عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 02:01 AM   #12
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(43)

أكَّد العم مرتضي ، موظف الاستقبال النهاريُّ ، أن دخول المستشفي تعبيرٌ مسوَّرٌ فقط علي المرضي المحوَّلين من أطبائها .
من دربٍ كان كالعذاب ، إلي دربٍ كان كالعذاب ، يدور بنا الفشل ، فيما نهبط في رائحة البالوعة .
أيها العم ، إنه مجرد بروتوكول ليس من التجديف كسر دوائره ، ليس تابوهاً وهرطقة ، فباشر تربية حيز نضع فيه نصف موته ، ثم تأتي بعدُ الحاجة إلي الطبيب ، وضبطت نموَّ تعاطفه ، وأدركت من خجله الزائد عن الحدِّ أنه ، مجرد موظف لا يستطيع أن يلمس شيئاً خارج البروتوكولات الشهيرة :
- رشح لي دكتور لو سمحت !
- الدكتور خلف !
وتحسباً لمراجعة الجدل مرة أخري ، دوَّن علي ورقة ، بسرعة أكثر مما ينبغي ، عنوان الطبيب ، وتليفون العيادة أيضاً ، ألقيتُ نظرة علي الورقة ، فأطلت مشكلة ، كانت الطريق إلي العيادة صاعدة ، لقد قدَّرتُ في ذلك الوقت ، أنَّ هشاشة طاقته سوف لا تصمد لنقله من مستشفي سوهاج ، إلي عيادة في الطابق الثالث ، ثم إلي مستشفي راشد كنقطة أخيرة ، هذا إذا خمن الطبيب عائداً من وراء دخوله في الأساس ، وسوف أدرك بعد ساعتين من ذلك الوقت ، أن قلقي كان كالمكيدة المضاعفة ، جعلني أقزم من قامة أبي الداخلية المخبأة في جيب قامته إلي مدي بعيد ، وأضخم بالعوائق الصغيرة إحساسي ، فلم تكن هناك مشكلة ، أو كانت هناك ، وكان الحلُّ بسيطاً ، وجعلني أبي أتأمل أسلحة وعتاداً ، قد تكون التفاصيل هنا مزعجة ، ولكنها ضرورية ، ولها ما بعدها .
أتي حازم بمقعدٍ من العيادة ، وتكاتف والقلائل ، وأجلسوا مصير أبي في رقةٍ عليه ، حملوه ، وارتفعوا ، كان سلم البناية ضيقاً ، لا يتسع أفقياً لشخصين ، فضلاً عن الكثيرين ، يحملون مقعداً ممتلئاً ، فاضطروا ، تكريماً للانسجام مع ذلك الوضع الخانق ، لحمله من أمامه ، وخلفه ، وكان الحرص علي اتزانه من أقوي الدوافع الحاثة علي الحذر ، وأساليب السلحفاة .
قافية مؤلمة ، لكنها كانت ، فيما بعد ، من أقوي الدلائل لديَّ علي ملائمة الأسلوب العلاجيِّ الذي اقترحه الدكتور خلف للحالة تماماً .
لقد نسي أبي حالته في التماثل للشفاء تدريجياً ، ببطء هذا صحيح ، لكن باطراد ، وتذكر ، قبل ظهيرة اليوم الثالث من أيام المنعطف السوهاجيِّ الأكثر حظاً بين منعطفات حياته ، هذه القافية بالتفصيل الركيك ، فشكل هذا لي موقفاً محرجاً ، لقد تساءل بلهجة من يروي حلماً ، بإيقاع ركيك ، يخشي ضغط الزمن ، كأنه لائق :
- أنا كنت قاعد علي كرسي ، فـ بكان ضيق وزحمة ؟
اقترفت سعادة ممتلئة ، ولفرط سعادتي بتقدمه الواضح ، وليس جمال السعادة الإفراط ، اقترفت حماقة ممتلئة ، وقلت كلاماً ينمُّ عن البعد الواحد ، عن ظنه المستدير ، خلال الحلم ، بإحرازه دخول الجنة ، وأنَّ الذين يحملونه الملائكة ، وهكذا أخلاط أسطورية ، تهافت الآخرون حول الضحك ، أبي ابتسم أيضاً ، وتحول فائضٌ من الابتسام إلي ضحكة قصيرة متعبة ، أصغيت إلي وجهه ، فسمعت تعبيرَ عتاب ، لا الوقت كان ، ولا كان المكان ، يتسعان لهكذا حماقة ، الآخرون أيضاً ، لقد نظروا إليَّ سراً بالتأكيد ، نظرتهم إلي مختلٍّ عقليِّ ، أو ماس كهربائيٍّ ، أو عقب سجارة ، أو فار السبتية .
أدركت أن صمتي كان أطولَ من أن أكسره ، لأقول كلاماً عن قناعة لا تقبل القسمة علي الكثيرين ، ولا يفهمونه .
أخلي المرضي ، ومرافقو المرضي ، المنتظرون في العيادة ، وجوههم من كلِّ تعبير سوي الرثاء لذلك المريض (السلطان) ، وسرت بينهم همهمة أصداف بعيدة ، وتنازلوا له جميعاً عن أدوارهم في تسامح شديد ، وهكذا مروءة ، تكاد تكون تناذر سكان سوهاج الأصليين ، يتألق في أدني بقعةٍ من جذور العتمة العائلية ، كما يتألق في جذور النور المتوسط ، فضلاً عن تألقه في الجذور الأكثر عمقاً في حوزة النور المفعم ، من العم مرتضي ، إلي الدكتور خلف ، إلي تاجر الأفيون .
هكذا ، في ذلك الوقت ، رتب ذهني قوة السلالة ، بالنسبة للمظهر الخارجيِّ علي الأقلِّ ، ولكنني الآن ، وقد ازددت برحيل أبي وعياً بإحساس العزيز قوم ٍ ذلّ ، أرجح أن يتصدر العم مرتضي في لائحة السلالة حيِّزاً طليعياً .
في غروب اليوم الخامس ، راجعت غرفته ، أحمل قربة من الدم وإرهاقي ، كان التعب يتمطي في أعضائي بشكل لائق ، وحنينٌ جارفٌ إلي النوم يستحوذ علي ذهني بتصرفات عصبية ، لعلَّ كواليس النوم تلتحق بفكرةٍ بيضاء :
- أهو الدم جالك ، رغم انك مش محتاج دم ، وشك هيبك منه الدم !
وتأملت تجاهلاً ، وجبلاً يهتز بانكساره الحاد ، وأنفاساً عصبية ، أدركت بغابةٍ من التجارب السابقة ما يوجد وراء الكواليس ، إن الحاجة إلي الأفيون ، ركلت ذهنه من الخلف ، فصار في مقدمة الجنون ، وتوقفت عند الجذور ، فقدَّرت أنه لابدَّ قد نسي حالته في التماثل للشفاء تماماً ، تماثله التام للشفاء بحماية مرضه طبعاً ، ولابدَّ أن حاجة ذهنه إلي الالتحاق بمطلقه الخاص ، والافتراضيِّ ، علي أجنحة المخدر ، تعقيبٌ علي زوال الغيبوبة تماماً .
وأصغيت لما يرده الخجل أن يقوله ، كان يظنُّ أننا مرهقون مالياً ، وأن أعباءنا ترهلت بما يكفي لتخشي ضغط الزمن ، وهذا ينطوي علي كثير من الحقيقة ، وفي القليل عوض ، لقد خسرنا بالأمس حقلاً من قصب السكر ، التحق بخزانة بعض الحاذقين بتربية النقود المؤجلة بنصف ثمنه ، وانحازت إلي خزانتنا العارية أيضاً خمسة آلاف من الجنيهات المشبوهة ، والرائجة أيضاً .
كان الزمان زمانه ، وشروخ آلامنا تشبهه ، ورغباته تجيد العثور علي مفاتيح ثقوبها في آذاننا حتي من خلال صمته ، وابتسمت :
- عاوز أفيون ؟!
ابتسم ، وتفتت انكساره الحاد إلي شكوك ، ظل الحرج باقياً ، لكنه صار خافتاً :
- هتكفوا كام ولا كام ؟!
يا أبي ، إننا نمرض ، ولا نموت ، وبقية السيف أنسل .
- حاضر .
كنت أدرك أن للأفيون ، بما ينطوي عليه من غابة الألكالويدات نبضٌ خافتٌ في التأثير علي مستوي السكر انخفاضاً ، أدرك أيضاً حاجته إلي ارتفاعه في دمه ليطرد غيبوبته تماماً ، ولكن انكساره الحاد ، وتقديري الذي لا مراء في صحته ، لقد انقشعت الغيبوبة تماماً . لأنني من المؤمنين بأنه لا يوجد شخصٌ خاصٌ لعمل خاص ، ذهبت مباشرة إلي موظف الاستقبال المسائيِّ :
- عاوز وزنة أفيون !
– لمين ؟
تساءل ببساطة ، كأنني أطلب من الخالة زينب ، راعية الغرفة ، أن تفرغ كيس جمع البول في مظانه :
- لابويا
تأمل ، أيها العم ركل الورود ، ونحي النصائح جانباً ، إنني في قلب التعاطف المتطلب .
أرشد ظلي إلي مقهي قريب ، واسم التاجر .
- إنني لا أكتب بالقلم ، وإنما أكتب بصدأ القلب ، فمعذرة إن ظهرت بعض الأوساخ علي السطور - . تخلَّي ظلي في عتمة الطريق إلي المقهي عني ، حتي ظلي ، ووصل الدرب ، ولم أجد التاجر ، وفي ما بدا أنه تنفيذٌ لوصيته ، أعطاني أحد الجالسين رقم تليفونه ، اتصلت به ، كان بمحاذاة طهطا في الطريق إلي سوهاج ، خبأت ظلي في تجاعيد الليل في انتظاره لنصف ساعة ، وفقاً لتقديره هو ، لكنني فوجئت به قبل مرور دقيقتين واقفاً أمامي ، يمدُّ لي ورقة من السلوفان مبتسماً ، لم أفهم تصرفه لسلة من الثواني علي أية حال ، لابد أن النوم كان قد دهمني برهافة بالغة ، انتبهت فجأة ، فنهضت وأخذتها ، لونها الغامق ، لمعتها الزيتية :
- عاوز كام يا حاج ؟
أيها العم ، قل كم تريد أن تضيف إلي خزانتك من خسائرنا السائلة ، لقد وجدت امتناني بصرف النظر عن هذا التيار من التعاطف :
- ميت جنيه !
كان في حوزتي ستون ، أعطيتها له ، وأعطيت له رقم الغرفة ، لكنه ، وكأنه عرفٌ سوهاجيٌّ دارج ، تنازل في كرم حقيقيٍّ عن دينه .
وأنا في طريق العودة بلا ظلي ، ألح علي بالي كمديةٍ في البال سؤالٌ غريب ، هل تلتحق رغبة هذا التاجر التي لا تقبل المد والجزر بتناول الأفيون ، مثل أبي ؟ ، وهل توقَّف هذا الرجل فوق جذور جمال زهرة الأفيون ، ذلك الجمال الذي لا يواجه إلغائه ، ويجد التعبير عنه في الاستحواذ علي حواس الكثيرين من الفرادي في الزحام العالميِّ ، هل ؟ .
ليس الأفضل ، ولكن له أسلوبه في الإدانة أيضاً .
عقب انسياب العصير الأسود في دمه المعار ، تعثر أبي في الطريق إلي عالمه الافتراضيِّ بدهشتي الشديدة لاكتراثه الشديد بالعناية بتعمية العيون القادمة عن لفافة السلوفان ، لقد حفر لها في قلب الوسادة عميقاً ، هذا تصرفٌ يناقض اللياقة تماماً يا أبي :
- أمال يودوا كل الفلوس اللي عياخدوها وين ؟!!
أشياء بسيطة ، نختصر بها مسافات الإحباط والقهر ، ثم وجه حديثه ، فجأة ، وجهة أخري ، وربما نظر إلي الأفق بأكمله من زاوية أخري ، وأضاف دون أن أسأله عن جودتها ، ولا يعنيني :
- أفيون بلدي ، متساويش خمسة جنيه !!
كان ، لا كان موته ، لا يبقي علي فراغات داخل اللزوجة السردية لانزعاجاته الداخلية أبداً ، أو لم أفهم علي أية حال .
ولا أفهم سر الرقم الخامس الذي انتشر في لهجته بقوة في أسابيعه الأخيرة .
قبل أسبوعين من موته الذي لا مراء فيه ، كان يركب خلف عبد الفتاح موتوسيكلاً مخالفاً بوضوح أكثر مما ينبغي ، فلا رخصة قيادة ، ولا رخصة مركبة ، ولا خوزة ، واستوقفهما أمين شرطة المرور ، فشل عبد الفتاح في تضليله ، فأصر علي اقتياد المركبة والقائد إلي مركز الشرطة ، فلجأ أبي بسرعة إلي التقليد الذي كان يجثم علي المصريين في ذلك الوقت ، في مثل هذه المواقف ، جثوم العادة ، لقد طعن يده في جيبه غاضباً ، وكان من الذين لا يجيدون احتجاز غضبهم خلف وجوههم ، فخرجت بورقة من فئة العشرة جنيهات ، وفي ما بدا أنه استضخام للرشوة ، امتلأ تذمره السري علي وجهه ، وهو يعطيها لأمين الشرطة قائلاً :
- خد خمسة وهات خمسة !
يا أبي ، لا تقلق علينا ، لقد تركت لنا الكثير .
تركت لنا بوابة الحبِّ مفتوحة بيننا ، والتي يعرف الشجر والحجر والقطط والكلاب والطيور والأطفال ، كيف يجدونها بين المتحابين .


(44)

حرصت بعد أن استقرت غيبوبة أبي فوق سرير الفحص أن أخلي حجرة الطبيب من الآخرين ، وأبقي معه وحدي ، نفس المشهد القديم يتكرر .
لم تكن كلمات الدكتور خلف بعد الفحص مشجعة ، وكان الانطباع هو الإيمان بالإطار كمعركة خاسرة ، لقد تفاقم الوضع بصورةٍ مزرية ، وتحول جسد أبي إلي مأوي لغابةٍ من الأمراض المؤدية ، وبدأ الحماس ينحسر ، وبدأ التفكير في العودة يداعب ذهني ، ولكن الأمل حطَّ بقربي من جديد عندما أخذ الدكتور خلف يشرح لي أسلوب العمل وهو يكتب خطاب التحويل إلي المستشفي مشدداً علي ضرورة توفير سلة من قرب الدم علي عجل، وأطلت مشكلةٌ ممتلئة ، كان اليوم الذي انطوي علي تبرع حازم الأخير بدمه ليس بعيداً ، بما يسمح بفراغ جديد بين كثافة دمه ، كان أيضاً التبرع بالدم من المحظورات الأكيدة بالنسبة إلي مريض ٍ بالربو مثلي ، وإن كنت قد انتهكت ذلك الحظر كثيراً ، وكان الباقون من إخوتي أقلَّ من السنِّ الصالحة للتبرع بالدم ، والمعايرة طبيِّاً ، وكان من المحظورات الشخصية أن نرضي بمقاربات الآخرين للمساعدة ، متاهةٌ صلبةٌ .
أسكتُّ مخاوفي ونهضت لأبدأ العمل ، وإذا بي وجهاً لوجهٍ مع أحد الدوميين ، تنبهت متأخراً إلي الباب المفتوح ، وتنبهت أيضاً إلي اطلاع ذلك الرجل علي كلِّ شئ .
ربما كان كلام الطبيب غير المحرض علي التفاؤل ، محرضاً لذلك السخيف علي الصراخ في طريق السيارة إلي المستشفي ، وبمحاذاة مقام العارف بالله الشيخ عارف :
– الدوام لله !
شعرت بانزعاجاتي الداخلية تتفاقم ، واستدرت ، ونظرت إلي قرديَّته في تحفز حقيقي ، يا جرذ ، يا بقة ، يا رائحة العفن ، لو خسرنا حضورك لخسرنا مشبوها ، وددت أن أفتته قبراً طارئاً قبراً طارئاً ، ربما لحساسيتي المركزة حيال سخافات الآخرين ، وكدت أن أنفجر فيه انفجاراً طليقا ، غير أني عانيت امتصاص غضبي سريعاً ، أو وجهته وجهةً أخري بدقةٍ أكثر ، نحو صروف الزمن المتواطئ ، وغرست عينيَّ الدامعتين .. في لحم النهار السوهاجيِّ أرتعش ، كان هناك الكثير علي المحك .


(45)

بعد أن أودعت خزينة المستشفي ألف جنيه رصيداً ، وبعد أن أتمت غيبوبةُ أبي استقرارها في السرير ، توجهت إلي بنك الدم الإقليميِّ مباشرة ، لم أنتبه حتي ذلك الوقت إلي أنني لم أنم منذ ثلاثين ساعة ، ربما كان الخطر الذي يتمحور حول موت أبي ومرحلة ما بعد موته حتي وصولي ، ثم حول حياته حتي تلك اللحظة ، ولم أجد قربةً دم ٍ واحدةً من فصيلة (ب) موجب ، وبدأت تتجلي لي حقيقة كنت أهملها فيما سبق ، أهمية التبرع بالدم ، وامتدت نقمتي علي إدارة البنك ، بل إدارة البلاد التي لا تجعل التبرع بالدم شرطاً لحصول الممكنين علي أي خدمة حكومية .
وكان عليَّ العودة إلي مستشفي سوهاج .
آه ، مع ذلك ، سوف تتخثرين يا طرق الدم .

(46)

لم تكن كوردةٍ في البال وأنا في الطريق المجنَّح إلي مستشفي سوهاج المسائيِّ ، حقيقة أنني كنت في الطريق إلي غابةٍ من عناقيد الماس الأنثويِّ المركَّز ، إلي نخلةً في الحقل أطول نخلة ٍ ، وأجمل ما في غابة الورد من ورد ، إلي الدكتورة حبيبة .
بمجرد أن رأيتها تحلَّل قلقي إلي سلام ٍ قليل ، وشعرت مباشرة بشئٍّ من الشعر يجلجل حول القلب .
أشتبه الآن أنني في ذلك الوقت كنت أحاول الفرار من قلقي بقذفه فوق رءوس الكلمات ، أشتبه أيضاً أنني كنت أستعير بتصرفاتٍ مرتفعة ، أًصابع الشاعر الذي يحط علي الدوام بقرب القلب ، نزار قباني .
وكان شاهد ذلك المنعطف المريب ، سلة من الأبيات السهلة ولدت بسهولةٍ أدهشتني علي مقهي قريب ، جلست عليه في انتظار أن يتم سريولوجي الدم امتلائه ، لأقاوم أيضاً حاجتي إلي النوم ببعض الكافايين ، واختبأت مسودتها في ذاكرتي ، وسوف تبقي دون تعديل ، ذلك أجمل ، لا أريد أن أشوِّه قوة اللحظة بإحساس لا يمتُّ لها . ثمَّ لا شئ يعيد للحظة الهاربة الحرارة المجردة :
يا مسترقِّي منكَ كنْ معتقي : أرْهقْتني ، أفديك من مرهق ِ
ياغيمة الماس ِ علي المنحني : ومطلق ٍ حلَّقَ في مطلق ِ
يا إبنة النور وأحلي الذي : في غابة الزنبق ِ من زنبق ِ
يا موجة العطر ِ وطغيانها : اللهُ في محطَّم ِ الزورق ِ
أبيات مشتتة حيث يرتعش كلُّ بيتٍ برعشةٍ خاصة ، كأنما نظمت منجمة علي فترات متباعدة وادخرتها لها ، وأشتبه أنها تشبهني في ذلك الوقت تماماً ، كنت بفعل استحواذ الإجهاد أحلل الصورة تحليلاً منجماً .
جسدي أيضاً كنت أحسه منجماً ، جمعت أعضائه علي فترات متباعدة ، واجتمعت حديثاً ، أيَّاً كان الأمر .
لقد أحببت في ذلك الوقت ، لبعض الوقت ، د. حبيبة .

(47)

تبخر الخطر قليلاً ، أمام انفجار العقاقير ، وقطرات الدم الأولي في أوردة أبي ، وازداد نبضه خشونة ، ونبضي ، أصبح القلق خافتاً لكنه ظلَّ باقياً ، ولهذا كانت عضلة النوم قوية بما يكفي لعصيانه ، وترهل إرهاقي بوضوح أكثر مما ينبغي ، ففقدت بوصلتي الزمنية ليلتحق نومي بفكرة سوداء غامضة .
فسرعان ما انحسر النوم عن صرخات شريرة ، ونعيق غربان مشئومة ، لقد سقطت امرأة في الفجوة التي لابدَّ لها منها ، وتفادياً للقلق ومنعطفاته التي تؤدي علي الدوام إلي نقاط لا تبتكر الوردة ، اشتعلت عزيمتي علي إفساح سلة من عوائقه الشهيرة في طرق النوم بطقس بسيط ، جثم فيما بعد عليََّ جثوم الضرورة .
ذهبت إلي صيدلية المستشفي ، وسألت الصيدليَّ بعض الأقراص المنومة ، بمجرد أن تنبه إلي وحدة سياقنا ، وشوك الصيدلة المشترك ، ردني غانماً سقوطيَ القادم .
ابتلعت خمسة أقراص دفعة واحدة ، ورحبت بي بعد أقل من نصف الساعة أساليب نومي القادمة .
تنبهت في الصباح التالي إلي انطباعات الحنق تمتصني ، لقد دهمني النوم وأنا لا أزال علي مشارف جزيرة العطر المنبعث من حبيبة ، كان خطأي الذي لابدَّ من تلافيه في المرات القادمة ، ككل أخطاء البدايات بساطة ، لقد سلكت إليها الشوارع التقليدية الشهيرة ، الخطوبة ، ثم السفر إلي الخليج ، ثم خلافي مع الكفيل ، ثم .. تنبهت .
وطنت نفسي علي اغتصابها مباشرة في بنك الدم ، في حلم اليقظة القادم ، ثم نسيت تماماً ضغط عطرها الهادئ ، كأنه بلا قيمة ، أو كأنني ، وهذا هو الأرجح ، لقد أدركت ألا رجلاً يتسع لحبيبة .
تنبهت في الصباح التالي أيضاً ، إلي أضواء البشر الأولي تسطع علي وجه حازم ، لقد بدأت خيمتنا تستعيد أوتادها بوتيرة مرضية ، وهدأ قلب العاصفة قليلاً ، هذا ألهب حماسي للركض علي طرق الدم ، لاستعارة المزيد من قطراته المؤدية ، فارتطمت بهديةٍ لا تقوم بالذهب ، أو بحمر النعم في تراث الرمل .
عندما يصبح الدم هدية !
لقد تبرع طبيبان حديثا التخرج لأبي ، بقربتين من الدم ، فشكراً لهذين النقيين .
لقد تخثرت الهدية ، ويبقي المعروف سائلاً .
وشكراً للزنبقة في منتصف الأطراف المتهادية .
كان ذلك الصباح شديد الفراشات آخر العهد بعطرها ، لقد ازددت بكرمها الإضافيِّ وعياً بإحساس المتسول الثقيل ، فاختبرت طرقاً نائمة .
عدت ، لأرتطم بغابةٍ من الزائرين ، وعراء الفضول ، يتناثرون حول حواف أبي المتماثلة .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس