عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 02:06 AM   #16
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(55)

وأتذكر أن أبي كان ينتظر في الساعات الطليعية من صباح عيدٍ من أعياد الأضحي جزاراً لايحتاج إلي الوقائعية للحكم علي انتظار بيتنا الموسميِّ له ، وتأخر كثيراً ، لقد أضاف الكثير من النباتيين القدامي أعباءاً جديدة إلي أعبائه ، وبدأ الضيقُ استحواذه علي أبي ، وأرسل عصام للبحث عنه في مظانه العالقة بالطقس ، والمعقدة في ذلك الوقت ، ويبدو أن عصام قد مرَّ بالجيب القبليِّ من الدومة ، فارتطم بالعم زكي يلاعب نفسه السيجة كالعادة ، فسأله ببساطة .
_ ما شفتش فوزي الجزار ياعم زكي ؟
ويبدو أن تعبير الكسل علي وجه العم زكي تحلل إلي اهتمام
_ عاوزه ليه ؟
_ عشان يدبح خروف عمي رفعت
ويبدو أن العم زكي في لحظة واضحة من لحظات العجز عن مراقبة العواقب قال
_ وليه فوزي ؟ .. ما انا جزار
ولابد أن يكون ذهن عصام قد تذكر مساره المهني من تربية المزاح ، أو تربية الذرائع لخلقه ، فقال للرجل وهو يبتسم ، وعيناه تنظران في الفراغ البعيد
_ يللا بينا .. الراجل مستنيك !
وحطَّ عصام بالقرب من ضيق أبي في حوشنا الذي سوف يكون في المستقبل النقطة الأولي التي ستتمدد خلفها العصارة حتي الطريق الذي يشطر الدومة إلي قسمين ، وخلفه العم زكي بقامته القصيرة يقبض بإحدي يديه علي سلة من السكاكين المختلفة الأشكال ، والتي يبدو أنه ادخرها ليوم يضئ فريسة ، ولسوء طالعنا أضاءنا له الولد عصام ببساطة ، قال ووجهه محتقن بفعل استحواذ فشله في السيطرة علي ضحكاته .
_ ما لقيتش فوزي الجزار . جبت عمي زكي الجزار !
ورأيت اهتزازات جسده وهو يستدير خلف عيني أبي ، فأدركت أنه يضحك .
كانت تعابير وجه أبي تنطق بالشك لثوان ٍ ، ولكن نظرته التي ارتطمت بسكاكين الخالة " محمودة " ، حللت تعابير الشك إلي غابةٍ من التعابير المتباينة ، استطعت أن أميز منها بوضوح ٍ شديد ، تعبير الخجل الصعب من الرجل المسنِّ الذي ادَّعي ، فجأة ، صلاحيته لممارسة الجزارة ، وربما بدقةٍ أكثر ، الرجل الذي يتجاهل أفكارنا السابقة عنه ، ويريد أن يمارس تجربته الأولي من نوعها في عيدنا ، وربما بدقةٍ أكثر وأكثر ، الرجل الذي يلاعب نفسه السيجة صباح مساء في ظلال بيته ، وسعياً وراء الجديد ، يريد أن يلاعب نفسه خروفنا .
استطعت أن أميز منها أيضاً ، تعبير الرغبة العارمة في أن يضرب عصام ضرباً يمطر في أوجاعه ، بل الرغبة تامة الدوائر في قتله دون مراقبة العواقب علي الأرجح .
توقف انخراطه في الدهشة فجأة ، وأدرك أن خروفنا يواجه واقعاً يجب إلغائه ، واتسعت المساحات البيضاء في عينيه ، وأشاح بوجهه ناحيتي ، وظهر غيظه فجأة ، ثم اكتمل ، وقال بصوت يراعي شراع الرجل من موجة حرج تضرب حواسه :
_ أحسن !
وتملَّكني الرعبُ ، لقد كنت أدرك ، ليس بالغريزة وحدها ، بل بفضل غابةٍ من التجارب السابقة أن أبي حين يستبد به الغضب من شئ لا يملكه ، يفتت ورده اللاسع في أوجاعي أنا ، حتي فونيا ماكينة الري ، كان حين يفشل في إصلاحها ، يغضب من فشله في التوفيق بين أدواته الميكانيكية البسيطة ، وتطلب أعطال الفونيا الصعبة ، ويجد التعبير عن ترميم لجرحه في إضاءة فريسة ، أيِّ فريسة ، ليس بالضرورة أنا ، ولسوء طالعي أنه كان يفشل في إصلاحها كثيراً ، وكان يحبني كثيراً ، وكان وجه حنانه المدور هو الآلية السرية التي تفتح لي ، وللكثيرين ، بوابات الانسجام مع الحياة ، لا تحدِّيها ، وكنت لا أستطيع أن أكمل دوائري إلا بقربه .
هدأ قلب أبي قليلاً ، ليستطيع أن يمسك بقدر لائق من المشكلة يصعب تحديده ، ثم يفكر في حلٍّ لها علي ضوء هادئ ، ربما لأن الشمس الزائدة عن الحد ، كافية علي الدوام لتعمية الشجرة عن قلب العاصفة . دعا العم زكي إلي الجلوس وطقوس الشاي ، وبعض السجائر ، قبل الدخول من باب تجربته الأولي من نوعها ، واسترخي فوق معجزة .
كنت قد اختبرت الطريق إلي بيتنا ، استجابة لأمر من أبي باستدعاء الشاي ، ونقلت إلي أمي وجدتي الصورة كاملة ، فاشتعل البيت مكاناً أفضل للعيش ، لقد انهارت جدتي في الضحك من كلِّ زرقة قلبها ، أمي أيضاً ، لكن بتصرفات أقل زرقة ، كانت تحصي سراً متاعبها القادمة .
سمعت في طريق العودة ، وسمع الشاي الساخن ، همسات أبي العصبية في زاوية الشارع ، للعم عدلي بظيو ، يطالبه بإيجاد تعريف معتاد للمعجزة التي يسترخي فوقها ، بأسرع وقت ممكن .
جلست أراقب انكسار الولد عصام الصناعيَّ صامتاً ، وأرقب نموَّ خطة أبي لتعويق الرجل عن التجربة ، كان ينعطف بالحوار في العديد من المتاهات السائلة بلا طائل ، لعلَّ مجيئ جزارنا الحقيقيِّ ، يضع حداً لجنون رغبة جزارنا المزيف في اللعب ، فينتهي المأزق الذي وضع الولد عصام بكلِّ بساطة ، عيدنا في قلبه ، ويتظاهر بالإيمان الطليق أيضاً ، بكل كلمة تخرج من فم العم زكي النشط ، تتطاير الكلمات كالريش ، وتتداخل ثم تتلاقي ، لتشكل سرباً من سكاكينه التي فجرها في شرخ شبابه في رقاب البهائم ببلاد بعيدة .
لا أدري حتي الآن ، علي أيِّ ضوء كان يفكر الرجل في خداعنا ، ليس الأفضل علي الإطلاق ، إنه العم زكي ، نعرفه تماماً ، ونعرف تماماً أن مهارته القديمة في التحطيب هي أكثر أعماله مدعاة لفخره ، ثم يتضاءل كل شئ .
يؤكد لنا الدوميون ، الذين ذكرياتهم أقدم من ذكرياتنا بالكثير من الأعوام ، أنه ، برغم جسمه الضئيل ، كان أستاذاً من أساتذة التحطيب القلائل .. القلائل جداً في الدومة ، وأنه أذاب بالتدريب المكثف فنه في كل رجال الجعدية ، كان يضرب المبتدئ تعبيراً عن خطأه في أي مكان في جسده ، ويشتم أحياناً ، ولا ينال المبتدئ استحقاقه لدخول المعارك القادمة في خطوط المواجهة الأولي قبل أن يشتبك مع المعلم في معركة حقيقية ومتزنة ، غير أن تحديد اتزانها يكون رهناً لتقديره هو .
كان جهداً رائعاً ، شكَّل الكثير من العاهات للعائلات الأخري ، ثم أصبح مؤخراً بلا قيمة ، لقد وجدت العائلات الأخري ، بالصدفة المحضة ، لتعاليم العم زكي حلاً بسيطاً ، حلٌّ ينطوي علي الكثير من النذالة ، هذا صحيح ، ولكن لا يهم ، ما دام تعريف النصر في النهاية ، يقاس بعدد المصابين من الجانبين .
لقد انتهي زمن الفرسان ، أيام كان الجد " عبد الرحمن أبو قناوي " يستحي ، في قلب المعركة ، أن يضرب امرأة معتدية ، ويتلقي الضربات المتعددة بصدر رحب ، ويعود في نهاية المعركة إلي بيته محمولاً علي أكتاف الرجال ، يسيل الدم من كل مسامه ، أقرب إلي الموت منه إلي الحياة ، يا رحيم ! .
بدأ الحلُّ بسلة من الأطفال يستشرفون نذر المعركة من فوق السطوح النشطة ، ورأوا رجال الجعدية ، يهجمون علي الساحة وسط بيوتهم ، ويدورون استدعاءاً لمعركة متوقعة رافعين عصيهم ، ويشتبكون معاً ، ويستعرضون مهاراتهم في التحطيب ، ويتقافزون ، ويضحكون ، ويرقصون ، وتصفق النساء ، ويزغردن ، وأسقط ، فجأة ، طفلٌ في الخامسة حجراً ، ودفعت الغيرة ، أو اضطراب المشهد بشكل مروع في الساحة ، والصرخات الملتاعة ، طفلاً آخر أن يقلده ، وتتابعت الأحجار ، فكان كلُّ رجال الجعدية ، قبل مرور سلة من الدقائق ، في عداد الغائبين عن الوعي ، وانتشر التقليد الطفوليُّ الجديد في طقوس تربية المعارك في الدومة إلي الأبد ، وذهبت تعاليم العم زكي علفاً للنسيان والرياح .
اكتسبت خطة أبي لتعويقه بدخول الخالة " منيرة " ، نقاطاً إضافية في معايير الزمن ، وانهالت التهاني بعتبة العيد الغامضة علي المترقبين لأدني فكرة عن مصير الطقس ، كالحزاني ، وتساءلت بنيةٍ طيبة :
- أمَّال جزاركم إتأخر ليه ؟
أجابها الصمتً المسور علي حوشنا ، ونظر اليها العم زكي متذمراً ، ولحرجها الشديد ، مررت منحنياً تحت قوس براءتي ، وقلت لها في رقة مدبرة :
- عمي زكي هو اللي هيدبح الخروف وبدأ انخراطها في الدهشة يشتعل ، فانطفأ ذهنها تماماً ، وتساءلت عفواً ، وهي تسمر عينيها علي وجه العم زكي مشدوهة ، كأنها تختبر ألفته ، وتتهم معرفتها السابقة عنه :
- زكي مين ؟
وجدت بعض الضحكات المحتجزة التعبير عنها في الوجوه المحتقنة ، والأجساد المهتزة ، وتذمر العم زكي ، كأن الجزارة ، لا الفلاحة ، هي مساره المهنيُّ الشهير ، قبل أن يقول غاضباً :
- إو ما عارفانيش إو ؟!
تأكدت شكوك الخالة فابتسمت ، وتحول فائضٌ من الابتسام إلي ضحكة قصيرة قبل أن تستدير خارجة ، وهي تقول :
- ع البركة !
والتحق ظهرها بأفكار العم زكي الفاحشة عنها ، في شكل شتائم عصبية ، حتي ابتلعها الشارع ، وكان لابد أن تتحرك في حذر بعض الضحكات المنفلتة في أمواج الهواء المريب ، ودخل في نفس اللحظة العم عدلي ، بانكساره الحاد ، وقال لأبي ، آمناً من معرفة العم زكي وجهة حديثه :
- راح نجع عمران !
ازداد غضب أبي خشونة ، لكنه تماسك ، وتمتم ببعض الشتائم العصبية ، واللعنات التي ليس من الصعب أن أدرك وجهتها ، العم فوزي الجزار بالتأكيد ، واحتجزنا حتي أنفاسنا .
مع ذلك ، ولأنه كان في الماضي المجيد ، من المؤمنين بضرورة الدوران مع العجلة وقت الحاجة ، رضي بالمقاربة غير المتوقعة ، ووجه غضبه المحتجز وجهة تتصنع الانكسار ، وجه أيضاً حنجرته الملتهبة نحو الولد عصام :
- قوم فز يا ابن المنتول ، هات الخروف من جوَّه !
ترهل غضب أبي فجأة ، وفشل في السيطرة عليه ، تعقيباً علي سخافة جديدة للولد عصام في الوقت الخاطئ تماماً ، لقد ظهر فجأة ، ثم اكتمل ، يمتطي ظهر الخروف ، قابضاً بيديه علي قرنيه ، يوجهه يميناً ويساراً بإيقاع سريع ، ومتلاحق ، كأنما يقود دراجة ، واستهدفه أبي بحجر أخطأه ، وهو يصيح جاداً :
- انزل يا ابن المنتول ، الله ينعل أبو اللي جابك !
ضرب الذعر حواس الولد عصام ، فارتبك ، وانزلق انزلاقاً اعتباطياً ، وانهارت سيطرته علي الخروف تماماً ، تجاوز الخروف بعد سلة من القفزات العصبية المذعورة عتبة حوشنا ، وتسرب إلي يقين الضياع ، هرول العم عدلي ، واتزن عصام ثم هرول ، وهرولت ، وانخرط الكثيرون من الأطفال يطاردون محاولته للفرار، وشوارع العيد المتثائبة إلا عن الخواء .
مطت المطاردة أرجلها ، وطالنا الاستياء ، وطالنا التعب ، وطال المطارد أيضاً ، فلجأ أخيراً إلي حيز يخون الطريدة ، فأمسكنا به ، وعدنا به إلي التجربة الأولي من نوعها بالنسبة للعم زكي ، والأخيرة من نوعها ، بالنسبة للمسكين حيال الحياة .
طرحه العم عدلي أرضاً ، فاتزن خط خضوعه ، وجلس الولد عصام علي سطحه ، قابضاً بيديه علي قوائمه أماماً وخلفاً بقوةٍ تلائم مراهقته ، وصاح العم زكي من بين سحب الدخان :
- أيوة كده ، كتفه زين يا بو قنين !
لقد اكتشفنا في نفس اللحظة ، بعداً جديداً من أبعاد شخصية العم زكي ...... زكي الشاعر ! .
نبح ، فجأة ، كلبي الرماديُّ ، فاستدرت ، فرأيت علي مشارف نباحه سلة من النساء ، يقفن أمام حوشنا ، يتجسسن علي عيدنا الجارح ، يخفين ضحكاتهنَّ في جيوب طرحهنَّ الجديدة ، عيونهن الدامعة ، وحواف أفواههن التي لابدَّ كانت مبتلة ، تفرقت قاماتهن المذعورة ، تعقيباً علي انفجار أبي في مرحهن الداخليِّ :
- إيه فيه ، عروسة ؟! ، غوروا !
التحق ، كالعادة ، صياح العمِّ زكي بضحكاتهنَّ المبتعدة :
- يا شراميط !
واستدعي الولد عصام ، ملامح وجهه الغاضب ، وصاح في تذمر لائق :
- منيرة شمَّهت الدنيا !
استوعبه أبي بعينين باهظتين ، وتساءل من غضبه :
- منيرة هي اللي شمهت الدنيا يا بو الست ؟!
لقد حاول الولد عصام أن يدين قدراً تافهاً من مشكلةٍ ، تعود جذورها إلي إحدي حماقاته هو .
استأنف العم زكي تجاهله ، وربما جهله ، بتراكمات نزوته الحية ، وتساءل ، وهو يتأهب للدخول في بروتوكول تجربته الأول :
- تشمه الدنيا ليه ؟! ، إو عجوبة خروف يدِّبح إو ؟!
كان من الذي يصعب تحديده ، هل هو حقيقة ،لم يفطن بعدُ إلي موطن الغرابة ، أم هو يفطن ، ويتغابي . هذا أثار ، بتصرفات منخفضة ، ضحكاتنا المحتجزة .
لا أدري كيف سارت الأمور في اللحظة التالية ، ربما كان ما حدث بتدبير من الولد عصام ، وهذا هو الأرجح ، وربما كان الخروف قد استجمع قوته ، أو استقطب ذعره قوته إلي مركز اللحظة التي أطاحت بالولد عصام بعيداً عن سطحه ، يتضور ألماً ، وبإيماءة مخجلة ، طرح العم زكي أرضاً ، واختبر الطريق إلي الشارع مذعوراً ، وصاح أبي وهو يهم بالنهوض :
- حلِّق يا عدلي ، اقفل الباب !
ونبح كلبي الذي بلون الرماد ، وارتبكت قومية من الصغار يطاردونه ضاحكين ، أو يطردونه بدقة أكثر ، وركض العم عدلي نحو الباب ، وأحكم إغلاقه ، واستعاد العم زكي اتزانه ، وتابع الولد عصام ادعاء الألم ، وطوقت المكان هالة من التوتر ، واتجه أبي نحو خبث الولد عصام وركله ، وكنوع من اقتراف حماقة تقبل القسمة علي اثنين ، طاردني وركلني من الخلف ، ولجأ حازم إلي استخدام الدرع التي تؤمن له الخلاص غالباً ، فبكي من تلقائه ، وأصبح الوضع الجديد هستيرياً وسائلاً .
اقترح أبي في غضب حقيقيٍّ ، إخضاع العم عدلي لمسئولية السيطرة علي الخروف منفرداً ، واستأنف :
- خلِّي اليوم اللي زي الروبة دا يفض !
امتثل العم عدلي صامتاً ، وهدأ قلبي قليلاً ، وتوقف حازم عن البكاء ، وتابع الولد عصام خديعته العارية .
انتظم بريق عيني العم زكي فجأة ، كان تصميمه واضحاً لا يمكن إنكاره ، وانخرط في بروتوكول تجربته الأول ، الذبح ، فجَّر سكينه في رقبة الخروف بوضوح أكثر مما ينبغي ، فكان بريق عينيه المنتظم ، وتصميمه الواضح ، وإفراطه في استخدام السكين ، دوافع كافية لانخراطنا في الضحك المتوجس ، لعدم انبثاق ، ولو بعض نقاط الدم الحار ، من جسد الفريسة ، لقد ظلَّ الخروف حياً ، فقط جحوظ عينيه ازداد جحوظاً ، وازدادت محاولاته العصبية للنهوض عصبية .
اتخذ أبي من فشل أولي محاولات الرجل ذريعة للتخلص منه ، كان صوته فارغاً من الخجل هذه المرة ، وصاعداً :
- السكين تالمة يا عم زكي ، يحرم علينا !
التفت إليه العم زكي ، كأنه يلومه علي هذه الإهانة ، مسح بظهر يده ، قطرات العرق الباهظ ، التي نبتت علي جبهته ، وأكد أنَّ خيبة سكينه تعبيرٌ عن جلد الخروف السميك ، ليس تعبيراً عن ضمور حدَّتها ، وأكد أيضاً ، أنه متأكدٌ من أدواته ، وفي ما بدا أنها محاولة ركيكة لخداعه ، وربما ، ليضفي علي إخفاقه أصداء من الشيوع والابتذال ، استأنف مبشراً :
- بس الخروف اللي جلده تخين ، عيرمي لحم كتير ، مجربة !!
أخفي الولد عصام وجهه الضاحك في التظاهر بالنظر إلي جملنا البارك علي بعد أمتار منه ، يجترّ ، واضطرب أبي قليلاً ، ورفض أن يبتلع هذا الخداع ، واقترح ، كنوع من التماهي مع أعوامه الستين وأبعد ، أن يستدعي من بيتنا سكيناً حارة ، فاحتدَّ إيقاع غضب العم زكي فجأة ، وأكد في عنف ، وهو الأدري طبعاً :
- العيب مش عيب سكين ، العيب عيب خروف !
كان في عينيه تصميمٌ ، جعل أبي يشعر بأنه ليس من الحكمة اختباره ، وكان في التعريض عوض :
- ما كناش عارفين مقدرنا يا عم زكي ، كنا جبنا خروف تفصيل !
ضحكت ، وعاد وجه عصام إلي مائدته الأولي بتصرفات منخفضة ،نض الجمل فجأة ، وفعَّل ذيله يميناً وشمالاً ، ليطرد بعض الحشرات الضارة من مؤخرته ، وظلَّ العم عدلي كالعادة داخل اتزانه ، وفي ما بدا أيضاً أنه تجاهل للتعريض الباهظ في لهجة أبي ، أو جهله به ، اقترح العم زكي ، وهو يفعِّل سكينه في رقبة الخروف مرة أخري :
- إنتا لما تروح تشتري حاجة زي دي ، خدني ننقي لك !
ضحكنا سوي العم عدلي ، وتخلي الولد عصام عن حذره ، واهتز جسده بفعل استحواذ الضحكات المحتجزة ، وسعل بشدة ، وانزلق بعض السعال في شروخ ضحكاته ، بل لمحت طيف ابتسامة مؤدية علي وجه أبي ، نظر إليه ، فجأة ، فاستعاد انكساره ، ونظر إليَّ فجأة ، وصاح في غضب :
- غور افتح الباب لحد يجي !
وامتثلت صاعداً بحماس أكثر مما ينبغي ، واختبرت الطريق إلي الباب المغلق .
لا أدري كيف سارت الأمور خلال انقطاعي ، ولكنها نجحت ، وارتطمت عيناي في طريق العودة ، ببقعة صغيرة من الدم الحار علي الروث المتحلل ، ظلت تكبر تدريجياً ، ومقاومة الضحية تصغر تدريجياً ، ثم ، فجأة ، تلاشت ، حدث ذلك قبيل أذان الظهر بسلة من الدقائق .
جلس العم زكي حتي تطرد عروق الضحية دمها كاملاً ، وأشعل سيجارة ، كان اعتداده بنفسه ، تعبيراً عن النصر الصغير الذي أحرزه ، وافراً في حديثه والعتاب :
- قال ، وإنتا تقول السكين تالمة قال !، يروح وين هبابة خروف ، قصاد جمال دراو ؟!
أفسح لنا أبي بضحكته القصيرة ، غابة من قيود الضحكات المحتجزة ، العم عدلي أيضاً ، انسلخ للمرة الأولي من اتزانه المزمن وابتسم . ووجه كلبي الرمادي حنجرته بحماس نباحه الزائد عن الحد إلي الشارع ، لقد جذبت رائحة الدم سلة من الكلاب المتطفلة ، تفشل في التوفيق بين رغبتها في الانقضاض وبين جسارتها ، زجره أبي بقسوة ، فانكمش نباحه إلي أبسط أنواع الأنين ، ظلَّ ، مع ذلك ، يتقدم ، ويتأخر ، ويدور ، وينحني .
همَّ العم عدلي أن يصعد السلم الخشبي ، ليمرر كما جرت العادة ، طرف حبل طويل من التيل ، أعدَّ سلفاً ، بين سيخين من أسياخ الكوة فوق الباب ، ثم يرده إلي الداخل هابطاً حتي يتوازي مع طرف الحبل الآخر ، فيشكلان " المجوز" ، الذي تعلَّق في طرفيه الذبيحة من رجليها الخلفيتين ، كما جرت العادة ، ولكن جزارنا المزيف رفض بإصرار ، واتهم أفكارنا السابقة عن طقوس الذبح بالرجعية والمحافظة ، لابد أن بمنظومة الذبح الشهيرة أخطاءَ ، سوف يقوم هو بتصحيحها ، هو يري أن هذا البروتوكول من بروتوكولات الطقس إنفاقاً للمزيد من الوقت والجهد دون داع ، ويري أنه سوف يحتاج فقط إلي أن يرفع العم عدلي ، أو غيره ، الخروف من رجليه الأماميتين إلي أعلي ، وأن يحرس توازنه حتي ينتهي هو من ضرب انتفاخه بالعصا ، وحصير فقط من نبات الحلفا ، يستقر الخروف فوقه حتي ينتهي من فصل اللحم عن الجلد ، وتقطيعه .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس