عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 02:02 AM   #13
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(48)

دقَّ العم عبد الباسط غروب نهارنا الثاني في المستشفي ، متضمناً في رماده ، لقد ترك في الدومة ملامح وجهه السابقة .
كنت أدرك أن عضلة العوز القوية ، فضلاً عن عضلة مرضه ، تعاونتا في انسجام مدبر علي عجزه عن اقتحام سياج سوهاج الجنوبيِّ معنا منذ اللحظات الأولي .
توقف علي رأس السرير الذي يسكنه الورم مأخوذاً ، كان أبي لائقاً إلي حد ما ، وعاجزاً عن إقامة بنايات الكلام ، فقط تخطيطها ، ثم يفسر الآخرون دوائرها الناقصة ، واشتعلَت بينهما لغة الصمت الثالثة .
كان ألمه جلياً ، ليس الألم الصحيُّ الذي يمكن تفسيره بالممر الصادق نحو اكتشاف الذات ، بل الألم الذي يستقطب إدراك الإنسان ووعيه تماماً ، دعوته للجلوس فجلس ، واستأنف علي غير العادة صمته ، حاولت أن أكسر قشرة الصمت قبل أن يصبح الدوران في الصمت عرفاً دارجاً ، ظانَّاً بأني إذا أسلمته إلي الكلام ، سوف اضطر فيما بعد إلي الاستعانة بالطبيب ، ليصدر أمراً بطرد أعشاشها من الحجرة ، وسرعان ما واجه ظني إلغائه ، لا أدري كيف كانت تسير الأمور ، لكنها تفشل ، فامتنعت عن لمس الكلام .
ظلَّ شارداً ، يصغي لماضيه في ظلِّ جسده ، وظلِّ الجسد الممدد علي بعد سلة من الياردات الهوائية من قلبه ، والمهدد بالموت المرابط في جيوبه تهديداً واضحاً .
دقَّت سوهاج مساءها الخاص ، الخاص جداً ، فنبهته إلي ندرة وسائل المواصلات إلي نجع حمادي في وقت متأخر من الليل ، فأصرَّ علي المبيت ، واستطاع حازم أن يرتب له ليلة في الشرفة الباردة .
أتذكر أن سوهاج في ذلك اليوم تحديداً كانت تحتفل بعيدها القوميِّ ، فصارت ، فجأة ، سماءها ، بالنسبة لقلوبنا ، جزيرة حقيقة من الضوء الملون ، والمصوِّت أيضاً ، وانكمش الليل تماماً ، وزفَّ لنا زائرٌ بشري ممتلئة :
- جايبين شعبان عبد الرحيم ، أنا رايح نتفرج !
إحدي سخافات الآخرين الصلبة ، ولكن ليس بالقدر الذي يمكن أن يباشر تربية الحقد في قلب مفعم ، وعادل ، أو حتي مجرد الغضب ، كنت أدرك تماماً أننا لو تبادلنا المقاعد ، ولو كان غير السيد شعبان عبد الرحيم بالطبع ، لاتَّحد تصرفي بتصرفه السخيف .
إن ظلي يتخلي عني في العتمة ، فمن الحماقة أن أنتظر من الآخرين دعماً تام الدوائر ، لهم آلامهم أيضاً .
هذا قادني إلي ذكري قريبة الشبه ، وإقليمية ، وسحيقة ، تجد التعبير عنها في رسالة بعث بها أحد عمال المقابر الفرعونية إلي أمه ، يشكو لها فيها من سخافة حارس المقبرة ، كان قد استودعه حذائه ، وسافر إلي الدلتا لحضور مهرجان " تجديد شباب الفرعون رمسيس الثاني" ، يقول :
" سلمني الخفين ، وقال ، احفظهما لي ، وبحق بتاح ، لقد انسل بالليل إلي الشمال ، ما معني ذهابه للشمال من أجل اليوبيل ؟ " .
هناك بالتأكيد لذهابه معني ، يعرف الحارس فقط ، عندما طارد ذلك المعني ، ما يدور وراء كواليسه ، ولكن العامل الرقيق ، كان ينظر إلي ذهابه من زاويته الخاصة ، ويفكر فيه علي ضوء اهتماماته الشخصية .
وإن تناسل الجنوبيين المعاصرين في شرخ الذهاب إلي يوبيلات الدلتا الصوفية ، تكريماً لذكري ميلاد السيد أحمد البدوي ، وميلاد السيد إبراهيم الدسوقي ، وأساليبهم في الحديث بعد العودة عن ألوان الطعام هناك ، وألوان البهجة ، وألوان النساء ، كجزء رئيس في المعادلة ، وجمالهن الأخاذ ، بالنسبة لنساء الجنوب طبعاً ، وعطورهنَّ الجارحة ، وسهولتهنَّ ، وهي لا تعني بالضرورة انحلالهنَّ بقدر ما تعني ثقافتهنَّ المنفتحة علي تبادل أطراف الحديث مع الغرباء ببساطة ، يدفعني إلي الظنِّ المستدير بأن البواعث وراء الكواليس واحدة .
أصغيت ، فجأة ، بعد زوال الزائر إلي الاهتزازات العصبية لصدر العم عبد الباسط ، المتكوم في زاوية الشرفة بإهمال ، وتركت مع سبق الإصرار عينيه تابعان عطائهما الصامت في قلب دوائر الصخب .
ربما لتعقيدات ذاتي الصلبة ، وربما لخبرتي بمسارات القوي الطبيعية التي لا يمكن ضغطها في إطار النبوءة ، وفقاً لأيِّ قانون ، أصبحت لا أستجيب لأيِّ وثبة طبيعية تحرض علي الدهشة ، لذلك لم تجد دهشتي التعبير عنها في أن يكون آخر نعشٍ سار أبي ، أو بدقة أكثر ، حاول السير وراءه ، كان نعش العم عبد الباسط ، اكتمل ذلك المشهد قبل رحيله بسلة من أسابيع الغربان تقريباً .
كان وداعاً مبتوراً ، يرمم نقصه يستطيع تحليل رباطه حوله ، ليعزل بوضوح رنين خطواته .
لقد واجهت خطواته إخفاقها في الاتحاد بخطوات المهرولين خلف النعش ، وطرده دمه الشحيح من الوداع إلي أقرب مقعد التقطه مرضه ، وتزاحمت النساء السائرات خلف المشيعين من الرجال ، كما جرت العادة ، حول حرجه ، فمه الذي يتصيد الهواء من أقبية بعيدة ، كانت أمي متضمنة فيهنَّ ، لكنها خبأت دموعها المركبة بعيداً عن متناول انهياره ، وقلبها ، التقطت عيناه الهائمتين ، فجأة ، وجه عمتي ، فقال لها بصوت يفرز الهواء ، كأنه يخرج من نبع جاف :
- روحي يا عدلية ، متلميش الناس عليّا !
وربما لو نظر في تلك اللحظة خارج ذاته ، لرأي غابة من الأشجار المثمرة .
كان موت العم عبد الباسط ، النار الأخيرة فوق سطوح خسائره .


(49)

ليس هناك مجتمعٌ قبليٌّ سليمٌ في تفاعله ، أو ديني ، حقيقة لا تحتاج إلي الوقائعية للحكم علي امتلائها ، وبفضل هذه الحقيقة ، كانت المثانة البلاستيكية علي الأرض ، وكان الوريد الممتد منها إلي مجري البول ، وما ينطوي عليه من البول والدم المتضمن فيه ، يشكلان لأبي ضيقاً كلما زاره زائرٌ يشتبه في براءة نيَّته ، يتوقف حجم الاشتباه عادةً علي حجم التنافر بين الائتلافات كافة .
لقد باشر الذين تراثهم أقدمُ من تراثنا بسلال ٍ من العقود ، تربية الكثير من الخصومات ، وواظبَ المؤجلون علي حراسة جذور الإخلاص لها ، بل ولحالة الإيمان بها ، وولجوا شوكها دون روية ، ودون رؤيةٍ أيضاً ، وهذا ممرٌّ صادقٌ لطرح الشاعر القبليِّ القديم :
ساق العداوة َ آباءٌ لنا سلفوا ، فلن تبيدَ ، وللآباء أبناء .
وهي تقاطعاتٌ إلي مدي بعيد ، أو تداخلاتٌ معوجة ٌ إلي مدي أبعد ، في المطامح البسيطة ، والايدولوجيات الفقيرة فقط ، كأن ينحاز موقدٌ عائليٌّ إلي مرشح في انتخابات ما كان يسمي بمجلس الشعب ، وينحاز موقد عائليٌّ قريب النسب إلي خصمه مثلاً ، أمرٌ شديد البديهية والمشروعية والابتذال ، ولكلِّ امرئ ٍ أن يختار خرزته من العقد بحرية تامة ، هذا في المجتمعات التي ارتفعت عن أحقادها القبلية طبعاً .
قد تكون الكراهية أحياناً مبررة .. من الكامل فينا ؟ .
وإن أنس لا أنس ذلك الذعر ، وذلك الترقب ، الذين كان يسيطران علي الأفق الدوميِّ بأكمله ، وعلي مدي غابةٍ من الأيام المؤدية إلي يوم التصويت ، وغابةٍ من الأيام ، الأكثر بشاعة ً ، بعده ، فالجنازة علي الدوام حارة ، والميت علي الدوام كلبان من كلاب الحكومة ، والحيز الناجم علي الدوام متوتر .
ورغم ما بين المواقد العائلية من نسب ، أو لعله لما بينها من نسب ، فقد تناهضت العداء ، وهناك علي الدوام أولئك الذين ينشطون ، أو يتظاهرون بالنشاط في أوقات الصراع بين الواقد العائلية المختلفة .
هناك أيضا ، الذين يتَّخذون من تربية الصراع بين العائلات مساراً إضافياً ، وإيماءة ً ضرورية ، تلفت الآخرين بما يشبه الطعن إلي وجودهم ، وتلك الآلية الشائعة فتحت باباً بحجم الدومة ، ولجه الكثيرون من بعيدي النسب من البلاد المجاورة ، فانخرطوا في لهجاتنا ، وقد أضاءت نار الفريسة أسماءهم ، وأمسكوا بجذر الدومة تماماً ، وأصبح في مقدورهم أن يشعلوا أفقها في أيِّ وقتٍ ، وكلِّ وقتٍ ، ويطفئوه أيضاً .
ينسي الجميع علي الدوام تاريخهم المشترك تكريماً لمحتال ٍ يتبني إيقاظ الفتنة بين المواقد كافة ليرتفع كنخلةٍ من خلال وشائج صافية من الانحطاط الفكريِّ ، فما إن ينفرط عقد غابةٍ من المتشاجرين في الجيب الشرقي من الدومة ، حتي يتهيَّأ عقدٌ جديد من الذين يباشرون تربية المعركة في الجيب الغربي ، وتنتشر العدوي كفضيحة .
تبدأ المعركة عادة صغيرة ً يمكن السيطرة عليها ، ثم تترهل سريعاً ، ويصبح العنفُ تعبيراً غير محميٍّ تماماً ، ويصبح اليوم خواناً للحزن ، ويصبح الغد حطب ، وتكون الآثار الناجمة عادة ً متطلبة ، وربما أنفقت الدومة أعواماً قبل ذوبانها التام في الأعماق الخاملة .
كنت أدرك تماماً ، أن أسباب المعركة منجَّمة ٌ، لا طارئة ، جُمِّعت علي فتراتٍ متباعدةٍ ، واجتمعت فجأة . تصفية حسابات لا أكثر ، ولقد فطنت إلي هذه الحقيقة امرأة من الدومة ، سألتها عن أسباب معركة ، كانت تدور رحاها في الجيب البحري ، فأجابتني :
- ولا حاجة ، كل واحد عايز يطهر ولده فـ عرس غيره !
لهذا ، ولغيره .
كان أبي كلما دهمنا زائرٌ يتّهم بالسوء نيته ، أشار من طرف خفيٍّ ، إليَّ ، أو إلي حازم ، فنبادر إلي إخفاءها تحت السرير بأساليب ركيكة ، وتحت نظرات الزائر ، وتدبُّ في جسده فجأة ، قوة أسطورية لست أدري كيف ترتجل مثلها أعضاءه التي تتعذب بفعل استحواذ الورم الشامل ، ولا كيف يتزن اتجاهها ، يبدو أنه كان يشحنها بحيز داخليٍّ ، ويحيطها بالتوترات ، فيتحقق وجودها ، وينسحب المرض فجأة ، وتختفي فجأة صعوبات التنفس بشكل جيد ، وينتقل بالحوار في أزقة عالقة بمنابع خبزنا ، السماد وقصب السكر وبنك الائتمان الزراعي وشركة السكر ، ويكون الثمن علي الدوام باهظاً ، لقد كنت أكتشف عقب جلاء الزائر ، أو الزائرين ، أو الزائرين ، أنَّ أبي خلال هذه الدقائق قد حسم الكثير من قوته الحقيقية .

(50)

لا يقبل الموتُ القسمة علي اثنين ، ولا يقبل المدَّ والجزر ، ولا يقبل إلغائه ، بديهيات لا تحتاج ، حتي الآن ، إلي الوقائعية للحكم علي ابتذالها ، ولكنه ، والإحساس القويَّ النبض به أيضاً ، ينفيان عن النفوس أحطَّ طباعها ، ويستقطبان إلي مركزها أعلي نزعاتها الإنسانية رقة وجمالاً ، أو هكذا أظنُّ .
لقد تصدر البحث عن جراحي لائحة اهتمامات عصام ، عقب عودته مباشرة من رحلته العلاجية الأولي إلي معهد الأورام ، وضبطني ، فجأة ، علي حافة العزلة ، وبلا مقدمات جديرة ، صدمني ، فجأة ، صدمة ميسرة ، ولها ما بعدها ، كأنها الهدف الوحيد من الهجوم علي أطراف عزلتي ، قال جاداً :
- محمد ، إنتا لازم تكشف علي نفسك مقدم ، إنتا عندك النهتة زيي ، ووشك ما عاجبنيش ، ليكون عندك صرطان !!
هكذا مباشرة ، قافية معقدة ، وتأملت ببطء ، لكن بوضوح ، وراء الشوك ليلكة في الظلِّ .
كان يرغب في رفيق للطريق إلي مجهوله القادم .
نوع خاص من الحبِّ الرحب ، أو الذعر الرحب . يا عصام ، هل فوق موت ؟ ، جرح كونيٌّ يتناسل في دمه كلُّ الأحياء ، فتعهد ثباتك ، ولا مبالاتك :
– والله يمكن يا عصام ، مين عارف ؟!
علمت فيما بعد أنه قال الذي قال لي لصديقنا جعفر ، فكان تعقيبه جارحاً .
ربما لنقائه الشديد ، لم يفطن إلي الشوفان أمام النافذة ، يحجب الجبال البعيدة ، لقد نوَّه له المسكين عن قلبه المزدحم بحبه لا أكثر .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس