عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 01:54 AM   #6
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(21)

ورور أيضاً ، أو غضٌّ .
لا يزال بائعو الفجل في الدومة يزينون تجارتهم بالنداء المنغم : " ورور يا فجل " . لماذا ضغطوا دلالة الكلمة في إطار الفجل تحديداً ؟ . لا أدري أيضاً ..
هذا يقودني إلي ذكري لا أستطيع الآن تقويم دلالتها ، ولكنها تشتعل في ذهني كفضيحةٍ وقلبي ، لا أستطيع أيضاً تحريك بواعث أبي في مباشرة تربيتها فجأة ، لقد رأيته قبل ظهيرة يوم شديد الحجارة ، عاكفاً علي مأزقي ، ومأزق أخي ، بوضوح أكثر مما ينبغي
كان العم عدلي بظيو قد أخلي جزءاً من هامش عشوائي مزروع بنبات الفجل ، يسور حقلاً مزروعاً بنبات الفول ، وأتي به علي حمارته القصيرة السهل ، وأسقطه في كومة سائلة أمام بيتنا ، فحطت الكومة بقرب أبي ، ورأيت بعض المارة يتوافدون ، ويأخذون منها حتي دون إذن ٍ من أبي ما يلائم حاجة بيوتهم ، ويمضون ، وأرسل الكثير إلي بيتنا ، وكومة من الأوراق الصفراء ، والرؤوس الشائخة إلي البهائم الصغيرة في حوشنا ، وبقي الكثير أيضاً .
أخذ أبي يجمع ذاك الكثير في حزم متوازنة ، ويقيدها بسعف النخيل ، والسيجارة مرسلة في زاوية فمه ، وراقني العمل الذي يجاور اللهو البهيج ، ولكن أبي رفض ، من بين سحب الدخان ، أن أسلي نفسي بمساعدته ، هو يري أنني لا أعرف ، ولأتأكد أنه علي حق ، تركني أصنع حزمة ، وتأكدت ، كانت الحزمة مضطربة ، وشاذة عن سياج حزمه ، أعاد فكها ، ثم صنعها علي عينه من جديد .
تشكل المأزق مباشرة بعد انتهائه من العمل ، هو يريدني وحازم أن ندور بالفجل في أزقة الدومة ، وتوقفت فوق الجذور ، فرجَّ الخجل قامته في وجهي ، وبكيت ، ثم أعلنته برفضي أن أبيع الفجل ولو كانت عاقبة الرفض موت ، هذا شئ لا يمكن أن يحدث أبداً . ما دام البديل ممكناً ، كان في عينيَّ إصرارٌ ليس من الحكمة اختباره ، فواجه قراره إلغائه الخارجيَّ ، ولكنه بحيلة بسيطة ، وضعني في قلب المأزق تماماً ، جهل الصغيرين بإحصاء النقود .
لقد استأجر" أسعد أبو عدلي " ، يحمل الناحية التي كان يقدر أنني سوف أحملها ، وحمل حازم المقطف من الناحية الأخري ، كان الخجل يمتصه أيضاً ، أدركت هذا من خطواته المضطربة التي لا تتحد بخطوات أسعد بوضوح أكثر مما ينبغي ، كنت أسير خلفهما ، بانكساري الحاد ، أجمع النقود .
ليت الأمر توقف عند هذا الجذر الباهظ .
في اليوم التالي ، ازداد عطاء الأرض خشونة ، وأخلي العم عدلي سياج الفول كله ، من الفجل ، ونقله إلي بيتنا منجماً ، فأصبح جرن الفجل الواجب استخدامه قبل فساده ، بالنسبة لعدد سكان الدومة الصغير ، لا يتحد بحاجة الدوميين القليلة ، فرأي أبي أن نبتكر لتجارتنا سوقاً إضافية ، واستلزم هذا أن نستعين بحمار و " قطاوي " ، ومن السيئ أن أسعد قد ذاب في ذلك الأصيل فجأة ، فدفعت إلي التجربة مكرهاً .
تخيَّر أبي وجهتنا ببساطة ، نجع الزعرة ، كأنما أراد أن يضفي علي فضيحتنا بعداً إقليمياً ، ودافع عن اختياره بكثرة المسيحيين فيها ، وولع المسيحيين بالفجل .
واكتظ سطح الحمار الرمادي بالفجل ، وحمل هو حازم من تحت إبطيه ، وراقب اتزانه علي السطح الأخضر ، وثبتت ذاكرتي اللحظة .
سرت وراء الحمار ، أخفي حرجي بمأمن خلف الغبار الركيك الذي تثيره حوافر المهذبة ، لم نتبادل علي الطريق كلمة ، كان الخجل يستقطب صمتنا ، وانزلق حازم من خجله بمحاذاة بيوت نجع الزعرة الطرفية ، وسار أمام الحمار علي قدميه ، ممسكاً برقبته ، توقف الحمار فجأة ، وأوسع من حيز قدميه الخلفيتين ، وأرسل بوله الأصفر ، ثم غارت خاصرتاه ، وأطلق صوتاً مزعجاً ضاعف من خجلنا :
- هي هان ، هي هان ، هي هان ، هي !
قبيل اقترابنا من بيوت نجع الزعرة المركزية ، أمرت حازم أن يزين بضاعتنا بالنداء المنغم ، ورور يا فجل ، فجاءني صوته ، أنا الذي علي بعد ياردة ترابية منه ، مشوشاً ، ثم هو صوت يخلو من الإيقاع ، كأنما يتكلم ، الكساد الكساد ، هددته باشتعال عزيمتي علي قتله لو لم يتابع النداء بصوت أكثر إقناعاً وارتفاعاً ، له أساليبه أيضاً .
لقد احتقن وجهه ، واحتشد الدمع في عينيه ، وهددني بالفرار وتركي والمأزق وحدي ، وهو ليؤكد لي أن تهديده حقيقيٌّ ، أرسل رقبة الحمار في عنف ، وتراجع خطوتين إلي الوراء ، وسكنتُ ،فجأة ، الموقف الأكثر ضعفاً ، لقد كسدت تجارتنا إذن ، والمدي ضيق ، كان الضوء ينسحب ، والليل يهجم ، وهذا يعني أن المستهدفين يرتبون الآن ألوان عشاءهم ، وربما كان الآخرون من بائعي الفجل قد سبقونا ،والتحق المأزق بفكرة بيضاء ، لقد أغريت ، إنقاذاً لليلتنا من الأسود الخالي من قوس للنجوم ، طفلاً مسيحياً ، بوعد مجاني من فجلنا لقاء نداءه علي بضاعتنا ، ولكن ذلك المتعجرف قد ركلني برفضه في قلبي ، فأصبحت في مقدمة الجنون ، وأثار الغيظ الباهظ رغبتي في قتله ، ونسيت فرديتي وقوميتهم ، وهجمت علي رقبته في عنف ، وأنا أصيح به في غضب حقيقي:
- حتي انتا يا صليب الحلوفة !
يا للدين ، وما يربي الدين من الحواجز بين العابرين في الكون ، المتماثلين في الفشل ، المتوحدين في يقين الألم .
وفي ما بدا أنها قوة خفية تفتح لخجلي وخجل لأخي باباً للخلاص ، انحسر ، فجأة ، غبار المعركة التي انطفأت سريعاً ، بفضل زهد المسكين في ترهلها ، عن شابة مسيحية ، كأنها استطاعت أن تصغي لمأزق الطفلين السائرين أمام ، وخلف الحمار في صمت قاتل .
اقترحت عليَّ ، بعد أن انتسبت لها ، أن أتخلي لها عن مهمتنا ، فوافقت من كلِّ قلبي ، ابتسمت حتي تحول فائض من الابتسام إلي ضحكة خجلي ، عندما انتبهت إلي تطلعي المتواصل إلي الحمامتين المرسومتين بالترتر الأخضر علي ثدييها المكتنزين ، لا أدري علي أي ضوء كانت تفكر ، لقد ذهب ذهنها بعيداً .
قدت الحمار إلي حيث أشارت في صمت ، ثم انخرطت في اللعب مع الأطفال سريعاً ، وانخرط حازم في الركض خلف جراء الخنازير .
لقد شكلت تلك اللحظات المحك الأول المؤدي بيني وبين الآخر ، نعم هناك مسيحيون في الدومة ، ولكن التحامهم الشديد بنسيج الدومة كان علي الدوام كافياً لجعل انخراطنا في النظر إليهم كآخرين يتوقف ، ليسوا بهذا السوء علي الإطلاق ، ولو تنحي الدين جانباً لاتسعت دائرة الحبّ كثيراً .
واجهت انطباعات الترف المفعم إلغائها سريعاً ، لقد نفقت بضاعتنا ، وأعطتني الشابة ثمنها وأكثر ، دعوة للضيافة علي العشاء لا مراء في حرارتها ، شكرتها كثيراً، وأمام إصراري علي الرفض ، انحنت الحمامتان علي صدرها ، وحملت حازم من تحت إبطيه علي السطح الذي انخفض .
وأمام هذا التيار من الرقة وجدت التعبير عنها في ركن من ذاكرتي مسوّر عليها وحدها ، ورحب بي طريق العودة وأمنية وبعض الحنين القادم ، لقد تمنيت ، لأراها مرة أخري ، لو أنَّ أرضنا لم تتمَّ عطائها في ذلك اليوم لعام قادم ، وانتابني في طريق العودة حنين غامض للعودة إلي رقتها ، امتدَّ فيما بعد اندفاعي خلفه إلي العديد من المحاولات الفاشلة ، وطال الخمود ركنها السكَّريَّ في ذاكرتي تدريجياً ، غير أنه لا يواجه انهياره علي الإطلاق ، وغير أنه فيما بعد اشتعل ، فجأة ، بفعل استحواذ الغيرة وأشياءها ، لقد علمت بعد سلة من السنوات أنها قد تزوجت ، بل أنتجت للكنيسة سلة من النباتيين الجدد ، وأنها أيضاً ، وهذه نقطة الألم ، تشتبك في علاقة لا يمكن تقييمها بمسيحيٍّ من الدومة ، وطني الأم ، لا أدرك ما وراء الكواليس علي أية حال ، ولا أقيم وزناً لوشايات الدوميين أيضاً ، لقد درجت عليهم يضحّون بالحقيقة في سبيل الكلام ، وبرغم هذا غلف الألم لهذه الخيانة لبعض العقارب الزمنية إحساسي ، ذلك أنني أشتبه اليوم ، أن قلبي في ذلك اليوم ، خفق هنيهة لها .
وأنا أنظر الآن إلي الوراء لأستعيد حداثة صورتها ، أتأكد أن ذاكرتي لم تثبت ملامح وجهها بما يكفي ليدرأ عنها التشوه والسيولة ، والرداءة ، ربما كان إسراف أحلام اليقظة في استدعائها ، أضاف إلي ملامحها الكثير من ملامح الأخريات ، ولكنَّ ما اختزنته الذاكرة بفضل الحلم تخزيناً جيداً يقودني إلي الاشتباه في أنَّ ملامح وجهها تتحد بملامح وجه العذراء الرومانية كما نراه في صورها الشهيرة ، وهي صورٌ تختلط بخلفيات من نزوات الفنانين المختلفة ، ولا تتحد بالتأكيد الزائد عن الحد بصورة مريم الحقيقية ، ولا تقترب حتي ، لقد كان ورع الفنانين الأوائل ضاراً ، هم أضفوا علي وجهها بكرم عصبي ، وبإفراط ، وليس جمال الورع الإفراط ، سلاماً مفرطاً ، وأصداءَ أليفة ، واستسلاماً ممتلئاً أيضاً .
تلك النظرة الاسكاتولوجية ، التي لا تتمسك بالدنيا ، ولا تتوقف فوق جذور ما يمكن أن يصيب الإنسان من الحظوظ فيها ، إنه وجه امرأة تعاني انطباعات الهدوء الداخليِّ ، بل الطاعة ، لا وجه امرأة يمس الإنزعاج حيزها الداخليِّ ولو مساً رقيقاً ، وهذا لا يتفق مع حياتها القلقة علي حواف غابة من النوايا السيئة ، كما تؤكد الأسطورة .
وأتذكر أنني ..
ارتطمت في مدينة أسيوط بوجه امرأة تتحد ملامحه بشكل مروع ، وبما لا يدع مجالاً للذهن أن يعمل ، بملامح وجه العذراء الرومانية ، وليس أدلُّ من هذا علي أنَّ الرغبة تقوم مقام اليقين أحياناً ، وأنَّ القناعة إذا أتمت امتلائها تستطيع إلي حد بعيد أن حرف المعلومات المحفورة في الجينات الإنسانية .
حقيقة تحتاج إلي صوفية النظرة للأيمان بامتلائها .

(22)

انهارت أعصاب القاهرة علي الغريب تماماً .
فزهد الغريب في قسوة المقام بها وعاد ، زهد في انتظار بناية تتم دوائر ارتفاعها ، يكون لها بواباً حتي الموت ، وعاد .
وإذا كنت أظنُّ أنه عاد ، لأنه سمع أنَّ أبي يتبني إنشاء عصارة لصناعة العسل الأسود تتسع لجهوده فلأنَّ ذلك علي الأرجح هو الذي قد حدث .
هدموا الحوش فهدموا جزءاً من ذاكرتي ، وأسوأ في ما في هذه الدنيا أن تفقد شيئاً حميمياً من ذاكرتك .
عاد يمشي في الطريق إلي ليلنا .
حدثنا بعد عودته ، أنه ذهب للبحث عن عمل ، فأسلمته قدماه إلي منطقة زحف إليها العمران حديثاً ، فرأي النساء للمرة الأولي يشاركن الرجال العمل ، وأي عمل ، حمل القروانة ! .
حدثنا أيضاً عن حديثهن السافر عن الجنس ، وأنَّ الواحدة منهنَّ إذا استطاعت أن تسبق رجلاً علي السقالة ، استدارت ، ووضعت إصبعها في مؤخرته ، وأنه رأي المقاول يمارس الجنس مع إحداهنَّ ، ورأي حارس مواد البناء الليليِّ يستحم عاريا ، ورأي أحد العاملين يتحرش بالمرأة التي تصنع الشاي ، وأنه عاد أدراجه زاهداً في العمل مع قوم لوط .
رأي بعد غابة من الأمتار غابةً من الكلاب يطاردون كلبة هائجة ، فلمع في ذهنه ترميم لائق لجرحه ، فعاد ، وانفرد بامرأة الشاي ، وأشار بيده بعيداً وهو يقول :
- قولي للمقاول فيه كلبة معسفة وقعت من محفظتك . وقاعدة هنااااااك عايزة تعشِّر !
غير أنَّ عصام خلَّد ذلك المنعطف القاهريَّ من منعطفات حياته بطقس ٍ بسيط ، فقط أطلق علي أحد أبناءه اسم رئيس ٍ للعمال شمله بالعطف مدة إقامته بالقاهرة ، نعمان .
ولا تتسرعوا في رجم الرجل بالوفاء ، فلقد ندم فيما بعد كثيراً، وتحت ضغط الشهرة الفادحة التي طالت مسلسل ذئاب الجبل الشهير ، وغير اسمه بعد فوات الأوان الرسميِّ إلي .. البدري ! ، وهو الاسم الذي قد انتصر .
ولقد رجمه الكثيرون باللوم لتقصيره في حق أبيه ، فلا يزين ذكراه باسم ٍ كاسمه يطلقه علي حفيده بدلاً من الغرباء ، فغضب غضباً حقيقياً ، واهتز جسده كأنه يركب جملاً مسرعاً وهو يقول بصوت محتقن :
- مش حنسمي ولد قنين ، أنا فرخ ، حد شريكي يا ولاد الشراميط !
مهلاً يا عصام ، إننا نمزح .


(23)

كانت تدور في خطوات أبي روح محاربٍ ، وكنت شاهداً عليها ، بمجرد أن ينوِّه الشتاءُ عن قلبه ، ويباشر تربية العائق الأكيد ، والبسيط إلي حدٍّ ما في طريقه إلي مسامنا ومسام بيوتنا ، ربما لحساسيته المركزة حيال البرد ، فيبعثر الأدوار علي أطراف صغار الجيب الغربي من الدومة وأطرافنا ، هذا يهذب أسراب الصفصاف علي الخرسة _ اسم حقل _ ، وهذا يهذب النبقة فوق السواقي ، وهؤلاء يقطعون السنطة التي غرب الجسر ، وتعود الأطراف إلي المركز ، فتستقر تلالٌ من النار المؤجلة أمام بيتنا .
وكثيراً ما استوقف أبي رجلاً من الدوميين ماراً يحمل الخشب قائلاً :
_ عاوز تدَّفي وحدك ؟!
وكان الرجلُ عادةً، يستحي من الحصول علي الدفء بمفرده ، فيلقي بحمله ، وكنت أري عادةً بعض التسلخات السطحية علي رقبته وهو ينحني ويفك وثاق حمله ، وينتقي أكثر قطعتين من أخشابه طولاً وامتلاءاً ، يضعهما بجوار أبي ، ويعود إلي حمله ، يعيد إحكام وثاقه ، يحمله مجدداً ويمضي .
كان الرجل يأتي عادةً في المساء ، يراقب نمو النار ، ويقاسمنا ثرثرتنا وشاينا وسجائر كبارنا حتي تتم النار عطائها في جسده ويمضي ، وربما امتدت به السهرة حتي يراقب نمو خيوط الضوء الدوميِّ الآثم ويمضي . لا أحد في الدومة يعطي دون أن يأخذ ، الطيبون .
كانت تلك القومية الصغيرة حول الموقد العائليِّ ، تذكرني بما يشبه الطعن حتي أنها تنسي قطعةً من ذهني في جيب طعناتها الحادة ، برائعة السيدة فيروز :
إسهار بعد إسهار ، تا يحرز المشوار ، كتار هو زوار ، شوي وبيفلوا ، وعنا الحلا كلو ، وعنا القمر بالدار ، وورد وحكي وأشعار ، بس إسهار ...
وعنا العم عبد الباسط أيضاً ، وإن كانت غابةٌ من الأمراض تتنافس علي جسده وتجذبه أحياناً إلي السرير ، ولكن كنا قبل أن نراقب نمو وساوس أبي وضيقه المعلن حيال غيابه ، يأتينا عادة رنين خطواته المميزة ، ويأتينا صوته الممتلئ وهو يسعل بكثافة شديدة ، ثم يبصق علي الأرض ويصيح في ليلنا :
- اتفوووه علي ربع مليون دولار !
وتنفجر ضحكاتنا حول النار العالقة في أطراف الأغصان الصغيرة ، وأري أضواء الارتياح الأولي تسطع علي وجه أبي ، لم يكن يرتاح إلا بقربه ، كان بالنسبة له قطبَ الوقت .
لكن قطب النار كان ولا يزال ، تعبيراً محميِّاً لا يستطيع أحدٌ من الدومة أن يدعي صلاحيته للاختصاص به سوي عصام ، عبدالباري أبو عبدالسلام أيضاً ، لولا أنه هاجر من الدومة إلي بلد مجاور .
كان هناك فارق رحبٌ بين العم عبدالباسط والمرحوم عصام ، ولكن لا يتعارضان ، وإنما يكمل أحدُهما عادة الآخر ، لم يكن العم عبد الباسط يجيد الوقوف علي حافة الخلق الشهير ، أو هكذا كنت أظن ، فيعتمد في خلق المضحكات علي ردود أفعال الآخرين ، وكان عصام علي الخلق مطبوعاً ، أو هكذا كنت أظن ، وكان يدرك طبعه الأثير تماماً .
ربما كان ذلك الإدراك هو باعث اعتداده بنفسه ، بل تشبيبه بها ، حتي أنه كان يدَّعي علي الدوام ، أنه طرف في نكاته :
- واحد صاحبي قال لي ، أنا شاكك إن مُرُتي عتخوني مع المعلم هراس الفرارجي ، قلت له ليه يا ابن المنتول ؟ ، قال لي ، أصلي امبارح عنبص تحت السرير لقيت ريش ، قلت له ، يا بن المنتول حرام عليك الظلم ، تتهم مُرُتك الشريفة ، العفيفة ، الكاملة ، عشان بصيت تحت السرير لقيت ريش ، قال لي ، أصلي لما شلت الريش ، لقيت المعلم هراس نايم تحت السرير !
نضحك بإيقاعات حادة ، ويقول العم عبدالباسط من بين ضحكاته :
- شاكك ؟! ، واشرح لها عن حالتي !
تزداد إيقاعات الضحك عصبية ، وتتحلل النار إلي رمادٍ ينطوي علي جمراتٍ صغيرة ، حية .

(24)

كان المنعطف ُالأخيرُ يرحب بأبي .
تماسك قليلاً ، وتمسك بفعل ٍإضافيٍّ ، وبحرص المهاجر علي أشياء الوداع ، بطقس النار حتي أضاع نهائياً ناره .
راجع البيت قبل ساعةٍ من رحيله .
روي لنا فيما بعد محمد أبو أحمد ، آخر الذين انخرطوا في سرِّ ساعته الأخيرة ، أنه لم يكن هناك ما يشير إلي أيِّ ألم ٍ يستقطب إدراكه ووعيه ، وأنه أكل ثمرتين ممتلئتين من ثمار الرمان – لا نزال نحتفظ بقشورهما - ، وأنه كان يمسك بأطراف الحوار بلياقةٍ لا تشوبها شائبة .
وروي لنا فيما بعد عبد الفتاح ، آخر من اطلع علي صوت القفل في خزانته المشرعة ، أنه قال له بمجرد دخوله :
– قيد لي سقورة يعفتاح !
( ربما تسللت مفردة " سقورة " إلي لهجات الجنوبيين الجماعية ، تسللا مصغرا من اسم النار الأسطورية " سقر " )
قبل أن يتمَّ عبدالفتاح إشعالها ، سمعه يتمتم بالشهادتين ، ورآه يتدلَّي كغصنٍ قلقٍ من جبل ٍ منهار ، تعاون وأمي وحملاه إلي سريره .
لتتم النار عطائها دونه .
كان قد دخل في غيبوبة أخيرة .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس