عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 02:03 AM   #14
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(51)

استأنف أبي أوتاده الأخيرة كاملة قبل انحسار النور عن رماد اليوم الرابع ، بل استأنف كمال روحه المتهكمة ، وظلال أدواته في إبداع لسع الآخرين بالسخرية تحت درع ثقيل من النوايا الطيبة .
كان خلقاً ، خلقاً حقيقياً ، كنت شاهداً عليه .
من يري الخالة زينب للمرة الأولي ، سوف يجدها تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن الغجر ، ومن يسمع صوتها في أيِّ وقت سوف يجده تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكاره السابقة عن موسيقي الغجر ، ولكن من يسترخي فوق الطبقات المتراكمة في أعماقها المحتجزة ، سوف يجد تعريفاً للنبع الشهير من المشاعر الصحية بشكل متحيز .
قامتها ، تحمل بالتأكيد الزائد عن الحد ، سفر أحزان جداتها الممتد من رقم الطبيعة الصعب ، ذلك الصفر المختلف عليه ، لكنه رقمٌ لا يمكن تجاوزه وفقاً لأيِّ قناعة ، وكلِّ قناعة .
سلالة لا تواجه إلغائها .
ملامح وجهها الذكورية مرآة متطرفة لأحزان الخصيان البعيدة .
كأنها حدثت سهواً .
هي أيضاً .
كانت احتكاكاتها الأولي بنا تعبيراً حقيقياً بشكل متحيز عن أفكارها السابقة عن أساليب البدو في المعيشة ، وكانت بحماية سحن ، وأزياء الكثيرين من الزائرين معذورة ، فلقد كانت سحن الكثيرين الارتجالية صالحة فقط ، لتكون حكراً علي أسماء بعينها ، مثل ، حجر ، وجحرز ، ومضرط الحجارة ، وتأبط شراً ، والسموءل ، ولمعي .
لم تكن تدرك لبساطتها ، ربما ، وربما لتناقضاتها الداخلية الحادة ، أو لألفة الإطار ، وهذا هو الأكثر إقناعاً ، ذلك الفارق الرحب ، بين مريض ثانويٍّ يجد التعبير عن تماثله للشفاء في سلة من الإبر ، وسلة من الأقراص ، والأقماع والأشربة ، ثم يعود ، بعد يوم أو يومين ، إلي موقده العائليِّ ليتابع بقائه ، وبين مريض خاص لمرض خاص ، يلتحق وجه القبر المكعب بأفكاره السوداء صباح مساء ، وإن تظاهر بالاستهانة .
كانت تعاليمها الزائدة عن الحدِّ ، عن ضرورة المحافظة علي نظافة الغرفة والحمام والملاءات ، بل حراسة نظافتها ، وضرورة دعوتها قبل امتلاء المثانة البلاستيكية لتفريغها ، أكثر من كافيةٍ لجعل انخراطنا في الضجر يعمل .
هذا قبل أن يستأنف أبي أوتاده ، واستأنف أوتاده ، فتوقفت ، فجأة ، عن العطاء ، وبدأت بالأخذ .
تداخل أبي مع أولي سوناتات وصاياها الجارحة لمساء اليوم الرابع ، وتساءل في هدوء ، وغيمة علي جسده :
- إنتي من الصلعا ؟!
لملمت أنا ، ولملم حازم ، أكياس ضحكاتنا العصبية ، ولذنا بالفرار من المربع الآمن ، نتعثر في خجلنا ، يلاحقنا صوت الفريسة السهلة ، تفسر له باكتراث زائد عن الحد موضع الضاحية التي سقط رأسها في حفرةٍ من حفرها .
كانت الخالة لا تدرك المسار الصحيح لسؤاله .
لقد زهد في جوارنا ، وغابة من الذكريات تشكل لنا تاريخاً مشتركا ، واستوطنوا الصلعا ، علي مشارف سوهاج الجنوبية ، إخوانٌ لنا من الحلب ، بعد أن أنفقوا علي هامش الأجنحة العائلية المتصارعة ، وقلبي ، غابة من الأعوام المجيدة ، كانوا خلالها جزءاً أساسياً من معادلة الدومة الأهلية ، لا يواجه مناهضته العداء ما دام الحياد باقياً ، يخفت الحياد أحياناً ، فيناصرون موقداً في صراعه مع موقد ، فيصبحون ، بالنسبة لهامشيتهم علي الأقل ، بؤرة الانتقام ، وكان مجرد التلويح بنذر المعركة يكفي أحياناً لجعل انخراطهم في جوارنا يتوقف .
قومية انفصالية ككلِّ قومية انفصالية ، لا يعيشون أبداً علي الحافة كحافة الغجر الشهيرة ، ولكنهم أيضاً ، يرتبون علي الدوام لقوميتهم العيش في الجيتو ، لا لحماية قناعةٍ ما من المدِّ والجزر شأن اليهود ، بل خرزة من العقد استراحوا لها لا أكثر ، هذا جعلهم تدريجياً ، وبشكل منظم ، وفي ما يشبه العرف الدارج ، يكتسبون تعابير الجيتو الخاصة ، فسلط الآخرون عليهم تعبيراً عن تعابير الجيتو التي لا تقيم وزناً للكثير من التابوهات الجنوبية الشهيرة ، نظرة عنصرية ، لا تسلم من الشوفينية ، حيث توقف الوقت وعبَرَ الأساليب ، وفي ما يبدو أنه اندفاعٌ خلف الاحتجاج ، أو النكاية ، واظبوا من جانبهم علي مواصلة حراسة جذور الإخلاص لعاداتهم الموروثة جيلاً فجيلاً .
لأن الإسراف في الالتفاف حول عادة واحدة يكفي لجعل انخراطنا في الدهشة حيالها ينهار ، لهذا ليس من محرضات الدهشة علي الإطلاق التفاف الحلب حول عدم الانتماء لأرض أياً كان ثباتها ، خنجر معلق في ذاكرة مجتمعهم العامة ، حتي يمكن التأكيد الزائد عن الحد بأنهم جذور تعيش بغير أرض ، ولكن من يراقب نموَّ هجراتهم ليس من الصعب أن يلمس حقيقة أنهم يحتفظون علي الدوام في جيوب هجراتهم ، بغابة من خطوط الرجعة ، هذا يدفعني إلي الإشتباه في موجة بعيدة تسلم جذورهم إلي لبنان ، فما أشبه الحلب باللبنانيين ، حيث يتوفر الاستعداد الوافر للترحال تحت أيِّ قافية ، وكلِّ قافية ، بل الترحال لمجرد الترحال أحياناً .
ولكن القلائل .. يتهمون موجة بعيدة ، حملت فوق ماءها الآثم جذورهم القلقة من مدينة حلب السورية إلي مواقدنا .
وذكري بعيدة ، ونشاطهم المركز في تجارة الأقمشة ، والفنان صباح فخري ، تدفعني إلي الإنحياز بشكل مؤقت إلي هذا التقدير الارتجاليِّ ، لكن الممتلئ ، انتشار الحنين إلي سوريا في لهجاتهم أيضاً .
حتي كتابة هذه السطور ، لا يزال العم عبد الحميد ، أشهر بائعي القماش الجائلين في الدومة ، يزين بضاعته ، ويعلن في الوقت نفسه وفادته ، بالنداء الحيِّ المنغم :
- حريـ يــ يـر سوريا ، بضايـ يـ يـع سوريا !
ليس الموضوع في إطاره بالتأكيد ، وليست صناعة الأقمشة الحريرية محتجزة في سوريا ، لابدَّ أن هذا النداء المسنَّ تعبيرٌ عن ذكري غامضة ، ومتوارثة .
من تعابير الجيتو الحلبيِّ ، في رأيي الخاص طبعاً ، زواج العم عبد الحميد من امرأتين ، تتقاسمان منذ طفولتي رجولته ، وحتي كتابة هذا السطر ، وتتقاسمان اسماً واحداً أيضاً ، فاطمة ، فهل يقدم علي هكذا جنون سوي العم عبد الحميد ؟.
ومن تعابير الدومة الخاصة، أنَّ نساءها تواطئن علي تعريف زائد عن الحد للرجل ، أو عبد الحميد جوز فاطنات ، لقد جعلن من المرأتين غابة من النساء .
وتضخيم الأشياء يكاد يكون تقليداً دومياً شهيراً ، وهذا يقودني إلي ..
ذكري بعيدة .
كان العم "علي" بائعاً متجولاً للكيروسين ، أو الغاز في لهجاتنا ، أسترخي ليلة فوق أكبر أخطائه علي الإطلاق ، فوجد حماره تعريفاً لطريق الدومة ، دون أن تكون لديه أدني فكره عن لقبه الذي سوف يلتحق باسمه بقية أيامه ، لقد نشط ، تحت ضغط مؤخرته الضخمة ، ذلك التقليد الدوميُّ في العثور علي السخرية حتي في الظلال الصلبة ، ودون مراعاة للياقة ، أو الذوق ، راقبوا ، فجأة ، وبشكل جماعيٍّ ، نموَّ انتباههم إلي العلاقة اللغوية بين مؤخرته ونشاطه ، الغاز ، فضربت حواسهم عاصفة من المرح الداخليِّ ، وصاحوا جميعاً ، رجالاً ، وأطفالاً ، وشباباً ، خلف الرجل :
- علي أبو .... ، بياع الغاز !
أحصي الرجل فرديته ، وجمعهم ، فأسكت غضبه مرغماً ، ومضي بعربته صامتاً وازدادوا بصمته وعياً بإحساس المنتصر ، واتسعت المطاردة تدريجياً ، وتكاثر الدوميون حول حوافه ، علي مشارف الدومة توقفوا ضاحكين ، وتابع الرجل هروبه حتي تجاوز " كوبري حماد " ، وهناك توقف ، ونظر إلي بيوت الدومة ، وانفجر صائحاً :
- إتفووووووووووه عليك يا دومة ، يا بلد الغجر يا ولاد الكلب ، يا غوازي ، يا جعانين ، إتفوووووه !!
كان بصاقه الذي لا يصل ، وكان صدي صوته الهستيري المحتقن ، الذي يندمج مع ضحكات مطارديه العصبية ، آخر العهد بمؤخرته .كانت العمتان " فاطمة " ، تركبان الحمار فوق القماش معاً ، واحدة خلف الأخري في ترتيب لا يختلّْ ، بينما يسير العم عبد الحميد أمامه برقة عذراء ، ممسكاً برقبته ، كأيِّ ، جنتلمان حقيقي ، وأن تركب المرأة حماراً ، بالنسبة للدوميين ، انحلالٌ يفتت عفتها إلي شكوك ، وهو ، بالنسبة للحلب ، قلب العفة في إطاره ، بل من أكثر تعبيرات الجيتو الحلبيِّ شيوعاً .
ليسوا الأسوأ ، لكن لهم أساليبهم .
لهجاتهم أيضاً ..
ربما لعشوائية تنقلاتهم ، وكثرتها ، وحالة الإيمان بالجيتو كضرورة ، وخطوط الرجعة النشطة ، لا يستطيعون علي الإطلاق إخضاع ألسنتهم للهجة واحدة ، ويظلُّ علي الدوام أثر اللهجات المنسحبة حياً في سطوحها ، تختلف اللهجات أحياناً من كوخ إلي كوخ ملاصق ، بل من زاوية في الكوخ إلي زاوية أخري ، وأقسم بالعطر علي هذا .
وإن كان الانطباع هو الإيمان بالإطار كنوع من الوباء العام ، فإن من السهل أن تجفَّ المسافة بين الدومة ، والبطحة ، ونجع عمران ، والحوش ، سيراً علي الأقدام ، خلال أقلّ من ساعة ، ولكن هذه الدقائقَ ممرٌّ صادقٌ نحو اكتشاف العديد من اللهجات المتضاربة ، مع ذلك فإنَّ جسور الحوار بيننا ليس من الصعب تصميمها ، وفي لغة الإشارة أحياناً عوض .
مجرد التلميح بالأيدي ، واهتزازات الرؤوس ، وتحريك الحواجب يكفون أحياناً لجعل ارتطامنا بصعوبة الفهم يتوقف .
كان العم ، الشاب " سيد أبو ريا " ملجأً أميناً لكل الأمراض الممكنة ، هذا جعل شحوب وجهه الزائد عن الحدِّ يضفي عليه مظهر الميت العائد من موته ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء الخوف علي أطفالهنَّ من إحراز عدوي أمراضه الغامضة ، تجاوزت تحذيرات الأمهات من شراء ترمسه ، بل من مجرد ملامسته ، التهديد بالضرب إلي تحققه قبلياً ، ولكن مذاقه المميز كان علي الدوام منوطاً بتحريضنا علي العصيان .
قادت الصدفة المحضة العم سيد أبو ريا إلي أذان العصر ، أو رقية العصر ، وقلبي ، للمرة الأولي ، ذات عصر شديد العصافير ، فسكت عمراً ، ونطق كفراً ، ليس فقط لأنَّ صدي صوت نهجانه المكبر كان أعلي من صوته ، بل لأنه صاح :
- اللاهو إكبر ، اللاهو إكبر !
انفجرت في قلب المسجد ضحكاتنا ، وتفتت استغراق الرجل في المناغاة أو الرقية إلي شكوك ، واهتزت كلُّ كلمة برعشة خاصة ، وطارت أكياس ضحكاتنا في هواء المسجد ، ثم لذنا بالفرار .
وبرغم أنني كنت فرداً من قومية كبيرة من الصغار ، وقع الإختيار علي إخضاعي للمسئولية الكاملة منفرداً ، ونقل إلي أبي أولاد العاهرات من الدوميين الصورة كاملة ، وشوهوا الكثير من ملامحها ، سألني أبي في مساء ذلك اليوم بهدوء كأنه الصخب :
- صليت العصر وين يا محمد ؟!
دون تفكير ، مررت منحنياً تحت قوس براءتي ، ونبتت غيمة علي جسدي ، وانتشرت ، فجأة ، في الضحك :
- عارف سيد أبريِّا ، بتاع الترمس ، عيَّدِّن كيه ؟!
- كيه ؟
انتصبت ، ووضعت يدي اليمني خلف أذني ، وصحت من بين ضحكاتي :
- اللاهو إكبر ، اللاهو إكبر !
لمحت علي وجهه طيف ابتسامة ، ثم .. وفي لحظة خاطفة ، ركلني من الأمام فجأة ، فانزلقت في مقدمة الذعر ، والإنكار لا يفيد ، وتدخلت عمتي فتحية ، ودفعته عن جسدي بخشونة ، وبدأت انطباعات الوجع تعمل ، كان عراء أعصابه ذلك المساء أكثر مما ينبغي .ولكلِّ هذا ، فهمنا أن مسار سؤاله الصحيح ، والمعتني به تماماً ، للخالة زينب :
- إنتي حلبية ؟!
عدنا ضاحكين ، عقب انطفاء الفريسة من المربع الآمن ، نتأمل أسلحة وعتاداً ، وبادرته من بين ضحكاتي قائلاً :
- إنتا فـ إيه ولا إيه ؟
وضحك ، كان يختبر قامته القادمة .

(52)

الآن ، وأكثر من أيِّ وقت مضي ، أصبح المأزق القديم ضئيلاً ، ومنعزلاً ، ربما لأنني أقف منه علي مسافة كافية لجعل انهياره ، لوقت الحاجة ، في جيب ضحل من جيوب الذاكرة يكتمل ، ولكنني أظنُّ أنَّ بعض الأحقاد النشطة في قلبي ، تعبيرٌ حقيقيٌّ ، ومحميٌّ بتواصله ، عن أفكاري الناجمة عنه .
يظهر أحياناً ، فجأة ، وفي لمحةٍ يكتمل ، فأراقب نموَّه الداخليَّ بوضوح ، وأقرأ بمقاربة مرضية انعكاساته الخشنة ، أزيل عنه غبار الأيام العالق ، ثم أعطِّل نشاطه تماماً .
ربما ، لأني أودُّ للكثير من الأعشاب الرديئة ، التي نمت بصوت مسموع علي أسيجة بيتنا الرائدة ، حتي استطاعت أن ترتجل ضررها الخاص في أصص آثمة ، ومسيجة بظلٍّ شاحب من اللاشئ ، أن تنجو من أطراف الكلمات الحادة .
كان المكان متطلباً وكانت مقتنياتنا السائلة من النقود هابطة ، حتي أنها واجهت لليوم الثاني جفافها تماماً ، واشتعل المأزق كفضيحة ، وانطفأت ، فجأة ، مع سبق الإصرار ، وجوه الذين درجنا علي إحصائهم ملاجئ أمينة ومتاحة لوقت الحاجة ، وتغيرت ألوان الكلمات ، وازدادت الذرائع تدريجياً ، صلابة ورداءة ، ردعاً ضرورياً لمجرد التلميح ، أو حتي التفكير بطلب المدد ، وما كنا لنلجأ من تلقائنا إلي سلة من النكرات ، نما الضوء الركيك في أسمائها عقب خمول طويل ، وإن كانت الرغبة في مجرد الطرح متوفرة .
كان غموض مقاصدهم واضحاً أكثر مما ينبغي ، ويومٌ له ما بعده .
ومن المثير لطغيان الدهشة ، ومن السيئ أيضاً ، أن الرغبة الحقيقية في المدد قد امتدت من عروض الذين درجنا علي إحصائهم خصوماً وعوائق ، وأعتقد أن رفضنا كان تعقيباً علي أفكارنا الدارجة عنهم .
وبالقرب من هذا التيار من التعاطف الذي يصعب تحديده ، وجدوا تقديرنا وحبنا وبعض الندم .
وبالقرب من هذا النبع من التعاطف الذي يصعب تحديده ، ويصعب توقعه ، عثرنا علي العديد من الانطباعات الجديدة تتناسل تحت السطح ، وزاوية أخري ، وأضواء مختلفة ، للنظر إلي الثوابت التي تحكم العلاقات بين الأطراف كافة ، وأمكن فيما بعد ، تجاوز الكثير منها .
وتطور المأزق حيث لا يوجد تراجع ، وحيث لا يوجد تراجع ، اختبرت الطريق إلي قنا ، وكانت نجمة الشمال ممراً صادقاً نحو خلاصنا مؤقتاً ، وكان صديقي ، بحماية عصره ، سخياً .


(53)

يوم متوسط من أيام شهر أبريل ، والقرن الواحد والعشرون يتسكع في نقطته السابعة ، وملامح وجوهنا السابقة تفقد ألفتها باطراد ، وملامح وجوهنا القادمة تختبر تربصها ، وأبي يكتسب النقاط الأخيرة في المعايير الطبية للتماثل الأقصي لمريض بالسرطان للشفاء ، ويقترح الدكتور خلف خروجنا . انخرطت الخالة زينب في موكبنا العائد حتي باب السيارة .
لقد انحسر الأسبوع وبعض الأسبوع عن صداقة حقيقية بين أبي وبينها ، صداقة لا تقبل التأويل ، ولا تقبل المدَّ والجزر ، حتي أن أبي الذي لا يقبل النقد ، كان يرضي بمقارباتها لانتقاده بكلِّ سرور قلبه المتعب ، وهو نقدٌ يراعي صالحه ، أو هو عتابٌ لاسع ، كالعتاب علي التدخين الزائد عن الحدِّ غالباً ، وارتباك العمامة أحياناً ، وشهيته القليلة للطعام علي الدوام .
وحتي أن اسمها ، ظلَّ ينزلق في شرخ أحاديثه عن ذكري هذا المنعطف محتجزاً داخل حبه الوافر ، وبإسراف ، حتي النهاية الرديئة .
لابدَّ أنها هي أيضاً . محيرٌ ذلك النبع المشرع لتربية الدفء الإنساني بين غريبين يتقاطعان علي حافة الصدفة المحضة .
– نشوفوا وشك بخير يا زينب !
– ربنا يطمِّنا عليك يا حاج ، توصلوا بالسلامة !
ووصلوا بالسلامة ، وبحزمةٍ من الثوابت الطارئة ، ووصلتُ دونهم بحزمة الثوابت الطارئة ، وعادة طارئة ، تجاوزت حراستي لجذور الإخلاص لها رحيل أبي بسلةٍ من الشهور العصبية ، والجارحة أيضاً .
استدعاء النوم بالمنومات .
لأتفادي الليل ومنعطفاته المؤدية علي الدوام نحو يقين الألم ، ربما لأن الكيمياء تحترم قواعد المنظور ، أو تحترم المسافات ، والمساحات بين الإنسان وذاته .
كان انتحاراً منظماً ، لكنه غير حاسم .
بمجرد اقتراب الموكب من مشارف الدومة ، استعمل أبي كامل قوته الخارجية ، واستعرض النشاط الوافر لأعضائه الداخلية ، وأحاطها بالتوترات ، فاتزن اتجاهها ، وتحقق وجودها ، وانخرط ، علي طول الطريق في إلقاء السلام علي أطراف المتعاطفين ، والمتربصين ، والأطفال ، دون تمييز ، كأنه ليس ميتاً مؤجلاً ، وكأنه يعلنهم بأمنية ، رفعت لا يموت ، ولمست الكثير من نار المرح الداخليِّ المشاركة ، ولمست ، مع ذلك ، شهقات تتجمد علي وجوه النساء يصعب تحديدها ، ورأيت رجالاً يتجمدون لرؤيتنا كالأصنام .
توقف الموكب فوق الجذور ، وبين الطلل ، وأصرَّ هو أن يهبط من السيارة معتمداً علي ظله فقط ، دون مساعدة من أحد ، وطاردت الزغاريد المترقبة خطواته اللائقة بإلحاح ، ترشد ظله إلي قبونا ، كانت عضلات الطريق إلي بيتنا قد انهارت تماماً ، فتدحرجنا ، بإنفاق المزيد من الجهد ، إلي قبونا جميعاً .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس