***
وُلِدَ مع العام الجديد نجاحاتٍ لي
كنتُ نشيطةً في الدَّار لا تُفارقُ البسمة ثغري
أُحاكي عائشة في كُلّ حركاتها و سَكناتها , أتـقـمَّـص شِخصـيَّـتـها
كنتُ عائشة أخرى إلاَّ أنني لمْ أمُتْ
فــهذا يعني أنَّ أبواب الفُرَص أمامي مفتوحة
و الطَّريق أمامي مَـبسوط
فــــاستغلَّيتُ ما رزقنيَ اللهُ مِنْ أيَّامٍ و عافيَة
مَعلوماتي لا تُحصى عددا , غرفتي مليئةٌ بالكُتب لِعظماء الأمَّة
قلبي شَغوفٌ لِـقراءتها , و صدري لِحفظها في أتمّ تجهُّـزٍ و استعداد .
تتابَعَتِ الشهور
و جاء يومُ تخرُّجي مِن المرحلة الثَّانويَّة
لبِستُ و زميلاتي ثياب التخرُّج , و جلسنا في الصَّالة الكُبرى في الدَّار ؛ استعداداً للحفل
بدأ الحفلُ بأفضل ترتيب .. زفونا و هنئونا كأجمل ما يكون
وَقَـفَــتْ مُشرفتنا على المَسرح أمامنا , و مَسكَتِ اللاَّقط لِتُعلِن النَّتائج
و كانتِ المُفاجأة بأنّي الأولى على الدُّفعة !
تسابقنَ إليَّ زميلاتي يُسلِّمنَ و يُبارِكْن , ثمّ جاءتني المُعلِّمات تسبق دموعهنَّ الحُروف .
حقيقة لم أستغـرب الخبر , و لم يكُن بعيداً عن توقُّعي
فعلاً أرى أنني أستحقُّ ذلك فـقد كنتُ مُجتهِدة و مُثابرة
لأملأ عقلي , و أشغل وقتي , و أصل لأحلامي ـ بإذنِ اللهِ و عونه ـ
و كلّها في صحائف الحسنات إنْ قبل اللهُ نِـــيَّـتي .
نادتني المُشرِفة على المَسرح و هنّأتني أمامهنّ , ثمّ طلبتني أنْ أُخبرهُنَّ عن طريقتي
في الاستذكار , و سِرّ التفوُّق ..
مسكْتُ اللاَّقـطَ بـيميني و ابتسَمْتُ في وجوهِهِنَّ و قلت :
( بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ أوَّلاً و أخيرا , فلا خير إلاَّ خيره و لا فضل إلاَّ فضله
فـلوْلاهُ لما أسلمْنا و لما عبدناه و لما تقلَّبنا يبنَ نِعَمِه الظَّاهرة و الباطِنة
و لولاهُ لما وَقفتُ أمامكنَّ اليوم و قد نِلتُ التَّفوُّقَ في طلب العِلم
فأسالهُ سُبحانه أنْ يرفعني و إيَّاكُنَّ عندهُ درجات إنّهُ على كُلِّ شيءٍ قدير
و أمَّا ما سألْتُــنَّـنـي عنهُ مِنْ طريق التَّـفوُّق و سِرُّ النَّجاح
فــهُوَ سَهلٌ للغاية و إنْ كانَ اليوم مُستحيل , و لمْ أظفر به بالاختيار , بل كانَ صًدفةً أمامي
و هُوَ مِن اختيار ربِّي لي , فلهُ الحمدُ و لهُ الشُّكر
فــ جهلٌ كامِل سبعَ سِنين و تعلُّـمٌ على يدِ عائشة سبعَ سنين
يُثمِر عقلٌ ذكيّ و إرادةٌ قويَّة و تحمُّلٌ عجيب !
و الصَّلاةُ السَّلام على الحبيب المُصطفى و آلِه )
ثمّ سلَّمتها اللَّاقط و ذهبتُ إلى مَكاني , كانتْ تحيَّــتُــهُــم لي دموعٌ أمطرْنَهَا على الخُدود
جاءتني مُعلِّمتي " سارة " قبل أنْ أصل إلى مكاني فــضمَّـتـني تبكي فــقـبَّــلْـتُـها
و كانتْ تهمسُ في أذني : ( نِعمَ الطَّـريق .. نِعمَ الطَّريق )
***
و مَرَّتِ الأيَّـام تحمِلُ في جُعبتها كثيرٌ مِن فرَح
قضيتُ في الـدَّار أيَّاماً سعيدة , أحببتُ أخواتي و أمَّهاتي فيها حُبَّاً كثيرا
عكـفتُ بعدَ الثَّانويَّة على حِفظُ القرآنِ الكريمِ لَفظاً و معنى
حيثُ تعجَّـبتُ مِنْ نورِهِ و إعجازِه !
فــازداد حُبي لهُ و ضاعفتُ وِردي مِنه في كُلِّ يوم
كانَ جليسي و أنيسي
أعَانني على طردِ ما بقيَ مِنْ آثار همومي الرَّاحِلة ..
قَوِيَ إيماني , و ازدانتْ حياتي , و ازدادَ حُبيّ لـربّي و كِتابه
فـكانتْ ساعة مِن حياتي بلا كلامِ الله حِرمانٌ و حِرمان !
***
بَلَغتُ العِشرين
طُـلِــبَ مِنّي التعليم بدل التَّـعلُّم في الدَّار
فــرفضتُ الطَّلَب لأنّي أجزم بأنني لمْ أبلغ في سُلَّم العِلم و لا ربعه
لكنني لم أستحقر ما جَمعتهُ مِن مَعلوماتٍ في شتَّى أبواب العلوم
فــخشيتُ أنْ أُكتب ممن يكتمونَ العِلم
فــوافقتُ و طلبْـتُــهُم أنْ أُعلّم الصِّـغار القراءة و الكِتابة , و أدرِّسهم ما تعلّمتُ مِن القرآن الكريم
و بعض دروس العقيدة .
مَرَّ شهرينِ على حَلَقتي في الدَّارِ معَ الصِّغار
كانَ حماسي لِتعليم طُلاَّبي و طالباتي كُلَّ يومٍ في ازدياد
أحببــتُــهم كثيراً و أحبُّـوني
فــنِعم ما اجتمعنا عليهِ و الله .
***
و في ذلك العام في فصل الشتاء مِن يوم الخميس
نادتني مشرفة الدار .. سلَّمَتْ عليَّ و سألَتني عنْ حالي و أخبار حلقتي
أجبتُها بأنّي في خير و لله الحمد
و الحلقةُ عندي حديقة زرعتُ فيها أجمل الزهور .
حمَدَتِ الله ثمّ قالت :
( أستاذة / أمل , اتصل بي البارحة قاضي المَحكمة يُريدكِ في بعض القضايا
كانتْ تأتيهم مِن أجلها عائشة ــ رحمها الله ــ فـمَتى تُريدينَ أنْ تذهبين إليهم ؟ )
وقفَ على رأسي تعجُّبٌ طويل !
قلت : و أيُّ قضايا ؟
قالتْ : لا أعلمُ التفاصيل لعلَّهم يُخبرونكِ هم يا عزيزتي .
سَكَتُّ بُرهة ثمّ قلتُ لها : في أيّ وقتٍ تشائينَ يا سيّدتي .
ابتَسَمَتْ و قالت : إذاً غداً بعد صلاة الجُمُعة تذهبين و الأستاذة " سارة " إليهم ـ بإذن الله
فقط هذا ما أردتُ منكِ , وفقكِ الله و سدَّد خُطاكِ .
شكَرتُها و دعوتُ لها ثمّ رجعتُ إلى صِغاري
كنتُ بينهم و يسألوني عن بعض الدروس و أنا أعجز عن التركيز مِن تفكيري !
قمتُ مِن عندهم إلى غرفتي , و اضطجعتُ على سريري أفكّر
تُرى ما القضيَّة التي كانت تُناقشهم فيها عائشة ؟ و ما شأني فيها ؟!
سيطر عليَّ التفكير حتى أنّني بكيتُ بدون سبب
تأمَّلتُ حالي فــتذكَّـرتني سابقاً , و أيقنتُ أنَّ حُزني و دموعي لا تُسمِن و لا تُغني من جوع
كم ضيَّعت لي مِن لذّة ؟ و لم تهدني و لا فائدة !
نهضتُ جالسةً على سريري
و وعدتُ نفسيَ أنْ أكون عائشة .. ســأناقشهم غداً بكلّ صبرٍ و حِكمة
و ســأنتصرُ لعائشة
قمتُ و غسلتُ أثر الدمع مِن وجهي , و تبسَّمتُ لوجهي في المِرآة
و وعدتني بــخير .
نامَ النَّاسُ ليلة الجمعة
و كانت ليلتي تِلك تهجُّدٌ و قيام و تِلاوة القُرآن , بدأتُها بـسورة التغابن
أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرَّجيم ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ *
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) دعوتُ الله أن يدلّني لقول الحقّ و يرشدني للصَّواب .
|