عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 02:07 AM   #18
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(57)

كانت نهاية أبي تتواكب في أحلامي لعام ٍ وبعض العام ، فاستطاع ذهني أن يواكبها ، وربما بدقة ٍ أكثر استطعت أن أحدد العمق الأليف للموت في حضوره الهائل السعة فأصبح أليفاً وغلفت الاستهانة به حواسي .
هذا شكَّل لي صباح يوم الجنازة مشكلة ً هائلة ، ذلك أن عينيَّ تحجرتا تماماً ، وهذا بحماية التقاليد الأهلية محرض علي الرجم بغابة ٍ من الشكوك في محبتي لأبي ، بل الرجم برغبتي في إقصائه ، وقد يطال الشك نزاهة َ أمي ، إلي حد ٍّ يمكنني من أن أسمي ذلك التقليد الصارم تناذر الجنوب .
هم لا يصدقون أن الحزن الصعب ، يعطل مجري الدمع بتصرفات مرتفعة ، وأن لجفاف العيون عند الحاجة ، غابة من النقاط الإضافية في المقاييس الطبية لدلالات الحزن الصادق .
استعرضت ُ ألوان الذاكرة ، فلم أعثر علي جرح لم ترممه غابة ٌ من الدموع المتزامنة حتي لا يتسع لقطرة ٍ طازجة .
حاولت أن أطارد شبه أبي البشري تحت أيدي الذين يغسلونه ، وطردت الصور تباعاً ، وشحنت عينيَّ بحيِّز ٍ داخليٍّ لأتحقق من وجودهما وفشلت في العثور علي نبع ، وشعرت بمأزقي الذي أسير إليه منفرداً .
انحسر الخجل ُ فجأة ً عن آلية ٍ سرية ٍ تفتح باباً لخلاصي .
كان الخلاص صاخباً حتي كأنه هدوء ، أصوات النادبات ، وأصغيت إلي ماضيِّ في ظلال أصواتهن ، وفصل ذهني الأصوات سريعاً ، وعزل صوت الخالة " سنية" ، الحاد المميز وتفاعل معه :
- يا مغسلو لبسو الدبلة .. دا أصلو كان في البلد عمدة .. ووووووووووووه !
نشط مجري الدمع ، وابتلت المرئيات تماماً .
- يا مغسلو لبسو الخاتم .. دا أصلو كان في البلد حاكم .. ووووووووووووه !
وانفجر مجري الدمع .

(58)

وأنا أنظر الآن إلي الوراء ..
تعتري حواسي موجة من الإحساس بالذنب حيال استجابة عينيَّ المتأخرة حيال أبي ، وتحت ضغط أجير ، تمثَّل في سلة ٍ من الكلمات المطروقة وضعت ماضيَّ في إطاره الصحيح ، مستقبلي أيضاً .
لقد شكَّل صوت الخالة بما شحنته من حزن ٍ صناعيٍّ مرآة كبيرة ً ، رأيت في لحمها بما لا يدع مجالاً للشك موت أبي في إطاره .
يضخم من هذا الاحساس بالذنب ، يقين ٌ درجت علي يقينيته ، وهو أن حزن النساء الأجير في المآتم ، هو اتفاق ٌ غير مكتوب ٍ بين النساء علي مقايضة الحزن عند الحاجة ، نقوط ٌ من الدموع يلزم رده عند الحاجة ، لا يبكي النساء الميت َ، وإنما يبكين ميتاً خاصاً ، ولا يقوم دليلاً علي ذلك أتم امتلاءاً ، من تزاحمهن عقب انكسار حدة الغياب ، حول حزمةٍ من الأحاديث المفككة ، وربما بدقة ٍ أكثر قبل أن يعمر الميت قبرَه حول الحديث عن الأشياء التي تلتصق بمشروعية بيوميهن ، تزاد وتيرة النسيان وعدم اللياقة تدريجياً حتي تتماسك الأحاديث وتتسلل بعض الضحكات إلي حواف المأتم ، تتوغل إلي مركزه سريعاً ، ولهذا لم يسلمن من الخضوع لذلك التقليد الدوميِّ الخاص ، أو السخرية لا أكثر .
يزعم الدوميون أن امرأة ما في عزاء ٍ ما مزدحم ٍ بغابة ٍ من النساء ، أطلقت ريحاً ، وهذا في كل ِّ بلاد المسلمين حادثٌ أليف.
ولكنه في الدومة لابدَّ له أن يتخذ الشكل ً الذي لابدَّ له منه .
يزعم الدوميون ، أن قائدة النادبات عندما التقط أنفها خيوط الرائحة ، أضافت إلي منظومة الندب الشهيرة قولها بصوت منغم :
_ يللي عملـ .. تـ .. تـيها ، اطلعي برررررره !
وصاحت التي (عملتها) في صوت حاد :
_ غصب عني يخـ .. تـ .. تي ، ووووووووووه !
ألا لعنة الله علي الدوميين .

(59)

كان شبه ُ أبي البشريُّ يسير في النعش بخطوات سريعة إلي درجة ٍ لم تستطع معها خطوات الكثيرين .. الكثيرين جداً من المشيعين الأحياء أن تتحد بخطواته .
وكان الكثيرون .. الكثيرون جداً من الأطفال يسيرون خلف شَبَهِ أبي البشريِّ مولولين ، ربما كان ذلك تعقيباً علي وجه حنانه المدوَّر ، واكتراثه بطفولتهم اكتراثه برجولة الرجال حول النار الحرَّة ، وربما ، وهذا هو الأرجح ، كان تعقيباً علي تحريض ٍ مدبَّرٍ من النوايا القريبة ليحظي شبهُ أبي البشريُّ بوداع ٍ لائق .
أضفي عبد الفتاح بإغماءاته المتكررة ، اتساعاً هائلا علي المشهد .
وكان الترابُ يعكسُ السماء ويشوِّهها .
وذلك اليتمُ المدوَّرُ لإسلام ، منح نفسي ببطءٍ الشكلَ الذي يجسِّدُ مخاطرَ المستقبل .
لا يكفي اللجوء إلي الانطباعات لتحويل الأشياء الإنسانية إلي قصيدةٍ كلامية.
كانت الجبانة ساكنة إلا من نباح الكلاب ، وكانت أشكال القبور تدعم ببساطةٍ العلاقة بين معتقداتنا الخفية ومعتقدات أجدادنا البعيدين ، مسطحات طينية تعكس في الذاكرة أشكال التوابيت الفرعونية تماماً ، لولا أنها سطحية .
والحق .. أنهم لو كانوا يثقون بالبقاء المحض بعد الموت ، لما استطاعوا أن يفكروا في مجردبنائها نفسه ، وإلا ..
ما معني أن نبكي عابراً ، سواء كان يسير نحو الأفضل أو الأسوأ .
وددتُ ، لينسجم المشهدُ ، لو تمكنت من أن أضع ، بشكلٍ اعتباطيٍّ ، علي الرمال الصفراء بعض الأوراق الجافة . وهيهات .
عمَّرَ شبه أبي البشريُّ قبل ظهر الجمعة قبره ، وتكاتف الذين أوراقهم أقدم من أوراقه بالكثير ، وأهالوا عليه التراب ليؤكدوا غيابه .
ورأيته فجأة ، يترهلُ بين أسيجة الجبانة ، سعيداً ومتفائلاً ، رافعاً رأسه كأنما يطاردُ نجماً في السماء ، وجهه أبيض كحلم هيملايا ، ولم أشأ أن أجرحَ كبرياءه في نفس اللحظة .
وفي نفس اللحظة ، اختلط صوتُ المقرئ بغابةٍ من الأصوات الداخلية ، تتدفق من ذلك البهو السحيق من الزهور الذابلة ، استبعد ذهني المألوف منها وعزل الغريب ، وفصل الصوت الأعلي نبرة :
الكلُّ في واحد
عندما يصيرُ الوقتُ خلوداً
سوف نراك من جديد
لأنك صائرٌ إلي هناك
حيثُ الكلُّ في واحد

(60)
بقيَ مشهدٌ آخر وأخير وعالق ، ومعلقاً لا يزال كالخنجر في ذاكرتي ، يعكس الصورةَ كاملةً ، ويشوِّهها كصورةٍ مرتجلة في الوقتِ نفسه .
تشكَّلَ المشهدُ ببطء سريع ، أو ربما بدقةٍ أكثر تشكل منجَّماً ، وتجلَّي لنا كاملاً بعد عودتنا بدون أبي مباشرةً ، وكان آخر عهدنا بالطعام عصرُ اليوم السابق ، وكان الكثيرون من الدوميين قد أتونا بالطعام ، ولأبي السابقات ، كنوع ٍ من حراسة جذور الإخلاص لعادةٍ ، في طريقها إلي الذوبان ، بفضل سلةٍ من المشبوهين الذين يتزاحمون مؤخراً ، حول جملةٍ بغيضة :
- من شال عزَّي !
وهذا يقتضي اختزال طقوس العزاء الكثيرة ، في السير خلف النعش حتي الجبانة لا أكثر .
لقد انقضت الأيام الجميلة ، حيث كان الواجب يجثم علي الدوميين جثوم العادة .
وهذا يقتضي أيضاً ، وهذا هو الأهم ، أن تتبخَّرَ مساحة هائلة ، من فرص المؤازرة التي تباشر تربية الودِّ وتذويب الخلافات برهافة ٍبالغة .
بعد أن جلسنا موزعين حول الموائد ، انتبهنا إلي غياب بهاء ، وطال سطوحَنا الاستياء ، ثم تحت السطوح ..
طالنا القلق ، ربما كان إحساسنا الهائل بحضور الغياب في تلك اللحظات قد صعد بالأمر إلي ذروة ٍ لا يستحقها .
نشط المضيفون للبحث عنه ، مخفضين الأمر إلي تافهٍ ، ويرجوننا أن نواصل الأكلَ ، وكنوع ٍ من الحرص علي التماهي معهم ، أخذ كلٌّ منا قطعةً من الخبز في يده ونهضنا.
وبهذا يكون واجبهم قد اكتمل ، ونكون المطالبين بالردِّ لوقت الحاجة .
سألنا كلَّ المقربين منه ، بحماية الصداقة ، وأكَّدَ كلُّ المقربين منه أنه رفض ركوب أيِّ سيارة ، رفض أيضاً أن يرافقه أحدٌ في طريق العودة من الجبانة إلي الدومة ، سيراً علي الأقدام .
نوعٌ خاصٌ من ممارسة الحزن .
ذهبنا في سيارةٍ لإحضاره ، وجدناه في منتصف الطريق ، وجدناه متوسطاً .

(61)

والآن ..
إنني انتبه تماماً إلي أنه ليس يوجد أحدٌ يستطيع أن يجترح استبصارات الماضي فضلاً عن المستقبل ، خاصة إذا كان ذلك الماضي ينطوي علي غابةٍ من التقاطعات الحادة ، كذلك ليس هدفي هو تحريك الماضي ، وإنما هدفي هو انتهاك ما في نيته من خطر ٍ علي المستقبل .
وإنني أمسك الآن ، بالقليل من الحزن يتبدد ، بعد أن ألقيتُ بالقليل من التكلسات الداخلية المزعجة فوق رءوس الكلمات ، وإن كانت التعاسة لا تزال حية ً، تتشبث بامتلائها .
وجدل الفارغ والممتلئ ، وإن كان جدلاً بين وهمين ، في مقدوره أن يرشد الظلال الخاصة إلي فلسفة ٍللكون ، ولا أشك أن الأيام لا تكفُّ عن ممارسة التوازن بين منطقة الممتلئ والفارغ بشجاعةٍ صلبةٍ ، ولا أشك أن نيتي في أن أعلق وردة من الكلمات في عروة شبه أبي البشريِّ والآخرين ، تعقيبٌ علي توازن ركيكٍ ، تشكل في تلك المنطقة بين الفارغ والممتلئ .
وإن هذه المنطقة تصبح ، بالنسبة للخيال ، مكاناً ملائماً للعزلة والتعهد والبحث عن الذات .
ذلك أنَّ السيد " محمد البو عزيزي " أشعل النار في كومته الصغيرة من الأسرار ، والمخاوف ، والأحزان ، والأحلام المجهضة ، وطارت طرق دخانها إلي الكثير من الهواء المنفتح للإلهام والتحدي ، فاشتعل العالم مكاناً أفضل للعيش .
وذلك أن موقدنا العائليَّ ، قد تجاوز غياب أبي في إطاره الخارجيِّ .
وأن أرضنا الآن تستأنف من جديد عطائها .
العصارة أيضاً .
وأنّ الطريق إلي بيتنا أصبحت مجدداً صاعدة .
ولا نزال هناك .
ولا نزال نتلقي عطاء النار في ليالي الشتاء ، ولا تزال سهراتنا تذكرني بما يشبه الطعن ، حتي أنها تنسي في جيبي الكثير من طعناتها ، برائعة فيروز :
إسهار بعد إسهار ، تا يحرز المشوار
كتار هو زوار ، شوي وبيفلو ، وعنا
الحلا كلو ، وعنا القمر بالدار ، وورد وحكي وأشعار ........
وعندنا رفعت عبدالباسط ، محمد عبدالباسط ، أحمد عبدالباسط، جمال عبدالباسط ، حمدي عبدالباسط .
وعندنا نبيل عصام قنين ، نعمان عصام قنين ، عاطف عصام قنين .
وعندنا أيضاً .. حازم رفعت ، سحر حازم رفعت ، عبدالوهاب رفعت ، عبدالفتاح رفعت ، بهاء رفعت ، إسلام رفعت .
وعندنا غابة ٌ من ذكريات العابرين المشتركة في الزاوية غير المحدودة ،
والمعتني بها تماماً .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس