عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 02:07 AM   #17
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

أبي الذي لم يكن لديه أدني فكرة عن مصير الخروف تمسَّك بالصمت التام ، لابد أنه كان يسترخي فوق أمنيةٍ ، أستطيع الآن أن أجد لها تعريفاً ، الرغبة في نهاية للموضوع برمته بأيِّ شكل .
امتصني الحقد علي الرجل تماماً ، إنه برفضه الأخير ، لم يذبح الخروف فقط ، بل ذبح أيضاً ، يوماً كاملاً من أمواج الهواء التي تنحسر عن خزانة من الأحلام البهيجة ، ذبح أرجوحتي ، كنت بطقس بسيط ، أتردد في خزانة الأحلام الموسمية ، فقط أضع ، بعد إنزال الذبيحة ،عصاً قوية بين طرفي المجوز ، ثم أدق الهواء المفعم بالأساطير .
استعاد ، فجأة ، بريق عيني العم زكي انتظامه ، واختبر الدخول إلي البروتوكول الأصعب ، الأصعب بالنسبة لرئته الهرمة طبعاً ، انحني ، ورقد علي الروث المتحلل ، واتزن اتجاه رقدته بمحاذاة الخروف ، برك الجمل أيضاً ، التقط ما اشتبه في أنه باب الأمعاء ، ثم نفخ ، ونفخ ، وتابع النفخ ، وانخرطت في مراقبة نموِّ سطح الخروف ، قبل أن تقرأ عيناي ارتفاع السطح ارتفاعاً لائقاً ، قرأتا فجأة هبوطه إلي نقطته الأولي ، وسمعت جزارنا يسعل في إيقاع حاد ، لا يخشي ضغط الزمن ، ثم اعتدل ، ظهر وجهه فجأة ، ثم اكتمل ، فاشتعل المكان كفضيحة ، لقد سال شلال حار من الضحكات الآمنة ، التي لا تقيم وزناً لأيِّ تعقيب مهما كان ضارياً ، أبي أيضاً ، لكنه ضحك مشوب ، لقد أصبح فم العم زكي ، وشاربه الأبيض ، ونصف وجهه ، جزيرة حقيقية من اللون الأحمر وشعر الذبيحة ، يبدو أن هذا كان تعبيراً ضرورياً عن خطأه في تحديد الموضع الملائم لذبح الذبيحة ، أو تحديده الباب الملائم للأمعاء ، لم أفهم علي أية حال .
كانت ضحكاتنا لا تزال في ذروة النقطة ، وكان العم زكي لا يزال يمسح من الدم أشياءه ، عندما اقترح الولد عصام رغبته الممنهجة في مساعدة الرجل :
- عنك إنتا يا عم زكي ، وسع لي هفة !
تساءل العم زكي ، وهو يلهث :
- إو تعرف ؟!
كأن معرفة الشئ قبل الإقدام عليه ضرورية في عرفه الدارج .
لا يوجد شخص خاص لعمل خاص ، هذا صحيح ، لكن ليس إلي درجة الهجوم متأخراً ، ودون درع لائق ، علي مسارات الآخرين الصعبة .
أكد الولد عصام معرفته ، فأفسح له العم زكي مكانه ، ورقد هو ، وتظاهر بالعثور علي الباب الملائم ، ونفخ ، وتابع النفخ في بالونة غامضة ، دون أن يطرأ تغييرٌ علي السطح ، ولكن الجدار الغامض في طريق زفيره ، جعل وجهه يحتقن ، ظن العم عدلي الطيب ، أن فشله الواضح تعقيبٌ علي مرض الربو ، ونصحه قائلاً :
- يا ولدي ، إنتا عندك النهتة ، مش هتقدر ، قوم !
لكنني ، بحماية معرفتي بأساليب الولد عصام ، أستطيع أن أؤكد الآن ، أنه اقترح المحاولة من جذورها ، ليتساءل ، ببراءة ، عقب فشله المدبر :
- عم زكي ، يكون ممباره مخروم ؟!
تجاوز إيقاع الضحك ذروة النقطة الرائجة ، وضحك أبي حتي أن السعال انزلق في شقوق ضحكاته ، هذا دفع الكثيرين من المارة في شارع العيد الذي أصبح نشطاً ، إلي التوقف لبعض الوقت ، من بعيد ، فوق الجذور للفرجة ، ثم توافدوا علي استحياء ، وانخرطوا في مأساتنا ، يراقبون الدم المتخثر ، ويضحكون ، دون أن يدركوا سبب ضحكنا ، والضحك علي الدوام محرض علي الضحك .
لقد تجاوز الولد عصام الخروف علي حافة التعفن ، ليس فقط إلي مجرد القليل من اللحم ، نسترخي فوق معجزة ، يواصل جزارنا فشله في العثور علي تعريفٍ لها ، بل إلي لحم تمَّ حشوه ، ثم استأنف قبل أن تنزلق الضحكات إلي منتصف النقطة ، بينما يمسح الكثيرون عيونهم الدامعة :
- عم زكي ، لازم تنفخ يعني ، ما تصلخ علي طول ؟!
ارتفعت الضحكات مجدداً إلي ذروتها ، وصاح العم زكي جاداً :
- عمرك يا ولدي ، شفت جزار يصلخ البهيمة قبل ما ينفخها ؟!
التحم سريعاً ، تساؤل الولد عصام المرح ، بنهاية طرف تسائله :
- شفت ؟!
انحسر تساؤله عن عاصفةٍ من الضحكات العصبية ضربت حوشنا ، تخلخل الاستغراق فيها قليلاً ، فصاح العم زكي جاداً ، في لهجة تقريع واضحة :
- قاعدين تضحكوا ، عشرين نفر ، ما قادرينش تنفخوا هبابة خروف ؟!
قدمنا تقريعه علفاً للضحكات الحية ، عيوننا الغارقة ، أكفنا التي علي بطوننا ، كأنه يريد إخضاعنا لفشله هو .
اقترح العم عدلي ، تفادياً لمأزق رئته المنهكة ، أن ينفخ جزارنا الخروف نفخاً منجماً ، هو يعني أن يدفع هواء زفيره في الممر الهوائي بقدر استطاعته ، ثم عليه .. عندما يلمس إجهاد رئتيه ، أن يغلق الممرَّ بإصبعيه ، تفادياً لتسرب الهواء المحتجز إلي الهواء الحر ، ليتابع ، بعد أن يستعيد حيويته ، من حيث انتهي ، هكذا يفعل الجزارون الحقيقيون أحياناً .
كان تدبيراً رائعاً ، أحرز بفضله العم زكي بروتوكولاً آخر ناجحاً ، واكتسب نقاطاً إضافية في مقاييسنا لمهارات المبتدئين ، لكن الوقت ينفذ ، كان قد استرخي فوق نجاحه ، علي مشارف العصر .
تسلل ، فجأة ، إلي حوشنا ، سيدنا " أبوبكر " ، وسيدنا " عمر " ، وسيدنا " أبو هريرة " ،وأمنا " عائشة " ، وضحكاتنا لا تهدأ ، لقد أخذ حديث جزارنا المزيف منحي فقهياً ، يدور حول محور واضح ، يجوز ذبح الضحية في اليوم الثاني من العيد .
أمي التي كانت تحصي .. لا تزال ، متاعبها القادمة ، أعانتني علي حمل الحصير غاضبة ، وضحكات جدتي تتجدد ، أعانتني أيضاً علي اتزان اتجاهه فوق كتفي ، ورتبت لي خروجاً آمناً من الباب الموارب .
عدت ، لأجد بعض الضحكات النشطة ، وأجد العم زكي متكئاً علي غصن جاف قويٍّ من شجر السنط ، يكتظ سطحه بالنتوءات الطبيعية ، والقليل من كتل الصمغ المتحجر ، متأهباً ، والرغبة المحمومة ، للدخول إلي أبسط البروتوكولات علي الإطلاق ، وأحبها إلي قلبه بشكل خاص .
بسط العم عدلي الحصير علي الروث المتحلل بعشوائية ، ثم نقل والآخرين ، جسد الضحية المتورم إلي سطحه ، وتماشياً مع زاوية العم زكي المريبة للنظر إلي أساليب الذبح الحديثة ، تكاتفوا ، ورفعوا الخروف من رجليه الأماميتين بطول قامة العم عدلي الأقلّ طولاً ، اتزن خط ارتفاعه تماماً ، فأصبحوا ، كأنهم والضحية في عناق صحيٍّ .
أبي الذي ، ربما كان يدرك ما وراء الكواليس ، انخرط في الضحك مبكراً ، وربما لحداثة الصورة الزائدة عن الحد ، الولد عصام أيضاً ، ربما كان يلمس شيئاً في الظلِّ ، فقد استعرض ألوان استعداده للقيام بضرب انتفاخ الخروف منفرداً ، فغضب منه العم زكي غضباً حقيقياً ، وصاح به جاداً :
- إو هو لعب ؟! ، تتصدر في الساهلة ، والله العظيم ما تضرب ضربة !!
أيها العم ، فليهدأ قلبك ، إنه مجرد عرض لا أكثر .
كان الانطباع هو الإيمان بالإطار كلعبة يمارسها الرجل حقيقية .
استدار هذا اليقين في أذهاننا حتي صار منعزلاً ، يمكن الاطمئنان إلي صحته ، عندما رفع العم زكي العصا ، واشتعلت عزيمته فجأة ، ثم بدأ في الدوران في دائرة مركزها الرجال والضحية ، يتسع محيطها تدريجياً ، وأخذ يتقدم ، ويتأخر ، وينحني ، ضاق محيط الدائرة فجأة ، وضرب الخروف من جانب ، ثم دار ليطارد الجانب الآخر ، ونغزه ، وانفجرت الضحكات حتي استلقينا ، إنه ينازل خصماً يرج في جسده قوته الكاملة ، إنه يحطب ، فشل الذين يحرسون ارتفاع الخروف في السيطرة علي ضحكاتهم ، سوي العم عدلي ، ولانت أطرافهم ، وانسحبوا من تلقائهم ، ظهورهم المقوسة ، وأيديهم التي علي بطونهم ، فواجه العم عدلي خضوعه لحراسة ارتفاع الخروف منفرداً ، صمد قليلاً ، ثم فشل في التوفيق بين قوته ووزن الضحية الميتة ، فصاح في حدة :
- الحقوني !
نهض الجمل مذعوراً ، وترنح جسد الضحية ثم استعاد توازنه ، كانوا قد أدركوه ، واستأنف العم عدلي من داخل هياجه جاداً ، ولاهثاً :
- اخلص يا عم زكي ، نحبوا علي رجلك ، اخلص !
دخل جزارنا بروتوكول تجربته الأولي من نوعها قبل الأخير ، السلخ ، ولابد من تعمية تفاصيله ، والإبقاء علي فراغات داخل الكثافة السردية ، تكريماً لذكري العم زكي .
لقد كان بوسع الرجل أن يجعل مني بشكل خاص نباتياً ، وكان بوسع أمي أن تفصل ، وهي تتمتم ببعض اللعنات ، الكثير من كيلوات اللحم الملتصق بالفروة ، أو ما قدَّرت أنها الفروة ، لقد جعلت منها سكاكين العم (زكي) منخلاً ، ولقد رفض الرجل علي غير عادة الجزارين أخذها ، ربما لإدراكه أنه ليس من اللائق بأية حال أن يأخذ الجزار ثلث لحم الذبيحة .
كان الضوء ينحسر عندما انتهي العم زكي من فصل ما تيسَّر من اللحم ، وكانت ملابسه قد أصبحت جزيرة ً حقيقية من الشعر والدم ، وقال وهو يتصبب عرقاً :
- أهو الخروف مدبوح والستة والتمنطاشر . الناس عاملين الجزارة واعرة !
كيف تطيب الحياة بعد هكذا طيبين ؟
قال لأبي أيضاً ، بعد تقطيع ما تيسر من أوصال الخروف ، بلهجة من تذكر شيئاً :
- الراس ، نسينا الراس !
صاح أبي جاداً :
- أمانة لاه يا عم زكي ، بارك الله فيما رزق !
حدث ذلك بعد أذان المغرب .
رحل العم زكي المرحوم ، وتوقفت سكينه إلي الأبد ، عصاه أيضاً .

(56)

في مساء الخميس الثالث عشر من نوفمبر والقرن الواحد والعشرين يتسكع في نقطته الثامنة ، أحدث موتوسيكل عبد الفتاح جزيرة ً حقيقية ً من التراب في سماء فرشوط ، لقد عاد وجهه إلي مائدته المعتادة قبل عام ٍ وبعض العام ، تغيرت خلالها ألوان اهتماماتنا ، وأصبح مرض أبي في الزاوية المحدودة غير المعتني بها .
كان ذلك تعقيباً علي عامين وبعض العام من الخداع المنظم ، مارسه الرجلُ علينا برهافة ٍ بالغة ، وفك البيتُ التحامه بالموت ، ونظفنا بدورنا البيت تماماً من تلك المفردات التي كان لابد له منها ، القبر وإسماعيل الفحار والجنازة .
أشتبه أنني رأيت وجهي علي خاصرة دمعة ٍ من دموع عبدالفتاح ، وكنت محتاجاً إلي ردِّ الفعل لأستطيع أن ألقي بالحقيقة المؤكدة ، والمتوقعة ، لكن المؤلمة ، علي رؤوس المسلمات :
_ أبوك تعبان !
في البيت كان الحزن يهيمن ، وهالة من الشؤم تطوق النوايا ، والهالات السوداء تسيج العيون ، ووحدة السياق ، نقلنا غيبوبة أبي إلي مستشفي نجع حمادي الأميري ، وكان طبيب الاستقبال غبيا بما يتسع ليعتقد أن غيبوبته تعقيب ٌ علي مستوي السكر المنخفض ، والتقطت خيط رجاء من بين غابة ٍ من الخيوط المتشابكة . والمتشابهة إلي حد بعيد .
لكن قبل أن تتم نقاط ُ الجلوكوز عطاءها في وريده ، توقف فوق الجذور ، وتراجعت الجدران أمام تقدم عينيه ، واضطرب جسدُه فجأة ً وشخصت عيناه .. ثم تدلي لسانه ، وظهرت فجأة ، ثم اكتملت في عينيه الجبال البعيدة .
عدنا للمرة الأولي بدون أبي ، لم يكن في البيت ثغرة سوي السرير الذي جلس عليه ، اتخذت من الذهول دريئة ًمن الانفجار ، وخيل لي أنني أحلم حلماً سخيفاً ، والتقط الحلمُ صوراً منجمة ولكن واضحة ، رأيت أطفالاً يجلسون علي حواف التين الشوكي ، وخياماً عارية ً ، ومداخن ، وأغربة ً تتسلق حنجرة َ الدومة ، ثم .. ضربت حواسي فجأة ، صرخة جدتي الملتاعة :
- رفعت ، رفعاات ، يا رفعاااااااات !
انهار ذهولي تماماً ، لقد أفلت أبي البالونات كما في الوداع تماماً ، تماماً .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس