عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 01:51 AM   #3
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(9)

تترك الخالة " بهجة غرابة " باب بيتها في الجيب الشرقيِّ من الدومة مشرعاً ، وتأتي إلي ساحة بيتنا في وقتٍ مبكِّر جداً من النهار ، حتي أنه متأخرٌ جداً من الليل ، مرةً كلَّ عام ، رحلة موسمية انهار بموتها ، جمالُ طقوسها بتصرفاتٍ مرتفعة .
كانت أمي التي تتوقع بالتجربة ريقها المسائيَّ ، تستيقظ مبكراً لتعدَّ لها الإفطار عن طيب خاطر .
بمجرد أن يحتدَّ نباح الكلاب الصيفيُّ ، وتبدو واضحةً ارتطامات أقدامها القصيرة بأعواد الذرة ، تنادي من داخل بيتنا بصوت ركيك نوعاً ما :
- خالة بهجة !
وسرعان ما يعلن صوتها الخائف تحققها ، وتفتح الباب أمي ، وتختبئ الخالة بمأمن خلف باب بيتنا حتي يتمَّ الضوء دوائره .
كنت أعرف أنَّ أبي لابد أرسل لها في العشية الفائتة رسولاً ، يخبرها بأن مظانَّ الذرة من مساحات أرضنا قد أتمت عطائها ، وأنَّ جِمالنا قد نقلت أعوادها إلي ساحة بيتنا ، وأنَّ عليها الحضور لمساعدتنا في تحرير كيزانها من أغلفتها الجافة جفافاً اعتباطيا ،
كنتُ أدرك أيضاً ، أنها لابدَّ تدرك تماماً ، موعد طقسنا الحوليِّ ، ولكن بروتوكول الاستدعاء جزء أساسيٌّ من معادلة الرحلة .
كانت هي تميمة ذلك الطقس التي أمَّنت له الصمود أمام اكتفاء الكثير من بيوتنا ، تعقيباً علي سفر الكثيرين من رجالنا إلي دول النفط ، وارتفاعها عن الحاجة عن سلةٍ ممتلئةٍ من كيزان الذرة يعودون بها بعد يوم مرهق من العمل ، ولذلك كان أبي يضبط موعد التقشير علي احتمال مجيئها من عدمه .
لقد كان الكثيرون يأتون فقط للتمتع بما تجيد هي العثور عليه من المضحكات في الظلال السهلة ، هولا يسلم تماماً من التكرار الموسميِّ ، هذا صحيح ، ولكنه يكتسب ، بما تضيف إليه هي من شخصيتها المتجددة كلَّ مرةٍ ، نقاطاً إضافيةً في مقاييس القلوب المفعمة بآلام الفقد ، وآلام الشوق إلي من ابتلعهم يقين الاغتراب ، للسكينة القليلة ، القليلة .
ما إن ينتظم عقد المقشِّرين حتي تزداد النظرات إلي هدوءها الصناعيِّ استنكاراً ، فجأة ، تتصيد لحظة تختارها بعناية ، تتواكبُ عادة مع تكدس أعواد الذرة المخلاة بجوار المقشرين بما يتَّسع للولد عصام ، والعم خيري أبو همام ، والعم عدلي بظيو ، أن يبدأوا العمل المنوط بهم ، وينقلوها في حزم ٍ، علي سلم من الخشب ، إلي سطح بيتنا ، وتقول بصوتٍ مرتفع :
- وعايزلو فتلت صوف !
وأمسك بالملل يتبدد ، وتنبسط الوجوه ، وتهتزُّ أعواد الذرة في الأيدي المرتجفة بفعل استحواذ الضحكات ، ثمّ .. وكأنما انهار وعيها ، واختلطت في ذهنها الحقائق بالأوهام ، تردد كالمجنونة ، وبصوت منغم ، كلمات احتفظ بها ذهنها من مسلسل قديم ، أكاد أتذكر أنها كلمات من إطار شخصية جسَّدها الفنان علي الغندور :
– ياسيدي دفتر وكراسة ، يا سيدي دفتر وكراسة !
يحتد إيقاع الضحكات ، وتردد هي نفس الكلمات بإيقاع مغاير :
- يا سي دي ، دااا فتر ، وي كوراسة داا فتر ، يا سي دي .. !
ويشتعل الهواء مكاناً أفضل للعيش ، ثم .. تضع يدها مفتوحة ومنحرفة خلف أذنها كالمقرئين وتصيح :
– البت قالت لابوها ولا اختشت منِّيه ،
يبايا توب الحيا بان . والنهد بان . منِّيه !
ويسري الجنون من نفس إلي نفس ، ويتوقف العم خيري أبو همام عن العمل فجأة ويصيح :
- يبي يبي يبي يبي !
وتستأنف هي جنونها المدبر :
- يبايا زرعك الوخري طاب ، لمّو
يتوقف الولد عصام عن العمل فجأة ، ويمسك سريعاً بطرف الموال :
– لاحسن عيال الأواهر ، يقطفوا وردو ، ويعوِّلوك ، همّووو ، يا بووووي !
تشاركهم الضحكات الجنون ، فيتوقف البعض عن العمل تماماً ، يظلُّ العم عدلي بظيو داخل اتزانه المزمن تماماً ، وتتباكي الخالة بهجة فجاة ، وتصيح نادبة :
- وزرعنا الحنة ، وكترت لحزانيييي ، إهه إهه إهه ، وووووووووووه !
يتداخل عصام سريعاً مع حالتها :
- كان بدري عليك يا قنيَّان ، سيَّبتني لمين يبايه ، يا بووووووووي !
تنفجر الضحكات ، وتفلت من جدتي خيوط السيطرة علي تماسك العمل ، وتضطر ، دفعاً للانهيار إلي التدخل :
- بهجة ، خليك فـ حالك ، وخلي الأنفار يشتغلوا !
تزداد العيون تطلعاً ، كان يطربون لأيِّ سخرية تطال جدتي ، كانت العضلة العصية التي تدرأ الطامعين عن أشياءنا ، ولا تخيب الخالة بهجة عادةً أملهم ، وتنظر إلي جدتي في ازدراء مدبر وتصيح في تهكم :
- ها ها هأ ، ها ها هأ ، مين ؟ نورا ، يا سيدي نورا ، يا عيني نورا ، والعفشة نورا ، وعايزالها فتلت صوف ! .
وأري الأعواد ترتجف في عصبية مع إيقاع الغناء ، وأري عصام ممسكاً بعود من الذرة ، رفعه بإحدي يديه إلي الأعلي ، وانخرط في الرقص .
وأري جدتي تخبئ ضحكاتها في جيب طرحتها ، وبعينين دامعتين ، وبصوت مكدس بالضحكات تقول لي :
– يا واد روح عيِّط أبوك !
لا أذهب ، ولا ينهار السامر ، كانت تعرف ، وكنت أعرف أن أبي ، حتي لا يقمع حرية هؤلاء المتعبين ، يفضل في ذلك اليوم ، مراقبة الطقس بكلِّ جوارحه من البيت ، ويشاركنا ضحكاتنا أيضاً ، ويبارك جنون الخالة بهجة والآخرين .
وأنه سوف يجئ بمجرد أن ينتهي العمل من تلقائه ، ليوزع أجور العاملين ذرة ، وسوف يخص الخالة بهجة بكرم ٍ إضافيٍّ ، وإيماءةٍ ضروريةٍ لتستمرَّ الرحلة .
وأنا أستعيد الآن حداثة تلك الصور يدهشني كثيراً أنني كنت أبكي بعيون حقيقية ، إذا لم يعاملني أبي كالغرباء ، فلا يعطيني أجري من الذرة ، يدهشني أيضاً تلك السعادة الممتلئة التي تستحوذ عليَّ عندما يستأنف كرمه ، ويعطيني أكثر من حقي .
أنتبه الآن .. أنه كان يخدعني بتظاهره بالإسراف في الكرم حيالي ، لقد كان يعرف بالتأكيد الزائد عن الحد ، أني عما قليل ، وبعد أن أعرض ممتلكاتي الخاصة من الذرة علي أمي ، والصبيان ، سوف أتسلق السلم الخشبيَّ ، وسوف أجد سطحنا قد أصبح جزيرة حقيقية من الذهب الأبيض ، مسورة بأعواد الذرة الخضراء الفارغة ، وسوف ألقي بممتلكاتي بين ممتلكاته .
أعتقد أنَّ لموت الخالة بهجة ، نبضٌ أكيد في انهيار ذلك الطقس ، أو ربما بدقةٍ أكثر انهيار جماله ، فإنَّ الطقس لا يزال قائماً ، ولكنه يتم بآليةٍ ركيكة ، مجرد عمل .
لا أدري هل إحساس الطفل بجمال الأشياء الضخم تعقيبٌ علي إسقاطات نفسه البسيطة . أم أنَّ الندرة ، طالت الجمال حقيقةً من تلقائه ، وأن السعادة للطفولة فقط .
ياحقول الذرة .. يا ماضي أبي المجيد ! ..

(10)

أستعيدُ عصام ، فيغلِّف الألم إحساسي تكريماً لذكري عصام ، ويطير الاسمُ كاليمامة في ريش ذاكرتي ، وأشعر أني تسلَّلتُ إلي قافيةٍ من الشفق السحيق وافرة الشجن ، ويكتظ سطح ذاكرتي بغابةٍ من الصور الواضحة الأخاذة ، للبهجة في أسنِّها ملامحاً نبضٌ أكيد ، ونبضٌ أكيدٌ لمتون الألم الطليق في الطازجة الملامح منها تماماً .
ولأنَّ الصور هي ، قبل كلِّ شئٍّ ، كلماتٌ مرسومة ، يصبح الباب الوحيد ، بالنسبة للخيال ، لأيِّ محاولةٍ لرسم عصام بالكلمات هو ذلك الملمح البارز في شخصيته القريبة القاع إلي مدي بعيد ، ظرف عصام ، وكلِّ الدروب بعدُ لا تصل ، إنه المحور الذي تدور حوله في كلِّ أطواره .
من كان يري عصام سوف يجده تعبيراً حقيقيا بشكل متحيز ، عن أفكاره السابقة عن جحا .
كان من القلائل .. القلائل جداً ، المطبوعين علي الظرف ، وإذا كان السيد جحا قد احتمي بمأمن ٍ خلف اسم ٍ انتحله في كلِّ صقع ٍ تسلّل إلي تراثه الساخر ، فلقد احتمي في تراث الدومة الساخر خلف اسم " عصام أبو قنين " .
وكانت غرابة اسم أبيه ، يدعمها جهله بالعلاقات بين الأحرف ، والأرقام أيضاً ، مدخلاً ملائماً إلي الكثير من نوادره .
كان كلَّما ذهب إلي جهة حكومية ليستخرج مستنداً رسميِّاً يرشد انتباه الآخرين إلي وجوده ، ارتطم بخطأ أذني الموظَّف في التقاط اسم أبيه صحيحاً ، ربما استيعابه بدقةٍ أكثر ، فموظف يكتبه عصام جنين ، وآخر يكتبه عصام جميل ، وثالث يكتبه عصام جنيه ، ويستأنف الآخرون كثيراً من الأخطاء البسيطة ، والمبررة أيضاً .
واهتدي بغريزته إلي حلٍّ ركيك ، لقد احتفظ بورقةٍ ، كان قد استكتب عليها أحد المعلمين اسمه كاملا ، وبحروفٍ شديدة الوضوح ، وكلما ترصد لموظفٍ ، سأله عن اسمه ، أخرج الورقة من جيبه ، وبسطها أمام عينيه صامتاً ، وسداً لكلِّ الثغرات ، كان يستبدل الورقة القديمة بأخري جديدة كلما بهتت الحروف علي سطحها .
ولكن ذلك الحلّ الذكيَّ – بالنسبة لعقل عصام طبعاً – ، لم يسلم بالطبع من المقاربات المباغتة لكلِّ الوقت . قال له موظف مرة ، وهو ينظر إلي ورقته مأخوذاً :
- عصام مين ؟
وأجابه في عدائية :
- ارسمها !
كان اسم أبيه جرحاً يكابده ، وتناسلت في دم هذا الجرح ، الكثير من سخافات الآخرين ، مساوئ الحرج الذي طاله كثيراً أيضاً ، وتقاطعت في ذهنه فكرة ، وأطلَّ وجهه الشتائي علي قوميِّتنا الصغيرة حول الموقد العائليِّ ذات ليلة ، كان جمال الخاطر الذي ارتاح إليه واضحاً علي شتاء وجهه ، وقال مخاطباً أبي قبل أن يكمل دوائر جلسته ، ودون استهلال ما :
- عم رفعت ، عايز نغير اسم أبويا !
وسورت هالة ٌ من الضحكات دفئنا ، وسحب أبي قطعة مشتعلة من الخشب من طرفها البارد إلي الوراء قليلاً ، فأسكت اللهب قليلاً ، كان أحد أساتذة النار برهافةٍ بالغة ، تلك الموازنة بين حاجة الأجساد الباردة وقوة اللهب ، انعدام الدخان أيضاً ، ثم صدمه صدمة ميسَّرة ، هو لا يستطيع ، علي حد علمه ، أن يغيِّر اسم أبيه ، المرحوم أبوه فقط لو كان حياً ، وكان أبوه حياً أيضاً ، وخاصمه أمام القضاء ، ورجح القاضي حجته ، متاهة صلبة ، تبدد البشر من وجهه سريعاً ، وفتر حماسه ، وتساءل بانكساره الحاد :
- والحل ؟!
التقط العم عبدالباسط بسرعة أكثر مما ينبغي ، خيط انكساره ، وقال في شماتة واضحة :
- إنتا تروح الجبانة ، وتخلي المنتول أبوك ، يرفع قضية عَ المنتول جدك !
ضحكنا ، ولم يشاركنا ضحكنا ، وعرفنا من نظراته الجادة إلي ألسنة اللهب الواطئة أن عقله يعمل ، رفع رأسه بعد قليل وتساءل :
- ومين حيحكم له فيها ؟ .. سيدنا جبرين ؟!
حاصر النار شلال من الضحكات العصبية ، وقليلٌ من الذنوب أيضاً .
كانوا ،لا كان موتهم ، يجيدون العثور علي السخرية في أكثر الظلال صلابة .

(11)

كان لابدَّ أن أذهب بأبي مرة أخري إلي طبيب أثقُ في شهرته أكثر ، ربما كنت أرغب في أن أشحن حيِّزاً غامضاً بأمل ٍ ركيك يحطُّ بقربي ، ويتوحد بالنبض العالق بالمأساة ، ليتحقق وجوده ، كانت رغبتي كافية ً لانخراطي في اعتبارها تتحد باليقين .
أردت أن أجعل من أمر تلك الرحلة سراً مغلقا ، أخفيه في أعماق ٍ سحيقة ، كنت أضيق حقيقة ً بأولئك المتزاحمين حول مرض أبي إلي حد بعيد ، وفضولهم العاري أكثر مما ينبغي ، وكنت في الوقت نفسه ، حريصاً علي التماهي معهم تماماً .
تسللنا بمجرد أن أضاءت الشمسُ حوضَ الصباح إلي السيارة التي تنتظر في جوف الطلل ، العصارة في الدفاتر الأقدم ، الحوش أيضاً في الدفاتر الأكثر قدماً .
ما إن أتمَّ أبي استقراره في مقعده ، حتي توافدوا كيفما تشاء الوشاية بتصرفات مرتفعة ، كان واضحاً أنهم يتوقعون الرحلة ، كانوا داخل أهبتهم تماماً ، وانخرطوا في سرنا ، طعنتُ عينيَّ في لحم الصباح صامتاً .
كان ، د. محمود مصطفي ، ربما لعلاقة ٍ سابقةٍ ، وعالقةٍ ، ربطتني بأفقه المستدير ، والمنعزل ، كريماً ، لقد سمح بدخولنا دون التقيد بأسبقيةٍ ما .
رفضت ، في تذمر عصبي أن ينخرط في السر الذي سوف يدور في غرفة الطبيب حول مرض أبي سواي ، وفيما بدا أنه اندفاع وراء الحرص علي التماهي معهم ، منعت حازم من الدخول أيضاً .
أتمَّ أستاذ المسالك البولية دوائر قلقه منذ الفحص الأول ، وأعاد الفحص علي عجل ، ثم انتحي بي جانباً ، وعينا أبي تلاحقنا وقلبه ، وأكد لي بالإنجليزية أنه السرطان .
تلك اللحظة التي تخترق فيها الكارثة القلب والعينين .
هنا فقط يبلغ الألم ذروة النقطة ، ثم يبدأ في الهبوط تدريجياً إلي القدر الذي يكفي عادةً لأن انطباعات السلوي تعمل ، وأصابني تحت ضغط الألم ، وانهيار الأمل ، غباءٌ مفاجئٌ ، وسألته تفسيراً للغزه ، أخلي وجهه من أيِّ تعبير سوي الرثاء . وتمسك بالصمت القاتل ، أفقتُ من غيبوبتي الركيكة ، وتساءلت بلغة هذيل :
- ممكن يكون حميد ؟
تنبهتُ إلي سخافة الكلمة قبل أن تذوب علي شفتيَّ ، إن الصواب يتنحي جانباً لمجرد انزلاقها في شرخ الحديث عن ورم ، وهو يؤكد أنَّ شكله شجريٌّ ، وأنه في مرحلة متقدمة ، لقد تأخرنا في اكتشافه كثيراً .
اتهم الكثيرون الأفيون فيما بعد ، بتعمية إحساس أبي عن ألمه السري ، أو إضفاء نوع من الأصداء الأليفة علي وخزات إبره الأولية ، وهذا اتهامٌ خاطئ تماماً
فإذا كان اكتشاف أبي المتأخر لمرضه تعقيباً علي تعاطيه الأفيون ، فما الذي أخَّر اكتشاف الورم المتجذر ، عند المرحوم عزي أبو عيسي ، والمرحوم عبد العزيز أبو محمود ، والمرحوم هنداوي أبو اسماعين ، والمرحوم عثمان أبو موسي ، والمرحومة حميدة ، والمرحوم وليم أبو عبد الشهيد ، والمرحوم محمد أبو شاكر ، والمرحومة فتيحة ، والمرحوم عصام أبو قنين ؟ .
إن اكتشاف الورم بعد فوات الأوان يكاد يكون تقليداً يجثم علي الدوميين جثوم العادة ، ربما لأنهم لا يذهبون إلي الطبيب إلا بعد أن يعطِّل الورم وظيفة عضو من الأعضاء تماماً ، فيصبح الألم فوق الطاقة .
اتجه الطبيب نحو مكتبه ، ربما لينهي كلَّ جدل حول تفاصيل تافهة ، هو أشبه بالدق علي الماء لا أكثر ، وأوصاني ، وهو يدون خطاب تحويل أبي إلي مستشفي سوهاج الجامعي ، كخطوةٍ أولي سوف تضئ لنا خطواتنا القادمة ، بضرورة تفجير سلةٍ من قِرب ِ الدم في جسده الشحيح بأسرع وقت ممكن .
نظرت إلي أبي فوجدته مأخوذاً ، ذابت فجأة كل الغيوم علي جسده تماماً ، لكنه كان يخبئ جسداً بديلاً في جيب جسده ، سوف أعرف هذا في الدقائق القادمة .
في طريق العودة كنت أحاول الانسحاب من المشكلة ، لأنني لا أقف علي مسافة كافية من نفسي ، وأحسست بالعاصفة تهب بخشونةٍ علي ذاكرتي ، وامتلأت كثيرٌ من الأخلاط الضامرة ، وطفت في إلحاح ، وتصدرت سطحها مفردة "حميد" القريبة العهد ، وتساءل ذهني عن السبب الذي جعلها تلتصق بلا مشروعيةٍ بورم أياً كان حجم ضراوته ، ربما أفتي البعض أنها من باب التفاؤل لا أكثر ، كما يسمون الصحراء "مفازة" تفاؤلاً بالفوز بالنجاة من الانزلاق في شرخ قسوتها ، وهو تساهلٌ محض ، ليست الصحراء كالسرطان قسوة ً، وإن كان سهلا .
تلك اللحظة التي تخترق فيها الكارثة القلب والعينين ، وليس جمال الدمع الإفراط ، واستدرتُ ، ونظرتُ في عيني أبي ، فلم أجد فيهما سوي بريق ٍ مرتب ٍ في النظرة ، يتخلخل أحياناً ويمرُّ منحنياً تحت أسيجةٍ غامضة ، وغلَّف الألم إحساسي لعزوفه عن الصمت ، بل انحيازه إلي كسر صمت الآخرين الذي يصعب تحديده بشكل ٍ لافت ، ضحكاته المتداعية من سقف حلقه كجنازة سرية ، لقد ابتلعته انطباعات السلوي مبكراً ، أو هكذا خيل إليَّ ، تعبيراً عن غابة من التعبيرات التي تتزاحم علي وجهه في تلك اللحظات ، لا أعزل الحزنَ من بينها .
لم أكن أتصور أنه يدخر كلّ تلك القوة لمثل تلك اللحظات العصيبة ، غابة من جوانب شخصيته السرية تزاحمت علي الضوء في عيون الآخرين ، غير أنها تنحت تماماً أمام جوانب شخصيته الأصيلة بمجرد انفراده بالذين يخصونه ، وبمقدوره أن يمارس عريه تحت سطح عيونهم ، ويبتكر بعفوية عذاباتهم .
ربما كان خائفاً ، لكن الألم والاضطراب حجباه كلياً عن خوفه ، كأنما ارتفع فوق نفسه يراقب نموَّ ذعره علي أعوامه الستين ذاهلاً .
تصورت أني أضع حزني بمأمن ٍ خلف صمتي ، ولكنَّ رجلاً في السيارة صاح في غضب ٍ يصعب تحديده :
- الدكتور مش ربنا ، الدكتور دا سبب ! .
أدركت أن حزني كان عارياً ، وأن الآخرين كانوا يتوقفون فوق الجذور من قبل ، ويدركون كلَّ شئ ، بحثت عن تعقيب ٍ لائق ٍ فخذلني ذهني ، ماذا تفيد تعمية الآخرين عن مرض أبي الصلب ، وأبي نفسه قد أدرك كلَّ شئ ؟
رفض أبي منذ البداية إجراء جراحة مهما كانت ضرورتها ، رفض أيضاً أن يبحث البدائل ، أو يزن المجازفات ، بل مجرد الذهاب إلي المستشفي ، وكان صلباً ، لا يقبل النقد ، ولا تقبل مقارباته المد والجزر، وفتر خجلي قليلاً ، وحدثته عن ضرورة التماشي مع المستجدات لاختبار جسده القادم علي الأقل ، وسرت الحماسة العائلية من نفس إلي نفس ، فاتسعت المساحات البيضاء من عينيه المبتلتين ، وقال في غضب حقيقي :
- مطرح ما ترسي دق لها ، يعني خدنا إيه م الدنيا ؟ .
وأصابنا الخرس ، لم ينطق الرجلُ هجراً.
لمست في عينيه في تلك اللحظة تحديداً نظرة إسكاتولوجية ، لا تتمسك بهذه الدنيا ، وتري السعادة باعتبارها في الرحيل عنها ، لا تتوقف فوق ما يمكن أن يصيبنا من الحظوظ في هذه الحياة .
وافق فقط علي إمداد جسده ببعض الدم الشريك ، ربما فقط ، ليتابع بقية منعطفه الأخير بشكل لائق .
في ذلك الوقت تحديداً ، ربما لغرابته ، اعتبرت رفضه نوعاً من القوة لا الضعف ، فما جدوي الدوران في الفشل ، ما دام الحيز تحديداً مؤهلاً لخيانة الفريسة ؟ .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس