عرض مشاركة واحدة
قديم 16/06/2007, 04:04 PM   #114
إيناس الطاهر
روح المـطر
 
الصورة الرمزية إيناس الطاهر
افتراضي

الغيبوبة - تابِع


كانت الأمور في أحسن أحوالها ، وبدأ فنار يراقب الراكبين ، عجوزان بدا وكأنهما يمنحان نفسيهما راحة بعد عناء عمر طويل ، فتاة منذ إقلاع الطائرة وهي تضع السماعات في أذنيها ، زوجين الرجل نائم والمرأة تداعب طفلها الصغير ، وللأمام قليلاً والدا جوزيف نائمان بينما الأخت تنظر في المحيطين بملامح جامدة
أغمض عينيه ليظفر بلحظات راحة ، فبعد وصوله تنتظره لحظات حافلة ،

زلزال حرّك الطائرة كعصفور صغير وبدا الاضطراب واضح على كلّ من في الطائرة ، صراخ يعلو تتبعه محاولةٌ لاستدراك الوضع من طاقم الطائرة ، لكن المحاولة تبوء بالفشل ، حيث ينفجر الجزء الخلفي للطائرة ، وتتطاير الأجساد كأوراق اللعب الخفيفة ، حينها تسارع الجميع لاستخدام جهاز التنفس ، ثوانٍ فقط ، قبل أن يحل الظلام في وجه جميع الركّاب

فتح عينيه على ظلمةٍ قبل أن يدرك حجم الألم في عظامه ، لحظات وبدأت الظلمة تخف حتى بدا وكأنه في مكان لا سماء فيه ، شعر وكأنه ما يزال يحلم ، لكن اللحظات صارت تمرّ في ذهنه تباعاً ، لقد كان في طائرة ركّاب متوجهاً إلى النصف الآخر للأرض حيث سيحضر مؤتمراً في التركيب النفسي والعقلي للإنسانية ، نعم ، كانت هنالك محاضرة سيلقيها هو في المعالم التركيبية لنزاع الخير والشرّ في الذات الإنسانية وهل هي مكتسبة أم متأصلة في البدن

يتذكر ذلك جيداً ، ويتذكر عائلته ، زوجته أستاذة الفيزياء ، والتي لم يتفق يوماً معها في فكرة من أفكاره وكانت تنعته بالمجنون الأخرق ، بل ويذكر أنهما اتفقا على الانفصال حال عودته من المؤتمر ، ولاحت في ذهنه صورة ولده ، ابن الرابعة ، لقد تأخر حتى تزوج ، وها هو يرزق بابن على كبر

حرّك رأسه متفادياً أفكاره في محاولة لسحق ذلك الظلام ، لحظات من الدهشة انسابت من فمه المفتوح وهو يرى عينيّ ماء تخرجُان من الأرض أمامه ، مدّ يده ولمسهما ، واحدٌ حارٌ يغلي ، والآخر باردٌ زلال ، أين هو بالضبط ؟؟؟

حدّق بالمكان لم تعلو جسده سماء زرقاء ولا سوداء ، بل مجموعةً من الصخور ، ماء وصخور وظلام ، أين هو ؟؟ ينهض جاهداً رغم شعوره بألم في ساقه اليمين وانحناء في كتفه الأيسر إلا أنه جاهد نفسه ، وبدأ يسير على تأوده في أنحاء ذلك المكان المظلم ، حتى وصل لمنطقة تنبثق منها أشعة نور بعيدة نوعاً ما ، حاول الجري نحو النور بكل ما أوتي من جهد ، وحين وصل لبوابة النور ، وجد مساحة ممتدة تنتهي بعد عشرات الأمتار أمامه ، استمرّ بالمشي خارج حدود الكهف حتى وصل لحافة تلك الأمتار فلا يرى إلا وادٍ سحيق تعلوه سماء زرقاء ، وادٍ ممتد للأسفل لا يعرف المرء ما نهايته وأفق متسع ، نظر للظلمة خلفه ، وللنور أمامه ، ليدرك أنه في كهفٍ مظلم ، كيف وصل له ؟؟ بدأ يتذكر حادث الطائرة واللحظات الأخيرة فيه ، ولكن كيف وصل لهذا العمق من الكهف ؟؟ مهما كانت قوّة الدفع بعد تحطم الطائرة فإن وصوله لهذا العمق غريب ، ثم أين هو حطام الطائرة تلك ؟؟ لا بد وأنه في الوادي ؟؟ ولكن إن نجا هو فلا بدّ وأن يكون هنالك غيره من الناجين ، ثم من يدري ربما تكون هنالك فتحة أخرى في مكان ما من هذا الكهف المظلم ؟؟ بدأ ينادي بصوت مرتفع ومتعب في ذات الوقت علّ هنالك من يسمع صدى صوته ، دون فائدة ، أقبل على عين الماء البارد يرتشف منه ويطفئ ظمأه ، كان عذباً لذيذاً ، والآن هو يشعر بالجوع ، بحث في أرجاء الكهف عمّا يلبي للمعدة نداءها وبعد طول بحث عثر على مساحةٍ واسعة مملوءة بالفطر ، حدّق بها ملياً وابتسم ، حتى رحيله سيحيا على الفطر والماء ، ولكن سبحان الله لا يترك عباده ولا ينساهم

قطف بعض الفطر وغسله بالماء وتناوله نيّا كما هو ، وحين لم يستطع أن يستسغ طعمه استلقى على ظهره وفكّر
" إلى أيّ حدٍّ يمكن أن يخلو الكهف من الأفاعي والعقارب والزواحف السامة ؟؟ ثمّ انتقل تفكيره لمرحلة أخرى ، ترى هل كيان الإنسان المستقل الذي لا يشاركه أمثاله الحياة الاجتماعية أمرٌ طبيعيّ ؟؟ إلى أي حدّ يمكن للانسان أن يكتفي بنفسه دون أن يختلط بالمحيط الخارجي ؟؟ وما مدى الاستقلال الذي يحققه وجود فرد دون جماعة ؟؟ وهل وحيد الوجود مستقلّ بذاته ام عبد وحدته ؟؟ وذلك الظلام حوله هل هو ظلمة الكهف أم سواد روحه وسوداوية نظرته ؟؟ لقد آمن أنّ الطهر المسكون بالقلوب المؤمنة قادر على إنارة الحياة ، لحتى يستغني الأعمى عن نعمة البصر بوجود فضيلة البصيرة ، فإلى أي حدّ يمكنه أن يصف نفسه بالفاضل وبصره عاجزٌ عن تكوين دارة من النور المستمدّ من إيمانه وطهره ؟؟! ، بدا متشككاً من إنسانيته ، وتذكر جملته لجوزيف ( الأسود من ألوان الحزن لا الفرح ، لذا يليق به ألا يُطعّم بالسكر ، ذاك هو الوضع الطبيعي ) ، نعم ولكن صار السواد في حالته تلك نقمة وفيض ذنب ، ثم استيقظ من فكره ، جوزيف ، هل يمكن أن يكون قد مات ؟؟ يا الله كان يلمح ذكاء يشتعل في عينيّ الصبي ، حدّق بالمحيط حوله وأغمض عينيه واستسلم للنوم
توقيع :  إيناس الطاهر

 

إيناس الطاهر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس