عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 01:58 AM   #9
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(32)

كانت بداية المنعطف الأخير ترحب بعصام ، عندما كنت مكلفاً من إدارة الصيدلة بالعمل في مستشفي نجع حمادي الأميري ، ودقَّ ، فجأة ، مساء بيتنا ، أخبرني أنه يواجه صعوبة أثناء تبوله ، وأن بوله يخرج أحياناً في خيطين كالأطفال في أيام الختان ،لا أظنُّ أن كلَّ أعضائه كانت قد اختلّت حتي تلك اللحظة ، نصحته بأن يدقَّ صباحي في المستشفي فوافق ، وأدهشني أنه ردَّ ألمه إلي الحسد ، وكان حسد الآخرين له في اعتقاده تعقيباً علي إحصاءه ، مع سبق الإصرار ، بعد نهاية كل يوم عمل ، حزمة من النقود الضحلة تحت عيون الدوميين في مجتمعاتهم .
هذا يقودني إلي الاعتقاد بأن الإيمان بالحسد لا ينتمي إلي العواطف المبتذلة بقدر انتماءه إلي المعومات المحفورة في الجينات الوراثية ، الجدُّ قنين كان مريضاً بفوبيا الحسد أيضاً .
كان المسنون الذين نثق في إصغائهم إلي الماضي بذاكرة لائقة ، يروون لنا أن الجد قنين ، عندما ذهب إلي البطحة لرؤية الخالة "جليلة" للمرة الأولي بعينه الواحدة ، وكانت الأخري مطفأة ، قد ارتدي فانلته معكوسة ، وبرر تصرفه الغريب بخوفه من الحسد ، ولقد أكدت لي الخالة جليلة صحة الرواية ، وأضافت نادبة :
- أمال لو ما كانش أعور .. يا نضري ؟ !
يقولون أيضاً ، أنه كان يحب الطفل عصام أكثر مما ينبغي ، وكان يسحبه وراءه إلي كل مكان ذهب إليه ، وإذا تصادف أن سأله ، ولو بنية طيبة ، أيُّ شخص :
- ولدك دا يا قنين ؟
أجاب مذعوراً :
- لاه !
ثم يدير ذعره إلي طفله الذي لا يتجاوز سنواته الثلاثة الأولي علي طرف الزمن ، ويتساءل :
- إنتا ولد مين يا حبيبي؟!!

(33)

خيام مفتوحة للرياح من كلِّ جهة ، وأوتاد ركيكة ، يهتزُّ كلٌّ منها برعشة خاصة ، وحياة كاللا حياة ، وجدران ، جدران ، جدران ...
أتذكر أن العم عبدالباسط ، وفي ما بدا أنه اندفاعٌ وراء شهيته للمأكولات عالية الدهون ، والحارة ، اشتدَّ مرضه فجأة ، وذهبنا بمرضه إلي الطبيب ، ولسبب غير مفهوم ، أكَّد لأبي ، ولي الطبيبُ ، أن ساعاته لمتبقية علي طرف الزمن لا تتجاوز الستة ، ورجعنا والحزن ، وظللنا إلي جواره حتي وقت متأخر من الليل حتي أنه مبكر من النهار ، وهو يستغرب بقاءنا بهذا الشكل ، فجأة ، خلع تعبير الخجل عن وجهه ، وصاح بنا :
- مبلطين كده ليه ؟ . ما تقوموا تمشوا ، عايزين إناموا !
واستجابة لرغبته الأخيرة ، أو هكذا قدَّرنا ، انصرفنا لنتركه يصغي لموت بعيداً عن رقابتنا ، ورتبنا قلوبنا لصباح جنائزي ، ولكنه فاجأنا بوردته الطليعية في حوض صباحنا في موعدها تماماً ، كان لا يزال حياً ، ولائقاً أيضاً .
ولسبب غير مفهوم أيضاً ، فشل أطباء مستشفي نجع حمادي في اكتشاف مرض عصام ، وكان فشلهم من أقوي بواعث الريبة لديَّ في أنَّ وراء الظلال حقيقة صلبة ، ونصحته بالذهاب إلي طبيب أثق في شهرته أكثر ، هو هو الطبيب الذي أكَّد ، في نقطة كانت في ذلك الوقت مختبئة في تجاعيد الغيب ، ورم أبي ، د. محمود مصطفي ، لقد أصبح مجرد ذكر اسمه ، بالنسبة لي ، كافياً لجعل الانخراط في انطباعات الضيق يعمل ، وتوقعت الطاعة ، وكان ، وكان حجر الطبيب الذي انهار له عصام فيما بعد ، لحمية في الحوض ، خذيني وجرِّيني ضباع ، وأبشري ، بلحم امرئ ، لم يشهد اليوم ناصره .
وسافر المسكين إلي القاهرة ضيفاً ، للمرة الأولي ، علي معهد الأورام ، ليس الاسم الأجمل ، ولكنه الملائم .



(34)

كانت أكثر من مجرد صدي للألم ، ضحكات عصام في ليلنا ، عقب عودته من رحلته العلاجية الأولي إلي القاهرة ، حكي لنا الكثير ، بروح تحتفظ بلياقتها السطحية ، عن الذين يشبهونه في العجز من المرضي ، كان الكثيرون منهم ، بحماية ادعاءاته ، يواجهون المرض باللامبالاة ، ويتزاحم الكثيرون أيضاً حول تبرعات الأنقياء غير المشروطة للمعهد إلي درجة الشجار معاً ، ومعاً ومع الموظفين ، ومعاً ومع الموظفين والأطباء ، وقد يصل الشجار إلي حد التماسك بالأيدي والأسنان ، وتترهل الحكايا ، لا تخشي ضغط الزمن ، وكأنها بلا قيمة .
وكان لابدَّ ، لأنه عصام لا أكثر ، أن تنزلق الحكايات في شرخ المبالغة .
حكي لنا عن مريض من محافظة الشرقية ، أجري له الأطباء ثلاثين عملية جراحية ، ليس هذا موطن الطرافة في ترجمته لذلك المريض المسكين ، بل ادعاؤه أنه يعيش بغير كليتين ، وكان لابد أن يواجه التعبير عنه سؤال من هنا أو هناك ، كيف يعيش إنسانٌ بغير كليتين ؟ ، وأجاب عصام جاداً :
- بالبركة !
إنه اليقين يقوم مقام الرغبة لا أكثر .
طالت الحكايا الممرضات أيضاً ، حكي لنا عنهن الكثير ، هنّ يعاملن مريض السرطان كمعاملة أيِّ ممرضة لأي مريض بالأنفلونزا ، وليس الأمر ينطوي علي شئ من الغرابة ، فإنه من غير المعقول أن تتفاعل الممرضة مع مرض كلِّ مريض ، أو تشعر نحوه حتي بالقليل من التعاطف ، وإلا تحولت إلي أطلال ، إنها تؤدي عملاً ، ثم إنها بالإسراف في التجربة ، لمست العمق الأليف للموت في إطاره ، أو أصبح ، علي الأقل ، مجرد طقس مسرف في التكرار ، أصبح الموت من اليوميِّ ، وأجد هذا تعبيراً عن حقيقياً عن حكاية قرأتها ، أن رجلاً استوطن بيتاً بالقرب من مدبغة للجلود ، وظلت الرائحة الكريهة كعالمنا ، لسلة من الأيام الأولي ، تثير غثيانه ، وخاص صاحب المدبغة إلي السلطات ، وتلكأ دهاء صاحب المدبغة عن الذهاب أسبوعاً ، ومضي الأسبوع ، وماتت الشكوي .
لقد اكتسب الساكن الجديد بمعايشة الرائحة وعياً جديداً بإحساس الألفة .
اشتبك مع ممرضة في فاصل من السخرية ، فقالت له من بين ضحكاتها :
- يبتليك بمحسن !
وهذا المحسن بحماية ادعاءه هو حلاق المعهد ، وذهاب المريض إلي الحلاق ، يعني أحد البروتوكولات الطليعية لإعداده لجراحة نتيجتها المؤجلة ، والفريدة ، حتي أنها الوحيدة هي الموت ، هي تعني ببساطة :
- يا رب تموت !
نضحك حتي تدمع أعيننا ، يظلُّ الألم باقياً ، ولكنه يصبح خافتاً ، أو هو لم يكن ضحكاً بقدر ما كان محاولة للفرار من مجرد استشراف الغيب بطريقة ركيكة .
الطبيب أيضاً ، ليس من المعقول أن يكون صديقاً ، أو رقيقاً إلي هذا الحد .
عقب سلة من الرحلات بين الدومة والقاهرة ، صدمه الطبيب صدمة فاحشة ، طالت بتصرفات منخفضة صهره "أبوالوفا" أيضاً ، لقد فتر حماس المتحمسين لمرافقة ورمه إلي القاهرة سريعاً ، وواظب فقط أصهاره علي حراسة حماسهم حتي النهاية . لقد أعلنه بتبني الأطباء المعالجين قراراً باللجوء إلي الكيماوي كممر وحيد نحو شفائه ، أدركت من الشوك في كلامه ، أن الورم كان قد ترهل إلي حد أصبحت معه السيطرة عليه مستحيلة ، وأن الجراحة تتحد تماماً بالقتل الميسر ، استوعب عصام أيضاً أطراف الكلمات الحادة ، وقال للطبيب ، وعيناه توقِّعان دمعهما :
- استحمده اللي جات فـ الطواطة !
عبارة ليس من السهل تفسيرها ، أو حتي إلقائها علي أطراف جملة تستدعي عمل الذهن في مقاربة مرضية لتفسيرها ، هي لابدَّ سلة من التكلسات المكدسة في جيوب ذاكرته المشتتة حالاً ، طفت ، فجأة ، بعشوائية ، والتحمت بعشوائية ، فجأة أيضاً ، فشكلت تلك الأخلاط اللغوية .

(35)

ينتصب ليل الدومة كمأذنة مهجورة خلال وشائج جلية ، وشائهة ، من الخواء الروحيِّ القاتل ، وتتجلي ألوان البهجة في أدني بقعةٍ في الظلِّ حدثاً باهظاً ، ينخرط في لهجات المتعبين غابة من الأيام قبل تحققه ، وغابة من الأيام بعده ، وتجد الحضرة الشومانية ، حتي بعد أن واجهت إلغائها ، التعبير عنها في الكثير من النبض الشهير في أوردة الليالي الخوالي ، والقادمة ، التي وزعت ، وتوزع ، نقاط البهجة في أفق الدومة الآسن .
وحتي كتابة هذه السطور ، لا يزال الريش يتطاير من جيوب ذاكرة ادومة الكلية ، فينساب في سطحها شلالٌ من العصافير لا يصدأ ، ولا يواجه إلغائه ، تكريماً لذكري الأخوين " أحمد ومحمد أبوشومان " المرحومين .
يدق الأخوان طبلتيهما ، انطلاقاً من صفر بيتهما في الجيب الشرقي من الدومة ، وتزداد تدريجياً إيقاعات الطريق حدة ، ويزداد الأخوان مركزية في دوائر الصخب ، ويتسلل إلي حوافهما الكثيرون من الجالسين أمام البيوت ، والجالسين أمام المقاهي ، والفضوليين ، والنمامين ، والعاشقين ، والحاقدين علي العاشقين ، والطيبين ، والصالحين ، والمنافقين ، والصوفيين ، والمسيحيين ، والأطفال ، وتتشكل قومية كبيرة بطقس بسيط ، وتتنحي الأحقاد جانباً لبعض الوقت .
يدق الأخوان أحمد ومحمد أبو شومان طبلتيهما علي نحو مذعور ، ولكنه حميم ، قبل سلة من الأمتار من مظان الحضرة ، فتستقبل النساء وفادتهما بالزغاريد ، تستخف بعض الصغار نار لمرح الداخلي فينزعون ثيابهم ، ويصير الصخب ممتلئاً حتي كأنه هدوء ، ويندمج مع الهمس ، والأسرار الخفية ، وأصداء البيوت ، وحفيف الأشجار في الحقول ، ونقيق الضفادع ، وخفقات أجنحة الفراشات السحيقة ، وانتفاضات البهائم في الحظائر تنفض الغبار والحشرات عن جلودها ، فيشتعل الليل كفضيحة ، وتصبح نار المرح الداخلي تعبيراً محمياً لا يتسع له الكثيرون .
يدق الأخوان لدقيقتين طبلتيهما وقلبي ، واقفين في صدر المكان وقلبي ، ثم تهبط حدة الإيقاع تدريجياً ، حتي يتفتت تدريجياً إلي شكوك غامضة ، تتابع خفوتها ، ثم ، فجأة ، تتلاشي ، لتتماسك من جديد عقب انتهاء طقوس العشاء ، وتنتظم حلقات الذكر انتظاماً ركيكاً في البداية ، لا يلبث أن يحتشد ، وتتحول الأجساد إلي جمل روحية ، عندما يتأكد العم محمد أبو شومان من إمساكه التام بأزمة الرجال المترنحين علي الحافة الغامضة ، وفي لحظة معايرة بعناية خاصة ، يبدأ في ترديد العديد من الحكايات الأسطورية عن السيد أحمد البدوي ، الذي .. أبو بطن واسعة ، والذي شرب ماء البحر برشفة واحدة ليعيد طفلاً غريقاً إلي أمه ، والذي .. كان المريدون يلتقطون بيض طيور الفردوس من صومعته ، وفي الحقيقة ، لم يقل العم محمد لنا و للتاريخ ، هل كان ذلك البيض نيئاً أو مسلوقاً أو مشوياً في نار جهنم ؟ ، أو لم أفهم علي أية حال ، ولكن ذكري مشابهة ، وهزي إليك بجذع النخلة ، تدفعني إلي يقين بأنه كان نيئاً ، ليدرك الذين يفضلونه مسلوقاً أو مشوياً قيمة العمل ! .
وتعبر الأساطير تباعاً من نفس إلي نفس ، خلال الفجوات الذهنية ، تحت درع ثقيل من الاعوجاج الفكري ، دون عائق ، بل والإيمان الطليق في صحتها ، أو هكذا يظن الحمقي ، هم أكثر خبثاً بالتأكيد الزائد عن الحد ، وهم لا يصدقون إلا ما يرون ويلمسون ، لقد اتخذوا من التعايش السلميِّ مع كل المعتقدات درعاً يحرسون به بقاءهم ، تقليد دوميٌّ خاص ، وهذا يقودني إلي حكاية طريفة ، ورائجة ، للعم محمد أبو شومان ، تعكس المشهد كاملاً ، وتشوهه تماماً .
كان العم محمد ذات ليلةٍ مستغرقاً في حالته تماماً ، وكان يردد ، بنغم سكَّري :
ساكن طنطا ، وفـ مكة صلاااااتو ! -
واقتحمت حالته ، فجأة ، زوجته ، الخالة صديقة ، مذعورة ، وألقت عليه نبأ شجار عائليٍّ كان لا يزال نشطاً حول بيوتهم ، وأضافت ، أن العم "حلاتو" كان في زيارة للدومة ، وتدخَّل كطرف أصيل في المعركة ، فتحلل تعبير الرضا علي وجهه إلي غضب ، ويبدو أنه لم يتمكن من الانسحاب من حالته في الوقت المناسب ، وربما كان الغيظ ، وربما الذعر من تهور العمِّ حلاتو ، هو ما جعله يصعد بالإيقاع إلي ذروة العنف ، واستأنف الإنشاد بشكل مروع ، وهو يتساءل ، بنغم عدائي :
وايش دخَّلو فيها حلااااااتو ؟!! -
تعليق حقيقيٌّ ، بشكل متعصب علي أفكارنا السابقة عن الزنادقة ، وخبث الزنادقة حيال الحياة .
هناك بعدٌ آخر لشخصية العم محمد أبو شومان ، العم محمد أبو شومان مؤذن المغرب الدوميِّ في رمضان .
بعدٌ ثالثٌ لا ينتبه إليه الكثير من الدوميين ، أروع مؤذني المغرب في رمضان علي الإطلاق .

(36)

حتي ابتلعه المنحني الحاسم ، ظلَّ عصام محتفظاً بروحه المتهكمة ، هذا أضفي عليه مظهر المستهين بالموت ، بشجاعةٍ صلبة ، ولكنَّ شجاعته الزائفة لم تنطلي عليَّ أبداً ، ولم يكن بالطبع من اللياقة اختبارها ، كنت أصغي لما لا يقوله ، لا ما يقوله ، هكذا تعوَّدت ، ثمَّ تحت السطح .. كأنني كنت أصغي إلي داخله المكتظ بالأصوات تماماً .
قبل انهياره ، بلا مبالاة ، بأسبوع وبعض الأسبوع ، كنا نجلس منفردين في بيتنا ، نشاهد فيلماً من الأفلام التي استعارت عالم الأستاذ نجيب محفوظ بإسراف ، حتي انزلقت في الجرح الذي لابدَّ لها منه ، التكرار ، وعدم معرفة المشاهد بالحقيقيِّ ، وبالمطليِّ بظلٍّ شاحبٍ من اللاشئ ، وانساب مشهدٌ لست أدري ماذا لمس بالضبط في جيوب ذاكرته ، كان المشهد يجمع بين الأستاذين صلاح قابيل ، ومحمود ياسين ، وآخرين ، أتذكر الحوار علي نحو واضح ، لقد تساءل الفنان محمود ياسين من ردهة شلله الواضح ، بصوت يلائم العاجزين :
من إمتا كلابها عوت علي ديابها يا نوح يا غراب ؟! -
خفض عصام رأسه ، وقوَّس كتفيه أماماً ، وأطلق صوتاً هائماً ، يفتش عن إدانة غامضة لشئ ما ، ثم انخرط في بكاء حاد ، مذعور ، حتي أنه نبه علي بعد غابة من الخطوات أمي ، وتنبه ذهني مبكراً إلي سخافة أيِّ محاولة مني لتهدئة قلبه ، بل وشاركته بنصيب وافر من الدموع الحقيقية لأحرضه ، لقد درجت عليه يضحكنا فيريحنا ، فلماذا ، ليرتاح ، لا أتركه يدين الوجود بإيماءته الوحيدة المتاحة ، عينيه ؟ .
إن ساخراً أصبح ، فجأة ، مركز دائرة السخرية ، خليقٌ بأن يقوم مقام الدليل الذي لا مراء فيه علي عبثية الحياة ، وبساطتها أيضاً ، هل فوق حياة ؟ .
استعاد هدوئه بعد دقائق من البكاء المتدرج صعوداً وانحداراً ، ثم اشتعل عزمُه ، فجأة ، علي الفرار ، لقد لمست بوضوح أكثر مما ينبغي ، خجله الشديد من عراء انزعاجاته الداخلية أمامي .
لماذا ؟ ، إنني أخوك في العجز ، وخوابي الفشل المشتركة .
طالبتني أمي ، بعد أن ابتلعه الشارع الخالي من العصافير ، بتفسير لجنازتنا القليلة الماضية ، يا أمي الطيبة ، إنَّ هكذا سؤالاً ، سؤالٌ يجري في يقين السخافة ، إنَّ شاباً تترنح الحياة في قامته ، وتتماسك عيناه هو السؤال المتطلب ، تمسكتُ بالصمت الجارح ، لقد ردَّني الخجلُ أن أحدث أمي عن .. نو ح الغراب .
كانت هذه هي آخر مرة أري فيها عصام ، ولقد انخفضت بفضلها زرقة قلبي كثيراً ، حتي أنني وضعت مأساته في جيب همل من جيوب اهتماماتي ، فقط لا أتسع لها ، ولا يتسع قلبي لموطأٍ لخسارة إضافية .
علمت فيما بعد ، أنه ، وهو في طريقه الأخير إلي القاهرة ، علي مشارف الدومة ، هاجمه نزيفٌ حاد ، أعاق رحلته الأخيرة من رحلات الدوران في الفشل ، وعاد مستنداً علي ظلال الآخرين ، بملامح وجهه القادم .
استيقظت مذعوراً ، ذات صباح لا مراء في بومه ، علي ضجةٍ أكيدة ، ونظرت من النافذة القريبة ، ورأيت الخالة جليلة ، تندفع مهرولة من باب بيتها إلي الشارع السائل ، والخالي إلا من الغربان ، يتبعها سلة من النساء ، تتزاحمن علي تهدئة قلبها ، غرسَت عينيها في لحم السماء ، وصاحت في تحفز حقيقيٍّ :
- يا ظلمك ، يا ظلمك !
كانت بحماية أكبر خسائرها علي الإطلاق معذورة ، لقد دخل وحيدها موته ، موته الذي أتمَّ امتلائه قبل غروب ذلك اليوم تحديداً ، ثم تحول عصام إلي حزمة من مكعبات الثلج ، ثم .. ذاب في مساحات السفر الواسعة .
الغروب ..
جزيرة ٌ حقيقية ٌ من الجمال الخاطف .
لكن الوجه المتغضن .. علي الرماد .

(37)

إذا كنتُ أظنُّ أن الخالة جليلة قد تمددت هي أيضاً في مساحات السفر الواسعة ، بعد موت وحيدها ، عصام ، بسلة من الشهور القليلة ، تعقيباً علي هدنةٍ للقلب المفعم ، تحولت إلي فرار مدبر إلي حيز لا يخون الفريسة ، فلأن ذلك علي الأرجح ، هو الذي قد حدث .
لقد أسكتت مع سبق الإصرار قلبها ، ليتَّحد فقيدها هناك ، من جديد ، بهمهمة الأصداف في رحمها الشحيح ، لقد باشر الجود فقط بأنثي ، ثم الجود بالقبر المؤجل الذي أسمته عصام ، ثم تمطَّي في أقبية الجفاف حتي عمَّرَ الجدُّ قنين قبره ، وتوقف جوده من تلقائه إلي الأبد ، وتأكدت عفَّتها إلي الأبد .
ويحيِّرني بقاء جدتي ، حتي كتابة هذه السطور ، خلف وحيدها الذي أعقب فقط أنثي ، ثم انزلق جدي في الهوة التي لابدَّ له منها ، وتأكدت إلي الأبد عفَّتها .
وهذا التشابه الغامض .
وأظنُّ أن بقائها المريب ، يجد التعبير عنه في تغيير هزيمتها الكبري إلي معلومات إضافية في جيناتها ، أمَّنت لها الصمود لوقت الحاجة ، ولكن الذي أثق فيه تماماً ، أنَّ نظراتها الهائمة علي الدوام ، تفتِّش تحديداً عن وجهٍ يرجُّ قامته في روحها ، لتستقرَّ عليه ، إنه ذلك الوجه الدائر في خطواتي كمقصلة ، تخيِّم علي جزيرة عاطلة .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس