عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 02:00 AM   #10
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(38)

ليلةٌ أخري مليئةٌ بالأحداث ثم انزلقت في شرخ النوم ، ونشط سطح الذاكرة لتصيد الصور من ذلك البهو السحيق من الزهور الذابلة ، ودفعها إلي الحلم العكر طازجة تماماً ، ومكتظة تماماً بوجوه الموتي ، ورأيت أمي التي لا تحب الحناء تكشط الحناء من يدها بسكين ، وسألتها مستنكراً عن السبب ، فاتهمتني بالغباء لأنني لا أعرف أنه لا يصح أن يراها الناس في مأتم الخالة نعيمة القريشة هكذا ، اتهمتها جدتي بتضخيم الأمر ، وأكدت لها أنها ذهبت إلي مأتم علي أبو الصادق عارية تماماً ولم يهتم أحد .
اقتحمت فجأة الخالة جليلة بيتنا في ذعر ، وأخبرتنا أن تروس العصارة قد التهمت ذراع بكش ، صرخت أمي ، واتهمت جدتي العم عطالله ميكانيكي العصارة بأنه لا يجيد ترويض الخيول .
ورأيت أبي في مكان مشوش جالسا في ظلال شجرة ليمون يبكي ، والعم عبد الباسط يضرب كفا بكف ويقول أن شيئاً كهذا لم يكن ليحدث لو كان صدام حسين هو المفتي ، وقال العم عطالله أنه رأي من قبل هكذا حادثاً ، ودفنوا المصاب حيَّاً في جبل عرفات ، ورأيت عصام علي ساحل العصارة يمتطي حصاناً مسرعاً ، ناديته ولم يلتفت ، ودخل في يقين الغياب .
ظهرت عمتي فتحية يتبعها عددٌ من النساء ، لقد احتفظت بصورة طورها الأخير تماماً ، وقالت لأبي في غضبٍ عصبيٍّ أنها قالت له من قبل أكثر من مرة أن الشيخ مطاوع يريد "بسلة" ولم يفهم ، وأنَّ أحمد أبو شبيب ، لا يمكن أن يزور الدومة ، فقط رأت السمَّاوي فوق السواقي ، يستريح ، وسوف يعدُّ السمَّ للكلاب ، وأن بهاء قتله "المراعوة" وهو يلعبُ أمام دكان علي أبو عسران .
واستيقظتُ مذعوراً ، دقائق ودهمني النوم مجدداً .
اتهمتني صديقة في الصباح أقدم عمراً من أحزاني ، أنني أقترف كتابة الشعر في نومي ، كنت تقول :
فليت الذي بيني وبينك عامرٌ ......
ويلك ، لا تلمسي شيئاً ، إنه بيت عصام ، أو البيت الذي كان يردده علي وجه الدقة ، يبدو إذن أنني لم أغادر الدومة ، ويبدو أيضاً أن الألم لا يحترم قواعد المنظور ، أو لا يراعي النسب بين المسافات والمساحات في العالم الخارجيِّ . إنني هناك ، وتذكرت حكاية من حكايات رهبان الزن – الزن هي البوذية علي الطريقة اليابانية .
تسللت البوذية إلي اليابان من الصين مبكراً ، غير أن اليابان استقبلت وفادتها بذلك التقليد اليابانيِّ الخاص ، أو الزلزال ، وأخذت من حطامها جوهر بوذا نواةً لعقيدتها الخاصة ، حيث انكمش كلُّ شئٍّ إلي أبسط الفضائل التي لا تقبل الجدل ، وأكثرها تحضراً أيضاً ، حتي أنها لا تتقاطع مع أي عقيدة أخري ، صدمة ميسَّرةٌ لا أكثر .
ولا شك أن للزنِّ إيماءةً مقدسةً في انتصاب اليابان خلف الكبوة الشهيرة ،
تقول الحكاية :
راهبان كانا في سفر، منذ ثلاثة أيام لم يصادفا سوي امرأةٍ عجوز علي عتبة كوخها ، قدمت لهما قليلاً من الشاي والشعير المحمص والزبدة الزنخة ، أبقاهما هذا التسامبا الهزيل المحضر في العشية الفائتة علي معدة خاوية ، مكثا جائعين ، باردين ، ثم مضيا ، فجأة ، راح المطر يتساقط ، تدثر أصغر الراهبين سناً بذيل ثوبه قدر ما استطاع ، وتابع الآخر ، الأكبر سناً ، السير بصمت ، هبط الظلام ، وليس في الأفق أي مأوي ، ولا معبد ، ولا صومعة ، ولا حتي أبسط كوخ ، كان الدرب الذي يسلكانه يتيه بعيداً في الجبال ، لم يعد الشاب المبتدئ يتحمل ، ثم إنه لا يعرف هدف هذه الرحلة التي لا تنتهي ، لابد أن معبد الزن غير بعيد ، قال لنفسه :
يبدو لي أننا نقترب من كاماكورا ، ولكن هل هي حقاً وجهتنا ؟ .
حطم تعليمات الصمت الصارمة ، وجرؤ علي أن يسأل سيده الذي كان يمشي بمحاذاته " أيها المعلم ، أين نحن ذاهبون ؟ ".
أجاب المعلم :
- نحن هناك
وألح الراهب الشاب :
أتريد أن تقول إن المكان بات قريباً
هنا الآن نحن في المكان نظر المبتدئ المشدوه إلي الدرب المتناثر الحصي ، الموشح بالضباب ، في البعيد ، كانت قمم الجبال الرهيبة قد أخذت تتلاشي في ظلام الليل ، كان خائفاً ، يرتجف برداً ، وجائعاً ، وفجأة ، كلمح البصر ، فهم ، وتذكر الكلمات التي غالباً ما يرددونها في الدير " الزن دربٌ موصل ، الأبدية في كلِّ خطوةٍ مسوَّرةٌ عليه "
والألم أيضاً .
يقول رهبان الزن في أشعارهم أيضاً :
نوتيِّو الزوارق يصرخون للمسافرين
بعضهم يعبرُ ، أنا ، لا
بعضهم يعبرُ ، ليس أنا .

(39)

حتي كتابة هذه السطور ، لا أستطيع أن أتخلص من ماءها الآثم ، تلك الموجة المتواصلة من الإحساس بالذنب التي تضرب حواسي ، لقد تفاقم الوضعُ بعد سفري كثيراً ، وبرغم اتصالي بإخوتي ساعة كل يوم ، بل كلَّ ساعة في اليوم ، وربما بفضله ، لم أقف علي حقيقة التطورات علي بعدٍ يضئ المسافة ، كان الهدوء شديداً كأنه صخب ، أصواتهم السهلة ، أوتارها الرخوة ، حتي صوت الخيمة نفسه كان سهلاً ، لا يخشي ضغط العاصفة ، وكأنه ليس في قلبها ، لقد نسَّقوا بكثافةٍ شديدةٍ مكيدتهم ، غير أنَّ القلق كان يمتصُّني بوضوح أكثر مما ينبغي ، وكان كلُّ رنين للمسرة ، أو الهاتف في دفاتر المجمع اللغوي المتأخرة ، أو التليفون في العرف العام ، هو نعيٌ أكيد لأبي ، وأعدتُ كلَّ هذا إلي طبيعتي القلقة .
علمتُ فيما بعدُ أن حاجة أبي إلي الدم ، بعد هروبي ، أصبحت ، بالنسبة لمصاعب العثور عليه تحديداً ، وبالنسبة لوتيرة النزيف التي تتضاعف كلما تقدَّم الورمُ في العمر علي الأقلِّ ، قاسية جداً .
تصدي لها حازم ، ومحمد أبو أحمد ، وعبد الوهاب ، وعبد الفتاح ، وعلي أبو عدلي ، وصلاح أبو عدلي ، وشاكر أبو محمد أبو شاكر ، وآخرون ، فشكراً لهم ، ووديعة لوقت الحاجة إلي ردها ، وأمنية بألا يجئ .
كان اتصال عبد الوهاب يختبئ في نقطة من نقاط المستقبل ، تبتعد عن يوم سفري بخمسة أشهر وبعض الشهر ، أتذكر أنني كنت جالساً علي مقهي يتوسط القاهرة ، وشاهداً علي جنون مرضعةٍ من الهناجر ، تضع في فمها طرف عصا مشتعل برهافةٍ بالغة ، تتزاحم حول جنونها المرتَّب العيون :
- انزل ضروري ، أبوك تعبان قوي !
وثبَّتت ذاكرتي اللحظة .
وأنا أتعهد الآن ثباتها ، تجد دهشتي التعبير عنها في استهانة عبد الوهاب بجغرافية مصر العليا ، لماذا لم يقل اطلع ضروري ، وقال ، انزل ؟ .
ونزلت .
مضي القطار نحو شمس اليوم الخامس ، وأهدابي كالقضبان ، صلبة ، لا تتحد .

(40)

كانت شمسُ اليوم الخامس ، تطارد آخر قطرات الظلام فوق السطوح النائمة ، عندما توقف التاكسي برقة أمام السياج الشماليِّ من الطلل ، أو العصارة في دفاتر الماضي القريب ، الباب المفتوح علي غير العادة ، يبدو أنهم كانوا يتوقعون الطاعة ، مسافة ميسرة ، لكنها لا تضئ الفريسة ، حاولت أن أحلل الأصوات لأعزل خيطاً يرشد ظلي إلي اكتمال الفاجعة دون جدوي ، أخليت وجهي من أيِّ تعبير أستريح إليه لتعابير وجهي القادمة ، ودخلت ، فواجه الصمت الركيك إلغائه حالاً ، لقد نفضت كلابنا نومها ، وأقبلت تجلجل نحو الغريب المشكوك في نواياه حيال الحيز النائم ، بحماس عصبيٍّ ، تحلل النباح إلي أصوات أشبه بالأنين عندما استطاعت أن تفكَّ شفرات ذكرياتنا المشتركة ، ورائحة موقدنا العائليِّ القديمة ، وتأكدت من نواياي الحسنة .
كانت وجوه القلائل الذين ارتطمت بتربصهم قد انكمشت إلي أبسط التعبيرات التي يسهل تحديدها ، وأشدها ألماً ، الرثاء بمختلف الألوان ، لقد صارت الطريق إلي قبونا أكثر هبوطاً ، وتجاوزت رائحة الجثة عتبة بيتنا النقية ، فتدحرجتُ بلا مبالاة ، ضبطت أمي تضبط ظلها في تجاعيد الجدران علي انتظاري ، لقد خسرَت نصف وزنها ، وحفر الحزن شقوقاً في شروخ أوجاعها ، بعد عناق قليل ، لكنه حار ، قالت من بين دموعها المتضامنة :
- ابوك عيموت !
وانفجر ، فجأة ، شلالٌ من الدمع الساخن ، وانتعش في قلبي رجاءٌ ، وموجة من نار المرح الداخليِّ ، بل نورٌ جدير النبع ، ربما كان تعقيباً علي اعتقادي الفاشل بأن دوائر موته قد اكتملت فعلاً ، وعلي ضوء الموت ، تصدُّرت الترتيبات اللازمة للطريق بعد رحيله لائحة اهتمامات ذهني العالقة . تقدمتني أمي نحو مرقده ، والتقطت بالقرب من احتضاره نوم عمتي ، لقد وجدت نصف وزنها ، التقطت أيضاً حطام جدتي في الزاوية المدانة ، تحمل وجهه في جيب وجهها ، عيناها المتعبتان ، يا سيدة التين الشوكيِّ ، افتحي حطامك لبعض العناق الضروريِّ قليلاً ودمعي ، وسمعت من بين حطامها صوت أمي اليائس يعلن غيبوبته بعودتي ، فاستدرت ، فأدهشني أن أراه علي خاصرة الدمعة يحاول النهوض ، تسلقت سريره مأخوذاً ، أعينه علي انتصاب قامته الفوقية ، ورحبت بي غيبوبته بحرارة ، أو هكذا كانوا يظنون ، وبحضن اعتباطيٍّ ، وابتسامة معقوفة :
- ألف بعد الشر عليك يبايا !
أجابني بمفاتيح هائمة ، لا تجيد العثور علي ثقوبها الخفية في أبواب الكلمات ، ثم انزلق فجأة ، بلا مبالاة ، في شرخ الفراش الفاتر ، كان قد ربح نصف موته ، وحطَّ نصف رجاء بالقرب من القلوب المنهكة ، اكتمل ، فجأة ، بعد قليل ، لقد استعان بنصف حياته واعتدل مرة أخري من تلقائه ، حاول إشعال سيجارة ، ولسبب غير مفهوم ، أعنته علي إشعالها ، سحب خيطاً خافتاً من الدخان ، وبمجرد أن مسَّ الدخان رئتيه سعل سعالاً عصبياً ، وأسقط السيجارة علي الفراش بقربه ، وانهار راقداً ، استعرت السيجارة من نقطة سقوطها ، ثم .. جلست ، أراقب ، من بين سحب الدخان ، نموَّ الضوء حول قبونا ، كنت للمرة الأولي ، أدخن علي بعد ياردات من أبي ، كان يدرك بالطبع أنني مدخن ، وكان أحياناً ، يخلي المكان من قامته ، ليفسح لنا سلة من قيود التدخين في وجوده ، كان أيضاً ، يرسل لنا أمي ، في جذر الليل المغلق ، بالكثير من سجائره ، عندما يفطن إلي نفاذ رصيدنا منها ، اعتدل مجدداً فاضطربت ، وقذف اضطرابي بالسيجارة بعيداً ، لقد كان عدم التدخين في وجوده يجثم علينا جثوم العادة ، سحب لفافة من السلوفان من تحت الوسادة ، إنه الوقت الخاطئ لانسياب المخدر في جيوب جسدك يا أبي ، وكأنه كان يصغي إلي انزعاجي الداخليِّ ، تردد قليلاً ، ثم أعاد الخطر إلي مكمنه بعشوائية ، وانهار .
قبل انبلاج النور الذي لا شكَّ فيه ، توافد أشقائي تباعاً ، لقد اكتسبوا جميعاً ملامح وجوههم القادمة ، ولقد زودوا أجسادهم علي غير العادة بالقليل من النوم الركيك ، يستعينون به علي متاعب الجنازة ، نوَّهت لهم عن قلبي ، إنَّ الذي يظنُّونه الموتَ يرابط أمام قبونا ليس الموت كما ينبغي ، وإنما هي مضاعفاتٌ متفاقمة ليس من الصعب تداركها ، راجعت الزرقة قلوبهم ، فأعلنتهم باشتعال عزيمتي علي إلقاء نردنا القادم في مستشفي سوهاج الجامعيِّ بطقس بسيط ، أن نستعين بالنقود المختزنة للجنازة لتأجيلها لبعض الوقت ، ثم نباشر تربية النقود القادمة ، واختزان القليل منها للجنازة القادمة ، قامت الرغبة مقام اليقين ، فوافقوا ، وبرزت مشكلة .
كان خطاب التحويل الذي بحوزتنا مسناً ، وكان عليَّ ، سداً لكل الثغرات ، الذهاب ، دون اصطحاب أبي ، إلي مستشفي نجع حمادي ، لأحرز خطاباً أقلَّ عمراً من نصف يتمي ، وكان ، وبرزت مشكلة أخري .
لقد حاولت عمتي إطفاء عزائمنا ، والوردة الخاطفة :
- والله يا ولاد أخويا ، خسارة فلوس وبس !
وانساب من نيتها شلالٌ مكثفٌ من دلائل النهاية الوشيكة ، والمؤكدة ، لا يحترم ضغط الأمل ، وكأنه بلا أوَّل .
وانحازت جدتي إلي نيتها ، وانحازت إلي نيتها أمي وشقيقاتي ، وقدَّمنا ، مع سبق الإصرار ، توسلاتهنَّ السائلة علفاً للريح المذعورة .
كان علينا القيام بمحاولة ، تكمن احتمالاتها النهائية ، ومدي ما سوف يتحقَّق منها في تجاعيد الغيب ، وكان كلُّ ما نحتاج إليه في ذلك الوقت هو ، أن ندرك حقيقة بأننا ، سواءاً كنا نسير نحو الأفضل ، أو نحو الأسوأ ، مضطرون إلي الدوران مع العجلة ، وأن النكوص يعني بقاء العربة أمام الحصان إلي الأبد .
وكان يبدو أن آلية سرية تفتح مؤقتاً ، باباً مجهولاً لخلاصنا .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس