عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 02:01 AM   #11
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(41)

تزاحم الكثيرون حول مضاعفات مرض أبي المتفاقمة ، أخليت وجهي من كلِّ تعبير يعكس كمال دوائر الصخب في داخلي المكتظ بالأصوات الفاحشة ، وغرست عينيَّ في لحم النهار صامتاً ، أراقب نموَّ الحشائش التي تنمو بصوتٍ مسموع علي سياج الطلل ، العصارة في دفاتر الماضي القريب ، كنت في ذلك الوقت تحديداً ، أحتاج إلي قوميةٍ كبيرة حول قلب الفاجعة ، وكنت أدرك أنهم ، وأن الذين لم يتمكنوا من الحصول علي موطأٍ في السيارة ، فاشتعلت عزائمهم ، فجأة ، علي استدعاء سيارة أخري ، تؤمن لهم ، وله السابقات ، اللحاق بموكب الواقف في منتصف موته تماماً ، بل كان كلُّ الدوميين ، يلتفون حون الإيمان بعبثية الرحلة ، لكن الحقيقة ليست هي الإجماع علي الدوام ، كانوا أيضاً ، يتوقعون عودة الموكب خاسراً قبل أن يتجاوز مشارف الدومة ، وكانوا بالرغم من كلِّ شئ ، وبحماية كلِّ ما يمتُّ إلي حالة أبي في ذلك الوقت ، لا يعدمون الصواب تماماً ، بل راودني لبض الوقت شعور ، ينبؤني بأنهم قد يكونون علي حق .
لقد فشل أبي في أن يتيح للأرض أن تتغزل في خطواته ، فحمل حازم وعبد الفتاح نصف موته إلي سيارة الحاج الأمير الرابضة في جوف الطلل ، عيناه المفتوحتان علي ظلٍّ شاحبٍ من العدم .
لكن ، وخلافاً لكلِّ التوقعات ، طوي الموكبُ غابة من الكيلومترات تحت درع ثقيل من الصمت القاتل ، بالنسبة لي علي الأقل ، كأحد الواقفين في قلب الإطار المتضرر تماماً ، وفي قلب ذاتي تماماً ، أسترخي فوق معجزة تبحث عن تعريف ، لذلك كان الصمت مسوَّراً علي الوجود ، ساعات من الأسود الكلّيِّ لا ينتبه لمثلها مؤرخو الكآبة ، أنا وحدي ، وحدي أنا الذي يعرف ما يوجد وراء كواليسها .
انفرط الصمت ، فجأة ، بمجرد أن حطت السيارة ، علي بعد عالق بالمأساة ، بالقرب من البهو الداخليِّ للمستشفي ، أو الورم الممتلئ إلا وردة ، بالنوايا الملوثة .
تركت أبي علي حافة حازم ، وحواف الآخرين ، ينقلون نصف موته إلي سرير فارغ ، وتصدر البحث عن طبيب يفحصه لائحة اهتماماتي ، وارتطمت بمسخ أنثويٍّ شاب يتحسر علي إخفاقه في التوفيق بين وضعه الجديد وقبحه ، هذا جعلها تجد العثور علي ترميم لجرحها في التطاول علي الآخرين ، أسلوب أقرب ما يكون إلي حرج الأفق والبعد الواحد ، كانت تتحدث إلي الي بعض البسطاء من المرضي ، وبعض مرافقي المرضي بعجرفة النبلاء ، وقفزت إلي سطح ذهني فجأة ، ثم اكتملت بطلة حكاية من حكايات الماضي المجيد ، حكايات عمتي فتحية ، لقد اكتشفتُ بالفعل أن مثل هذا الوجه مختزن في ذاكرتي بوضوح أكثر مما ينبغي ، إنه وجه طيزان ، طيزان التي رفضت في طريق العودة من النبع ، أن تسقي الغراب من جرة أمها المبخرة المعطرة فلعنها قائلاً ، روحي ربنا يجعل سوادي في وشك ، ورفضت أن تسقي أبا قردان من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فلعنها قائلاً ، روحي ربنا يجعل بياضي في شعرك ، ورفضت أن تسقي الرمانة من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فلعنتها قائلة ، روحي ربنا يجعل حماري في عيونك ، رفضت أيضاً أن تسقي النخلة من جرة أمها المبخرة المعطرة فلعنتها قائلة ، روحي ربنا يجعل طولي في جسمك ، وتحققت بالطبع كل اللعنات ، فلم تستطع لطولها الباهظ أن تدخل من الباب ، فصاحت العجوز سوداء الوجه ، حمراء العينين بشكل مخيف ، من الخارج ، هدِّي البوابة يمَّايا هدِّي !! .
إنها هي ، وأعرتها في لحظة خاطفة اسمها ، طيزان ، دكتور طيزان .
قفز إلي سطح ذهني أيضاً ، بتصرفات منخفضة ، وجه شريك لي في الزحف علي أشواك الصيدلة الحادة ، كان من ضواحي محافظة أسوان ، أشار إلي لون بشرته شريكٌ آخر من شركاء الزحف الشهير علي الشوك الذي لا مراء فيه ، بنيَّةٍ فارغة من التعريض تماماً ، لا أتذكر الإطار العالق علي نحو أكيد ، ربما كان محور الحوار يدور حول دراسة أمريكية تقترح انخفاض منحني إصابة السود بتصلب الشرايين ، أو حبِّ الشباب ، وربما الإسهال ! ، وتجاهل الشريك بشري الشريك ، وغضب غضباً حقيقياً ، وتساءل بلكنة النوبيين :
- أنا أسود ؟! ، خبار يا زول ، إنتا عندك عمي ألوان ؟!!
ثم أضاف بلكنة النوبيِّ الواثق :
- أنا أسمر !!!
كان المصاب بعمي الألوان أحمد ، فإن كان لون بشرته أسمر كما ادَّعي ، لانهارت منظومة الألوان الشهيرة من جذورها ، وسداً لكلِّ الثغرات ، أقول بحياد تام ، إنَّ لون الغراب ، بالقياس إلي لون بشرته ، أبيض .
وبرغم هذا ، وربما بفضله ، كانت مطاردة النساء في شوارع المدينة وأزقتها ، هي اختيار دكتور أحمد عبد الكريم الأول للجنون .
دُفعتُ ، بالصدفة المحضة ، إلي تجربة جنونه ، ذات ظهيرة شديدة الأشواك ، فأشار فحمه مباشرة إلي ساقين ممتلئتين بالفضة لفتاة مسيحية ، وأطري عليهما كثيراً ، وقفز الشاعر القديم ابن الروميِّ ، فجأة ، من جيب من جيوب ذاكرتي ، وفجأة ، ذلك المتشائم الشهير اكتمل ، ووجدت التعبير عن فشلي في التوفيق بين الفحم في بشرة أحمد ، والفضة في ساقي الفتاة في ترديد بيتين من تراثه الذي لا يكترث له الكثيرون فضلاً عن موقعه الطليعيِّ في تراث الناطقين بلغة هذيل :
شغفتُ بالخرَّد الحسان ولا .. يصلح وجهي إلا لذي ورع
كي يعبد الله في الفلاة ولا .. يشهدُ فيها مشاهد الجُمَع
لم يفهم الطرح الشعري أحمد ، ربما أعاقه تركيز ذهنه في معني مفردة الخرد ، أن ينتبه إلي ما ورائها أصلاً ، وتساءل في بلاهة :
- يعني إيه بالخرد ؟!
كلام ، فاترك ذهنك في مظانه الرائجة يا أحمد ، لا تكترث لذهب العابرين الفاشل ، واتركني أدور في أزقة الجنون الخادعة ، وهزائمي .
كأن ابن الروميِّ كان يصف وجه دكتورة طيزان القديم ، وجه كالتابوت ، تنعكس علي بثوره النشطة غاباتٌ وغاباتٌ من الحسرات الداخلية المزمنة ، هذا جعله تعبيراً محمياً لا تستطيع امرأة ٌ في الكون أن تدَّعي صلاحيتها للتصدي لعبئه ، سوي راهبةٍ تعبد العدم في صومعة منعزلة ، ومن الخير لها ، وفي ما يبدو أنه الحل الوحيد المتاح لترميم جرحها الطريِّ ، أن تتبرع بجلده لمصابي الحوادث من كل قلبها ، هكذا ، ومن آن ٍ لآن ، بعض راهبات الكاثوليكية في الولايات المتحدة ، يتخففن من أعباء وجوههنَّ ، ويستقطبن في الوقت نفسه ، إلي الآحاد المهجورة ، زهد القلائل من المتحولين الكثر من اليسوعية إلي الديانة العالمية المؤجلة ، الحب فقط ، قد .
احتدَّ إيقاعُ صوتها فجأة ، لا يراقب نموَّ العواقب ، كأنه الورم ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء الغيظ ، أو الانسحاب من الواقع الفاحش ، تحلل قلقي إلي غضب حقيقيٍّ ، وشديد العراء ، تجاوزت البالطو الأبيض ، والسماعة المعلقة حول حجابها الذي يخفي شيبها ، وقلت لمؤخرتها :
- يا أبلة ، لو سمحتي !!
استدارت إليَّ في شكٍّ ، وأجابني الذهول المسوَّر حول وجهها ، ثم استدارت ، وراقني الطقس :
- لو سمحتي يا أبلة !
- تفتت شكُّها ، واستدارت في تحفُّز حقيقيٍّ :
- ايه أبلة دي ، احنا هنا فـ مدرسة ؟!
تنبهت للمرة الأولي إلي أنها تتكلم بلكنةٍ قاهرية ، وتنبهت أيضاً إلي ظني المستدير بأن جدتها كانت خادمة في بيوت أغنياء القرية ، أو راقصة عتيقة من راقصات الموالد والأفراح ، ولابسة التوب الأخضر برسيمي ، وراسمة عليه غلايين النار ، وحاطة البودرا احمر واصفر ، حلِّق واظبط من قدام ، فهل يكون طبعها الحار تعبيراً عن علمها السابق بما يقال عن فضائح جدتها ؟ ، يا طيزان ، إنك تتكلمين بلكنتي العمة ، استأنفت غضبي بلكنة قاهرية :
- إنتي اللي عاوزاها مدرسة يا أبلة ، وتكوني انتي الناظرة ، أنا زميل نقابة علي فكرة ، إنتي ازاي تعاملي العيانين كده ؟ ، هي المستشفي دي ملهاش كبير ؟
كانت دوائر استعدادي للتصعيد الطليق في ذلك الوقت تامة ، وكنت أستند علي دعم لوقت الحاجة من بعض الأصدقاء في بعض الدوائر الإعلامية ، سري التذمر من نفس مبتورة إلي نفس مبتورة ، بين أولئك الذين يواجهون ، علي الدوام ، كلَّ المقاربات المذلة بالخضوع التام ، ويقفون ، علي الدوام ، علي حواف الآخرين انتظاراً للتمثيل المشرف ، ويتنحي الشرف جانباً لوجود ضعفي بين أمراضهم ، فواجه ، فجأة ، غرورها إلغائه ، وتحلل غضبها إلي بوادر خوف :
- مين حضرتك ، وعاوز مني إيه ؟
انحسر سؤالها عن صرخة حادة جلجلت في جوف المكان ، واستقطبت ذهني حالاً ، ونشط الظن الذي لابد له أن ينشط في مثل هذه الظروف ، لقد تجاوزت يقيني بألا امرأة جاءت معنا ، وظننت أنَّ أبي قد مات ، وانسحبت من المعركة مذعوراً ، أطارد ظني ، كان رجلاً علي بعد سلة من الياردات الرخامية من سرير أبي ، قد انزلق في الفجوة الشهيرة ، والأخيرة التي لابد له ، فضلاً عن الإهمال ، منها . كان الموت إذن ، يرابط أمام سرير أبي ، وقد أضاء بوضوح أكثر مما ينبغي ، فريسة ، وتشاءمت جداً .
تكرر هذا الحادث فيما بعد ، وبتصرفات أنثوية متشابهة ، ولم أتطير ، هذا يدفعني إلي الاعتقاد بوجود ارتباط محض بين التشاؤم ، وقوة لحظة الانزعاج الداخليِّ .
بفعل استحواذ ذلك التشاؤم المؤدي ، انتحيت بحازم جانباً ، وهمست له :
- والله أبويا ما يبيِّت فيها !
أحرزت علي الفور مباركته ، لقد تشاءم مثلي ، ولكن ذلك المأزق الشهير دفعه للتساؤل الخافت :
- بس الفلوس ؟ ، أنا كل اللي معايا ألف وخمسميت جنيه !
– تدبر !
استدرت فجأة ،فامتصني الخجل ، لقد رأيت الدكتورة طيزان مستغرقة في استكشاف أبي ، لقد زال فجأة قبحها ، وأصبحت ، بالنسبة للخيال ، قلب الجمال الذي يستدعي من جيوب الذاكرة القديمة ، مليحة ، الأخت التوأم لطيزان ، مليحة التي سقت ، بكلِّ سرور قلبها الغراب ، من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلي لأجلها ، روحي ربنا يجعل سوادي فـ شعرك ، وسقت أبا قردان من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلي لأجلها ، روحي ربنا يجعل بياضي فـ وشك ، وسقت النخلة من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلت لأجلها ، روحي ربنا يجعل طولي فـ شعرك ، وسقت الرمانة من جرة أمها المبخرة المعطرة ، فصلت لأجلها ، روحي ربنا يجعل حماري فـ خدودك !
لقد أخطأت طيزان إحراز كل هذه الكنوز بطقس بسيط ، الجشع والأنانية ، وأحرزتها مليحة النقية بالحب ، طقس بسيط .
تركت الدكتورة الأخت التوأم لطيزان تواصل جمالها الطارئ ، لأفتش عن أحد يرشد ظلي إلي مكان للعلاج يتَّحد بكرامة عزيز ، تذوب خلاياه من تلقائها بشكل مروع ، مع اقترابي من منحني الشارع ، سمعت نظراتي تنمو بصوت مسموع علي لافتة الورم ، ونشطت عيناي للبحث عن لافتة أخري ، ربما كتبوا علي لحمها ، سداً لكلِّ الثغرات ، بحروف محفورة حفراً دقيقاً منخفضاً :
" إذا كانت لديك معرفة سابقة ، لا تدخل " .
فلم أجد .
لم أكن أطلب المستحيل ، أو الفينيق ، فقط الحد الأدني من وضع إنسانية الإنسان كزنبقة في البال .

(42)

وأنا في الطريق ِ إلي مستشفي راشد التخصصي ، دون سحابةٍ علي جسدي ، هربتُ من رغبة السائق الجليِّة في تبادل أطراف الكلمات إلي الهند .
لقد راجعت الذاكرة فوَجَدَتْ التعبيرَ عنها في سطحها حياة ُ المهايانا ، أو الزورق الكبير الذي سوف تضمر كلَّ الأعباء علي كاهله ، ويملأ كلِّ الفراغات ، أو ناجارجونا ، أو مؤسس عقيدة الفراغ ، التي يدور حول محور غامض نوعاً ما ، غير أنه داخل تقدير الكثيرين ، ليست الحقيقة النهائية سوي فراغ ، وهذا الطرح يعني في أبسط صوره ألا وجود لولادةٍ ولا لموت ، ومادام الأمر هكذا ، ومادامت النوايا الطيبة لا تكفي لأن الأمل يعمل . لماذا إذن كلُّ هذا الدوران في الفشل ؟ . وكلُّ هذه المحاولات العصبية للاحتفاظ بأبي علي الأرض لسلةٍ من الشهور لا أكثر ؟ ، وماذا لو تركناه يموت في سلام ؟ ، أو ربما بدقةٍ أكثر ، لو تركناه يبدأُ دورة تناسخه بأسرع ما يمكن مرضه ؟ . وسمعت ، فجأة ، وبوضوح قاتل ، صوتاً داخلياً يتردد في ذلك البهو السحيق من الزهور الذابلة :
- لابد من الدوران مع العجلة . اضطربت قليلاً عندما قال السائق بتهافت :
- مستشفي راشد .
ونفضتُ عني الإثم الذي التحم ، بلا مشروعيةٍ، بخاطري ، ثمَّ .. دخلت .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس