌ آخر وأخير وعالق ، ومعلقاً لا يزال كالخنجر في ذاكرتي ، يعكس الصورةَ كاملةً ، ويشوِّهها كصورةٍ مرتجلة في الوقتِ نفسه .
تشكَّلَ المشهدُ ببطء سريع ، أو ربما بدقةٍ أكثر تشكل منجَّماً ، وتجلَّي لنا كاملاً بعد عودتنا بدون أبي مباشرةً ، وكان آخر عهدنا بالطعام عصرُ اليوم السابق ، وكان الكثيرون من الدوميين قد أتونا بالطعام ، ولأبي السابقات ، كنوع ٍ من حراسة جذور الإخلاص لعادةٍ ، في طريقها إلي الذوبان ، بفضل سلةٍ من المشبوهين الذين يتزاحمون مؤخراً ، حول جملةٍ بغيضة :
- من شال عزَّي !
وهذا يقتضي اختزال طقوس العزاء الكثيرة ، في السير خلف النعش حتي الجبانة لا أكثر .
لقد انقضت الأيام الجميلة ، حيث كان الواجب يجثم علي الدوميين جثوم العادة .
وهذا يقتضي أيضاً ، وهذا هو الأهم ، أن تتبخَّرَ مساحة هائلة ، من فرص المؤازرة التي تباشر تربية الودِّ وتذويب الخلافات برهافة ٍبالغة .
بعد أن جلسنا موزعين حول الموائد ، انتبهنا إلي غياب بهاء ، وطال سطوحَنا الاستياء ، ثم تحت السطوح ..
طالنا القلق ، ربما كان إحساسنا الهائل بحضور الغياب في تلك اللحظات قد صعد بالأمر إلي ذروة ٍ لا يستحقها .
نشط المضيفون للبحث عنه ، مخفضين الأمر إلي تافهٍ ، ويرجوننا أن نواصل الأكلَ ، وكنوع ٍ من الحرص علي التماهي معهم ، أخذ كلٌّ منا قطعةً من الخبز في يده ونهضنا.
وبهذا يكون واجبهم قد اكتمل ، ونكون المطالبين بالردِّ لوقت الحاجة .
سألنا كلَّ المقربين منه ، بحماية الصداقة ، وأكَّدَ كلُّ المقربين منه أنه رفض ركوب أيِّ سيارة ، رفض أيضاً أن يرافقه أحدٌ في طريق العودة من الجبانة إلي الدومة ، سيراً علي الأقدام .
نوعٌ خاصٌ من ممارسة الحزن .
ذهبنا في سيارةٍ لإحضاره ، وجدناه في منتصف الطريق ، وجدناه متوسطاً .

(61)

والآن ..
إنني انتبه تماماً إلي أنه ليس يوجد أحدٌ يستطيع أن يجترح استبصارات الماضي فضلاً عن المستقبل ، خاصة إذا كان ذلك الماضي ينطوي علي غابةٍ من التقاطعات الحادة ، كذلك ليس هدفي هو تحريك الماضي ، وإنما هدفي هو انتهاك ما في نيته من خطر ٍ علي المستقبل .
وإنني أمسك الآن ، بالقليل من الحزن يتبدد ، بعد أن ألقيتُ بالقليل من التكلسات الداخلية المزعجة فوق رءوس الكلمات ، وإن كانت التعاسة لا تزال حية ً، تتشبث بامتلائها .
وجدل الفارغ والممتلئ ، وإن كان جدلاً بين وهمين ، في مقدوره أن يرشد الظلال الخاصة إلي فلسفة ٍللكون ، ولا أشك أن الأيام لا تكفُّ عن ممارسة التوازن بين منطقة الممتلئ والفارغ بشجاعةٍ صلبةٍ ، ولا أشك أن نيتي في أن أعلق وردة من الكلمات في عروة شبه أبي البشريِّ والآخرين ، تعقيبٌ علي توازن ركيكٍ ، تشكل في تلك المنطقة بين الفارغ والممتلئ .
وإن هذه المنطقة تصبح ، بالنسبة للخيال ، مكاناً ملائماً للعزلة والتعهد والبحث عن الذات .
ذلك أنَّ السيد " محمد البو عزيزي " أشعل النار في كومته الصغيرة من الأسرار ، والمخاوف ، والأحزان ، والأحلام المجهضة ، وطارت طرق دخانها إلي الكثير من الهواء المنفتح للإلهام والتحدي ، فاشتعل العالم مكاناً أفضل للعيش .
وذلك أن موقدنا العائليَّ ، قد تجاوز غياب أبي في إطاره الخارجيِّ .
وأن أرضنا الآن تستأنف من جديد عطائها .
العصارة أيضاً .
وأنّ الطريق إلي بيتنا أصبحت مجدداً صاعدة .
ولا نزال هناك .
ولا نزال نتلقي عطاء النار في ليالي الشتاء ، ولا تزال سهراتنا تذكرني بما يشبه الطعن ، حتي أنها تنسي في جيبي الكثير من طعناتها ، برائعة فيروز :
إسهار بعد إسهار ، تا يحرز المشوار
كتار هو زوار ، شوي وبيفلو ، وعنا
الحلا كلو ، وعنا القمر بالدار ، وورد وحكي وأشعار ........
وعندنا رفعت عبدالباسط ، محمد عبدالباسط ، أحمد عبدالباسط، جمال عبدالباسط ، حمدي عبدالباسط .
وعندنا نبيل عصام قنين ، نعمان عصام قنين ، عاطف عصام قنين .
وعندنا أيضاً .. حازم رفعت ، سحر حازم رفعت ، عبدالوهاب رفعت ، عبدالفتاح رفعت ، بهاء رفعت ، إسلام رفعت .
وعندنا غابة ٌ من ذكريات العابرين المشتركة في الزاوية غير المحدودة ،
والمعتني بها تماماً .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:52 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.8 Beta 1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
3y vBSmart
جميع الحقوق محفوظة لـ منتديات إملاءات المطر الأدبية - الآراء المطروحة في المنتدى تمثل وجهة نظر أصحابها