عرض مشاركة واحدة
قديم 28/04/2008, 08:44 PM   #32
أحمد بدر
شـاعـر
 
الصورة الرمزية أحمد بدر
افتراضي

يتيمة الأدب الإنجليزي
(( جين إير ))
للكاتبة الرقيقة شارلوت برونتي



علها أول رواية تفتح عينيّ على رقة الأدب الإنجليزي وكلاسيكية الخيال البريء والذي استمد وحيه من مناغاة الطبيعة والفطرة السليمة للعاطفة التي لا تشوبها الشهوات .
بل هي أول ما قرأت جزما.. عندما قرأتها عشتُ قلبها الرقيق الذي ينبض بالبساطة فاحتلت من نفسي ما احتلته تلك الكاتبة القل نظيرها ...
نبذة عن حياة آل برونتي ((منقول))
في سنة 1847 اهتمت الأوساط الأدبية في إنجلترا بكتاب ظهر لمؤلف مغمور.. مجهول، خرق ما جرى عليه الأدباء من عرف في القصص الغرامية، وقبل أن يكتمل العام الأول طبع مرة ثانية وثالثة، وأدرك الرأي العام في هذه الأثناء أن المؤلف الجريء لم يكن رجلاً على الإطلاق بل آنسة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، وبزغ اسم "شارلوت برونتي" وظل براقاً على مر الزمن.. وعرف الناس أنها إحدى أخوات ثلاث، نشأن في عزلة موحشة وليس لهن من أنيس سوى القلم والورق.. ولم يجدن ما يملأن به فراغ حياتهن منذ الصغر سوى الأدب ومحاولة قرض الشعر وتأليف القصص التي كن ينتزعنها من صميم حياتهن، ومن أحلام اليقظة التي لم يستطع الأب القاسي أن يتسلل إليها ليخنقها كما خنق حياتهن، لقد كانت حياة آل برونتي مأساة بكل ما تحمله هذه الكلمة من أحزان، إذ قدر لهذه الأسرة أن تفقد الأم مبكراً، فتولى الأب تربيتهم وكان من أتباع مذهب "كالفن" المتشدد، فحرم عليهم أكل اللحم لأنه مظهر من مظاهر الترف وكذلك اللعب، ومن ثم طبعت حياة الأطفال الستة بالحزن والكآبة والشعور بالمسؤولية، وكان والدهم يحدثهم دائماً عن الموت والحياة الأخرى، أما الحياة الدنيا فلا شأن لهم بها، بل إنهم كانوا يعيشون في عزلة عن الناس لا يزورون أحداً ولا أحد يزورهم، ولا كانت أبصارهم تقع خلال النوافذ على غير المقبرة الحزينة والمستنقعات الكئيبة، وكان الأب يدعو أولاده كل أسبوع إلى مكتبة لاختبار معلوماتهم عن الموت وجهنم والشيطان وبسبب شظف العيش ونقص التغذية توفيت الأخت الكبرى "ماريا" التي كانت في الثامنة عندما رحلت والدتها وما لبثت أن لحقت بها "اليزابث" التي تليها في ترتيب العمر وبذلك أصبحت شارلوت كبرى أخواتها، وتولت مسؤوليتهم، فكانت ترعاهم وتنظم حياتهم وتقرأ صحيفة الصباح لوالدها وهو يتناول قهوته، وكان المتنفس الوحيد للأطفال الأربعة الباقين القصص الخيالية التي ترويها لهم خادمتهم المخلصة "تابي" وكان لابد لهم لكي يستمروا في الحياة أن يلتمسوا الحب والحياة الاجتماعية في الخيال، وأن يعوضوا جفاف عالمهم بعالم خاص بهم، ومن ثم لم يعرف التاريخ أخوة وتؤمن بالخيال المرهف ما أوتيه أبناء القس برونتي.. البنات الثلاث والولد الوحيد، فقد تعودوا منذ صغرهم على كتابة المذكرات وإطلاق العنان لرغباتهم على الورق، وعندما بلغت شارلوت الرابعة عشرة من عمرها قرر الأب إرسالها إلى مدرسة داخلية لتنال نصيباً من العلم، وهناك بدأت الفتاة الصغيرة تتحرر من خجلها قليلاً وتندمج مع فتيات من سنها فتحكي لهن القصص وتمتعهن بما ترويه من حكايات جميلة لا تنفد، كما أن المدرسة أشفقت عليها لما رأته من هزالها الشديد، فخصصت لها أفضل الوجبات وبدأت الحياة تدب في الجسد الهزيل والوجه الشاحب، وبعد سنوات عملت كمدرسة في نفس المدرسة التي تعلمت فيها، ثم كمربية، ثم ما لبثت أن رحلت إلى بروكسل وهي في السادسة والعشرين لتعيش في مدرسة داخلية يديرها زوجان.. مسيو ومدام هيجير.. لتتعلم كيف تدار المدارس، وما لبثت أن تعلقت بمدير المدرسة "هيجير" ورغم أنه كان أبشع رجل في العالم كما تصفه الكتب التي أرخت لحياة شارلوت إلا أنه كان أول رجل ذكي يعاملها كإنسانة، وكان هذا الحب من طرف واحد وصرحت شارلوت في رسائلها إليه بعد أن عادت إلى لندن بعواطفها قائلة: سيدي، إن الفقراء لا يحتاجون إلى الكثير ليقيم أودهم، ويصون بقاءهم في الحياة، بل إنهم لا يرجون سوى الفتات الذي يتساقط عن مائدة الغني، وأنا الأخرى لا أطمع في غير قسط ضئيل من عطف من أحبهم، إذ أنني لا أدري ما الذي أفعله بالولاء الكامل، الشامل منهم.. فأنا لم آلف التفكير في ذلك، وهذه الرسائل تكشف إلى حد بعيد نفسية تلك العانس الرقيقة فهي لم تكن تطمع في الكثير، كل ما كانت تريده هو أن تحب وأن تشعر أن هناك من يفكر فيها ولو قليلاً وحتى هذه الآمال البسيطة حرمت منها إذ لم يحفل من أحبته بالرد عليها إلا مرة واحدة، ولم يكن أمامها لتنقذ نفسها من الجنون سوى أن تصب كل آلامها في روايتها العظيمة "جين آير" ولم يقدر لها أن تهنأ بهذا النجاح إذ مات شقيقها الوحيد في تلك الفترة ولحقت به "اميلي" التي ألفت "مرتفعات وذرنج" ثم "آن" صغرى الأخوات ومؤلفة "آجنس جراي" وبقيت شارلوت وحيدة تجتر آلامها وأحزانها دون معين، وعندما تقدم لها "قس" لا يتمتع بأية مواهب ويختلف عنها في كل شيء وافقت على الزواج منه، وبعد شهور تطايرت الأنباء بأن الكاتبة الموهوبة تنتظر حادثاً سعيداً، ولم تدم هذه الفرحة طويلاً، إذ أن الموت لم يمهلها لتنعم برؤية طفلها فماتت وهي في التاسعة والثلاثين بمرض السل الذي اختطف من قبل آميلي وهي في الثلاثين وآن وهي في التاسعة والعشرين.
لقد كانت أسرة برونتي أسرة العبقرية وأسرة الفواجع أيضاً!!
إمبراطورية "آل برونتي", قوامها ثلاث شقيقات سطرت كل واحدة منهن رائعة من التحف الروائية "مرتفعات ويذرنغ - جين إير - أغنيس غراي" مؤلفات قفزت بأقلامهن إلى لائحة الآداب العالمية, بعد انطلاقة يشهد عليها درب وعر وظروف مأساوية, لكن الأخوات برونتي بقين فتيات صامدات أمام نوائب الدهر, وهن اللواتي بقين على قيد الحياة من أفراد أسرة استفحل بها داء التدرن الرئوي, الذي فتك بوالدتهن كما أودى بثلاثة أشقاء.. وإذ شاع الهمس بين الجوار بوصف العائلة الموبوءة, عزم السيد برونتي إقصاء بناته عن المدرسة عندما تناما إلى سمعه كيف أصبحن منبوذات, يتجنبهن الزميلات خوفا من العدوى.
لم يسدد الأب صفعة لأيتامه بزواج آخر, ومن آزره في مصابه كانت شقيقة زوجته, فتطوعت برعاية أطفاله ريثما يشتد عودهم, لتبعث الأمل بين أرجاء منزل تصدرت جدرانه صور الأموات, التي سارعت بإزاحتها تستبدلها بصور "شارلوت - إميلي - آن" وشقيقهن باتريك - خلية النحل تشبيه يليق بتعاون أسرة برونتي, وانغلاق الشرانق وصف ينسجم مع بيئتهم الوديعة.
مع انبلاج الفجر تدب الحركة بنشاط الأعمال المنزلية, أما وقت التحصيل الدراسي فيبدأ قبل انتصاف النهار..
تحت إشراف مربيات بديلات يعوضهن عن فرصتهن الضائعة, لينعمن بعدها بمرح الظهيرة في الحقول المجاورة, وحين يهبط المساء تمارس الهوايات بعزف الألحان وقراءة القصص, ورسم اللوحات فيشار إلى مقرهم, بمحمية منعزلة لا يؤمها الزوار.
دمى الأخوات القطنية, وجنود باتريك الخشبية تحولت في مخيلتهم إلى أبطال من التاريخ, يطلقون عليها أسماء العظماء. تتحرك بوحي أقلامهم إلى فصول قصصية تسترعي الدهشة. وإن برعوا جميعا , لكن الأب كان يبالغ في الإطراء على مواهب باتريك, وتزيل الخالة تقطيبة الشقيقات بقولها "تذكرن أنه الصبي الوحيد.. وقد يكون.. وتتدارك زلة لسانها, ليفهمن ما كادت تنطق به, يقابلن الموقف بالدعاء.. رحمتك!.. رباه ليتبارك اسمك.. انتشل لنا باتريك من براثن المرض!".
الحيرة ستراود القارىء, وتطرح الأسئلة نفسها بإلحاح. أتحلق الطيور تحت سقف منخفض?
وتلك العائلة التي حاصرتها الظروف تحجب عنها رحابة الأفق, أليست بيئة محدودة أضيق من أن تنجب عمالقة الأقلام?
لا بد من حدث جذري بدل الأوضاع, ومن وقف وراءه شارلوت مبدعة "جين إير", عندما أطلق لها والدها الجناح للالتحاق بمعهد "راو - هيت" في القسم الداخلي. فيتوارى المنزل خلف غبار الرحيل, بينما عربة الجياد تنهب بها الأرض إلى العاصمة لندن.
وتكتشف الفتاة ما لم يكن في الحسبان بين صفوف طالبات أرستقراطيات, قابلنها بالسخرية, يهزأن من لكنتها الريفية, وملابسها الفضفاضة, ينصحنها بكي شعرها المسترسل, ليميزنها عن عجوز فاتها قطار الموضة..حصدت شارلوت أعلى الدرجات, يتصدر اسمها لائحة الشرف. لتعود بعد نهاية الشوط تحمل في جعبتها ما حمله كريستوفر كولمبوس من مجاهل الأرض.
إلى شاعر البلاط البريطاني أرسلت نماذج من قصائدها فلنقرأ ما بادرها من رد: "أجدى للمرأة أن تقود ثورة, من أن تخوض معترك الشعر النابض في قريحتنا وحدنا نحن الرجال.. حبذا لو تنكب ي يا عزيزتي على حياكة ثوب حريري.. وما أدق أناملك في إبرة التطريز!".
تهالكت شارلوت على أقرب كرسي تناجي نفسها: "لن أهجرك أيها القلم قبل أن تفارقني الروح.. ولتكن أسماء الذكور قناعا نموه به قرطاسنا"... جمعت الأخوات برونتي باكورة إبداعهن في ديوان ثلاثي صدر مذيلا تحت أسماء "بيل - جون - كوير" في غفلة عن والدهن, أما الشقيق باتريك فلم يخف تهكمه: "يا لذاك الشعر المخنث الذي وصمتن به الرجال" وإذ عاجله الموت متأثرا بداء السل, عصف حزن وعم حداد!.
الضائقة المادية شدت الفتيات ليعملن مربيات أطفال بكنف أسر ثرية, وما صادفنه في قصور الأسياد من نظرات الازدراء, وسوء المعاملة أجج أقلامهن. فهاجت الأفكار وماجت الذكريات ينقلن معاناة واقعية في ثالوث روائي خالد.
بزغت عبقرية إميلي في "مرتفعات ويذرنغ", ونبوغ شارلوت في "جين إير", ,أبدت "آن" موهبة لا تقل عن شقيقتيها في رواية "أغنيس غراي".
بصمات الأخوات برونتي كانت تراثا أدبيا قفز إلى لائحة العالمية منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر, ومرتبته لم تهبط حتى يومنا هذا..
الوباء الفتاك لم يستمهل "إميلي وآن" ريثما تحصدان بركة مواسم روايتهما, فأسلمتا الروح, لا يفصل بين منيتهما سوى أشهر معدودة. ويشاء للأب أن يشهد موت أبنائه جميعا , بعد أن وقعت شارلوت تصارع مصيرها المحتوم.
فوق فراش الألم تناهى إلى سمعها قرع على الباب. وعلى عبارة ساعي البريد استعادت صحوتها وهو يخاطب السيد برونتي: "عم صباحا يا سيدي.. بحوزتي رسالة تخص أولادك الذكور "توم - بيل - وكير", بشأن جائزة مالية تقديرا لديوان صدر بأسمائهم قبل سنوات" وينهره الأب بفظاظة لخطأ في العنوان. وتلتقط شارلوت ما تبقى لها من أنفاس - "استمهله يا أبت .. دعني أكلمه لأقول له أن يهرع إلى شاعر البلاط, محملا بوسام الأخوات برونتي.. وتستحضر شارلوت ذكرى شقيقها باتريك, مرددة عبارته "يا لذاك الشعر المخنث حين وصمتن به الرجال!"... وترتعش الكلمات على شفتي السيد برونتي الذي يجهل ما أقدمت عليه بناته ذات يوم.. "رباه.. لتكن مشيئتك"
مبدعة "جين إير" تهذي بعبارات لا مبرر لها.. ترى هل فاضت ملكة العقل قبل تسليم الروح"!




الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

ملاحظة: كلمة فك الضغط tipsclub
رابط غير شغال ~ مشكلتكم
توقيع :  أحمد بدر
أحمد بدر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس