عرض مشاركة واحدة
قديم 11/08/2008, 05:38 PM   #3
أحمد بدر
شـاعـر
 
الصورة الرمزية أحمد بدر
افتراضي

وفي اليوم التالي.
استيقظت الأوركيدة وهي تشعر بتعب شديد
انتبهت لوريقاتها فذهلت لما رأت
إذ بدأ يشوب نقاء لونها الأبيض بعض صفرة - لم تعلم علامَ هي
فبمجرّد أن تفتحت اوركيدتنا - التفتت مباشرة نحو الصبار
وهو كما هو ما زال على نفس وجومه وسكوته

راحت تناجيه:



فـي صـمتِكَ. أسرار الأمطار !!
يا صبركَ. كم تقـوى الإسرارْ !!
أُدنُ ُ ُ..
وشـوشــني كـالــمحَّارْ
قـُلها..
قلِّدني تاجَ الغارْ
ذُقْني.. وتَحَــسّسْ طــعمَ الــنَّارْ
.
.
عانــقني أحتاجُكَ فيهــا
الدُّنيا أنــتَ بمَن فيهـا
أنتَ الأفرَاحُ بخطِّ الرّاحْ
أنتَ الإصباحْ
وأنا.. بحرٌ مـــلَّ السُكنى
رَكَدٌ.. ما اهتزَّ بـمجـدافٍ
ما دغدغني صـوتٌ دافٍ
أشـتاقُ غِـناءَ فـــقاقيعي
لاعِبـني يـا كــفَّ الملاّحْ



هوت الأوركيدة بحب من طرف واحد - هذا الذي يكون بثقل الجبل وقسوة الصفا الصّماء هذا الطريق الذي فيه ألف مفترق - معلوم البداية وليس له من نهاية - قبلت بحالها ولم تتأفف - ولم تلعن ساعة لقياه - بل بدأت تجود له بكل ما تمتلك, حيث الحب هو أن تتنازل بكل ما هو ثمين وعزيز لمن تحب وأنت تشعر بسعادة غامرة لفعلتك تلك, لمَّا تفقد عزيزًا من أجل أن يُسعد به من هو أعز منه - تلك هي التضحية - فسعادة الحبيب منتهى آمال المحبين وغاية حاجات العاشقين

أمسكت.. وهي تنتظر الصباح - لتسافر نحوه عبر نسماته
الفاتنة كما تعودت فأدمنت - فكانت تتأمل ذلك الأفق البعيد وتقول:
متى تشقشق يا نور الفجر, فتحين ساعة أللقاء
أراكَ تأخرتَ كثيرًا.. أكل يوم تتأخر هكذا ؟

مسكينة الأوركيدة - تحرق دقائقها بل تحرق عمرها لشوق لقياه – بدا الوقت ثقيلا يجرجر نفسه بصعوبة.. كما لو كان يسح بذيله الجبال, بدأ صبرها ينفد, يتفلَّت من قبضتها, وهي ما برحت تتلفت نحو مشرق الشمس تارة - وتعود بنظرتها نحو حبيبها الذي لم يشعر بها للآن تارات.

حينما تنظر نحوه تجده كما هو صامت
تطيل به النظر - وكأنها لم تشبع بعد من رمقه
ثم تشتاق لقربه فتتذكر الشمس – لتلتفت نحو المشرق – عل الشمس باشرت الشروق.

تأخر الفجر كثيرًا - والدقائق تمرّ صعبة على الأوركيدة

وهنا - بان أول خيط أبيض - اختلط بسواد الأفق البعيد معلنا عن وصول الفجر.
بدأت الأشباح التي كانت ترى قبل قليل وفي حلكة الليل
على أشكالها الحقيقية وبدأ كل شيء يستمد حركته ويستعيد روحه - وكأنما كان ميتا فدبت به الحياة من جديد, الطيور ترفرف هنا وهناك, وبدأت عاملات النحل تَلِجُ أمتاك الزهور
ونسمات الصبح ما أقبلت كما كان موعدها من كل يوم
بدأت الأوركيدة تشعر بالمرارة,
وتسأل نفسها ترى أين النسمات التي كانت تحملني صوب حبيبي ؟ لمَ لم تأتي بعد,
وبدأت تتصادم هواجسها في ما بينها, هاجس يقول هي لن تقبل اليوم,
وآخر يقول لا بل سوف تهب عن قريب
وجسد الأوركيدة يزداد وهنا وضمورا,
وبدا من التعب واصفرار اللون ما يعلن عن نذير الشؤم ويطرق ناقوس الخطر.

لم تعلم الأوركيدة المسكينة أن الصفار ألذي اعتلاها
هو نذير الموت وقرب الأجل وأوان ساعة الرحيل, و إلا لكانت تفكر بطريقة مختلفة, لكن حبها للصبار زرع داخلها رغبة جامحة للحياة, فلم تتخيل أن سيقبل يوم من الأيام فترحل عنه دونما أن تنال منه القرب وتشاركه الحياة المتفاعلة بروحين وجسدين قريبين من بعضهما.

خذني إليك
ضمني نحوك
لأوهبك عبيري وأفيض عليك بما ادخرته لكَ من جمال
خذ مني الذي كنت أجد به نفسي
واليوم أجدني أسعد لو ما وهبتك إياه
خذ منّي الروح
وإن شئت الجسد
أنفاسي التي تتشوق
إحساسي الذي يتدفق
آهاتي التي تتمزق
هل سيطول سكوتك كثيرًا ؟
ترى هل تشعر بما أكنه إليك ؟
هل تقرأه بكتاب قسماتي المفتوح
لا عليكَ
حتى لو لم تشعره, كفى أنني أحببتك
أتعلم: بدأت أخاف عليه من هذه الهواجس التي تعتريني فوددت لو كنتَ عنها بعيد – ولكن, ثمة حاجة لقربك - أشعِرُك خلالها أن هنالك من يخاف عليك ويحبك ويتفتت لشوق عناقك
علّ في ذلك سعادتك – فجميل هو أن نجد من يهتم بنا
فيشعرنا أننا لسنا لوحدنا نسكّعُ على أبواب الانتماء نستجدي عطفا - نتوسّلُ لطفاً


دخل الصباح - والنسمات ما دخلت بعد
والأوركيدة تطحن الشَّوان, حتى استسلمت للنوم وهي في مرارة ما بعدها مرارة
غفت على ألم وتنهدت ألف حسرة قبل أن ترقد
وصحت وهي تجد اصفرارها وقد بدأ يلتهم أغلب مساحات نقائها الناصع – وبدأت بعض تجاعيد هنا وهناك تشوه صفاء وريقاتها الحريرية - وهي لا تعي ما الأمر,
صحت - وفيها من الوهن ما يجعلها لا تقوى على الحراك
وما زاد حيرتها وحزنها - غياب النسمات –
فبدونهن لا تستطيع الوصول لجسد الصبار

راحت تفكر
فشهقت بفرحة - وخيمت على محيّاها ابتسامة داهمت شفتيها ألمثقلتين بالحزن والوهن
تذكرت أن اليوم هو موعد وصول ألجنائني - فلطالما عود الأزهار أن يزورها في مثل هكذا يوم من كل أسبوع - وذلك من أجل أن يسقي الحديقة ويعتني بالأزهار من تقليم أغصان شعثاء ومكافحة بعض الآفات المستشرية
قالت:
حينما يبدأ ألجنائني بالرّش سأحتوي بوريقاتي أكبر كمٍّ من رذاذ الماء فيميل ثقله بي نحو حبيبي.
يا لها من فكرة !!
هي جربتها من قبل - عندما كانت تلعب وتمرح سابقا
راحت تبصر للصبار بعينين بانت عليهما آثار التعب والوهن وفيهما من الأمل والحب ما يكسِّر كل صخور اليأس ويقتلع كل آثار الوهن والضعف وهي تقول:
لا بأس عليك سأعانقك اليوم.

ابتهجت حيث رأت ألجنائني قادم مع ولده الصغير
وبدأا بنصب رشاشات المياه هنا وهناك وهي تنتظر أن يفرغا من عملهما بفارغ الصبر, بدأت رشاشات المياه تنثر رذاذها بكلّ أرجاء الحديقة, وبدت البهجة على وجوه كل أجناس الزهور
المختلفة حيث خيم جو من الطبيعة والمياه ما تظمأ له الأعين وتشتاق لمثله الأنفس.
باشرت الأوركيدة بخطتها التي قررت - وراحت تحتوي بين وريقاتها الصغيرة المتعبة رذاذ المياه المتطاير, وبالفعل بدأ عودها النحيل يترنح مائلا هنا معتدلا هناك وهي تحاول جاهدة أن تكرس جلّ ميلانها للخلف حيث وجود الصبار.
أقترب أبن ألجنائني منها وجلس يتطلع بها - فإذا به يصيح –
أبي – من فضلك تعال إلى هنا,
هرع ألجنائني حيث مكان ولده سائلا: ما الأمر يا بني
قال الابن:
ما هذه النبتة ؟
رد الأب:
ألم تسمع يا بني بالمثل الذي يقول
((من أجل الزهر يسقى العليق))
وهوت مسحاته على الصبار فحزه من ساقه ورمى به للبعيد

يا لنوائب الأيام - التي ما انفكت تلطم براحها الوجوه وتعمي العيون - وتدمي القلوب – لتتحول الفرحة نكسة والكلمة سكتة ..

لم تحرك الأوركيدة أي ساكن - سوى أنها ألقت برذاذها الذي جمعت لتعود مكانها الطبيعي وبدون أي حركة تذكر أو أي كلمة تنثر.
ما سرحت الدموع - ما أنَّتْ وما استوعبت المصيبة بعد
ولم تدر إن كانت تعيش كابوسا مريعا أو أنها تعيش واقعا مريرا
تسمَّرت عيناها بأثر ساق للصبار صغير - يبرز من طبقة التربة والصبار ليس مكانه – فمكانه خاليا
أين الصبار ؟
ما الذي حدث ؟
وبعد سويعات
انفجرت الأوركيدة المنكوبة بعويل يدمي القلوب
عويل خافت - من هول الحدث وقسوته
أخيرًا شعرت بما حدث
وها هي دمعاتها تتسابق
سهرت ليلتها بين دمعة ونشيج – ثم تمسك – فتقول:
يا إلهي – لولا جعلته حلم أفيق منه فأجد حبيبي ما زال قربي
تتمنى المسكينة
هيهات للأماني - إن حل القدر فلا راد له
ثم تعود تتفهم أنها الحقيقة ولا غيرها فتنحب من جديد
ظهر القمر كاملا – وراح ضياؤه يقتحم الزوايا ويكشف المستور من أروقة الظلام – وبدا عرق الصبار تحت بصيص القمر بائن قبالة الأوركيدة,
أدركت الأوركيدة أن ذلك الأثر ألذي لا يكاد يبين - سينمو مجددا
وسيعود صبارًا كما كان من ذي قبل – سيعود حبيبها بعد سفرته المفاجئة - وهنا
راحت تكلمه وهي تكفكف دمعتها وتحاول السيطرة على تراتيل صوتها المبحوح:
سأنتظرك – خذ كل وقتك..

سلخت الليل قرب أثره – كما المنكوب ألذي يفترش قبر عزيز له - حتى إذا ما دخل الفجر – وهبَّت نسائمه راحت تدفعها نحو مكان خال تجوب به ولا وجود لمن كان هنا قبل ساعات وهو يملأ عليها حياتها
أغمضت على أمل الانتظار
وهي لا تعي أنها ترقد رقدتها الأخيرة













Thorn field
18/2/07
توقيع :  أحمد بدر
أحمد بدر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس