عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 01:57 AM   #8
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(28)

كنت لا أشتبه بعد إغلاق العصارة في سفر عصام إلي القاهرة خلال شهر ٍ أو أقلّ ، ولكن .. قد انحسر الشهرُ ، فجأة ، عن عصام ، تاجراً للخضار بطريقة غامضة ، أو لا أفهمها ، وامتلك أيضاً بطريقة لا أفهمها عربة كارو وحماراً ، وهجول صوته كالثور في أزقة الدومة ، والبطحة ، والحوش ، ونجع عمران ، ونجع الزعرة .
اهتدي أيضاً إلي البعد الثالث للربح ، فتظاهر بالدخول إلي أروقة ذلك الدين الشعبيِّ الممتلئ ، أو الصوفية ، فأرسل لحيته الخفيفة ، وحفظ بيتاً من الشعر أفسح له مكاناً غير محدود في قلب كلامه تماماً .
فليت الذي بيني وبينك عامرٌ : وبيني وبين العالمين خرابو !
لقد أدرك بفطرته أن التجارة لابد لها من سند وافر يرمم رواجها ، ويتمدد في مساحات ثقة الآخرين لوقت الحاجة ، درعاً يحول دون كسادها ، وليس هناك سند أتمُّ امتلاءاً وضمانة ً وجهوزية ً ، أيسر من العزف علي أوتار القطيع الروحية ، حيلة ٌ سحيقة ٌ ، وحقيقةٌ لا تصعد إليها الريبة .
وللحق أقول ، أن تحوّله الأخير كان عرضاً حديثاً لجوهر قديم ، فلقد كان حديثه ، بطول العناق الصحيِّ ، ينطوي علي الكثير من الاحترام لصوت الشيخ ياسين التهامي .
ولقد انخرط في صباه متدرباً علي الدقِّ علي الرقِّ ، والعزف علي الناي ، بفرقةٍ نعرفها بفرقة الشيخ سعد الإنشادية .
وربما كان لقب " الزمرتي " الذي كان يرجمه به الذين يشتمونه أحياناً ، هو ذكري لتلك الفترة من حياته .
لكنهم عندما تزداد حدة غضبهم منه ، كانوا يقولون " يا ابن الزمرتي " .
هكذا الدوميون ، يحاولون أن يجعلوا علي الدوام لمواطن السبِّ جذوراً عائلية ، ليمطروا في أوجاع المعنيِّ أكثر ، هذه الجذور تجعل السباب أحياناً لا يطال المعنيِّ به تماماً .
تشاجر أبي مرة مع مأذون الدومة ، فلم ينج الإمام أبو حنيفة من أطراف الكلمات الحادة .
لا لشئٍّ سوي أن المأذون يردد كثيراً في عمله ، عبارة " علي مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان" ! .
بارك اللهُ الدومة ..

(29)

لقد روي أبي لنا نسب الجبل بغابة من المواقف المتعاقبة ، بطول الشموخ الصحيِّ ، وعرض التواضع الأخاذ ، وكنت شاهداً يمتدُّ من الطفولة حتي تحية المنعطف الأخير لأبي المرحوم ، علي العديد من المواقف الساقطة ، وأبي المنتصر ، والواقف خارج ذاته تماماً ، ولقد احتفظ بسطحه اللائق حتي النهاية غير اللائقة ، وحتي أنه مارس علينا خداعاً منظماً ، ومنتظماً ، جعلنا نضع مرضه في الزاوية اللا محدودة ، واللامعتني بها تماماً ، ومارس ألمه السرِّي بين سواحله الخاصة .
كنا نجلس ، ذات ليلة ، حول موقدنا العائليِّ المصغر ، ولقد اكتشفنا عقب موته أنه موقدنا العائليِّ الكلِّي علي أية حال ، كان قد مضي أسبوعان علي توقيع الطبيب حجره الذي انهار له فيما بعد جبل بعيد ، انتبهت إليه يتنفس كحيوان ضاق به المكان ، لقد تسرب اللون من وجهه تماماً ، فانتهك القلق زرقة قلبي الركيكة ، ونشط ظنٌّ مستدير بأنها طلائع النهاية .
- مالك يبايا ؟
أجابني الأبد المسور حول صمته ، تضاعف قلقي ، غير أنني ، بفعل إضافيٍّ ، تمكنت مع سبق الإصرار من تخفيضه لبعض الوقت ، ربما بدقة أكثر ، تمكنت من توجيهه قسراً ، وجهة أخري ، أو هكذا ظننت ، الصيدلية ، وبعض المشاكل التي تواصل سياجها حولها بإيقاع ركيك ، احتد فيما بعد حتي لا يخشي ضغط الزمن ، وكأنه بلا قيمة ، أصبح بانهيارها تماماً بلا قيمة . كنت علي يقين بأن الانحراف الخطير في عادات بيتنا ، سوف يزيده وعياً بعتمة لقبر المؤجل ، فيضخم من انزعاجاته الداخلية بشكل مروع ، واندفاعاً خلف ذلك اليقين ، تبنَّيت تواطئاً بين قلوب موقدنا الكلِّي المفعمة ، جدتي ، وأمي ، وأشقائي ، علي أن تظلَّ طقوس حياتنا كما هي دون تغيير ، وتظلّ آثامنا الصغيرة ، وغير المشروعة ، تجلجل حول جوف البيت ، لكن بتصرفات هابطة ، وهذا يعني أن نتابع عتاب الأفيون ، ونتابع أيضاً ، جلبه له بالقدر اللازم لتفريغ شهيته له وأكثر ، ووضع العواقب في النطاق الأعمي ، واللا معتني به .
إنَّ سطح خيمة أصبح ، بالنسبة للعراة ، في قلب الريح ، وكل الدروب لا تصل ، جعلنا في تلك الأيام ، لا نتكاتف فقط علي لاستهانة بأي خسارة ، وكل خسارة ، بل جعنا نتكاتف علي مطاردة الخسائر في إيقاع جماعيٍّ شديد الذعر .
كانت حالتنا في ذلك الوقت ، تعبيراً حقيقياً بشكل متزمت ، عن قراءتي السابقة لقصة روسية تقترح ، أن سرباً من النمل كان يسير علي طرف عصا جافة ، وأمسكت العصا بالنار فجأة ، وحاول النمل الخلاص ، وترهلت النار سريعاً ، وأدرك النمل استحالة الخلاص ، فاستدار السرب في نفس الوقت ، واتجه نحو مركز النار .
لابد من الدوران مع العجلة .
وإذا خسرنا كلَّ شئ ، فيوم له ما بعده .
رأيت أبي يحاول النهوض مستعيناً بكتف أخي "عبد الوهاب" ، ترنح ثم استعاد توازنه ، دمه الشحيح ، فمه الذي يتصيد الهواء ، وانتصب ، نهضنا جميعاً :
- رايح وين ؟
- الحمام !
استعرضنا جميعاً جميع ألوان المساعدة ، ورفض ، ونشطت التي لابدَّ لها أن تنشط في مثل هذه الظروف ، يا رحيمة ، وضعت ذراعه حول كتفيها ، تحرس توازنه ، وتعينه علي الطريق ، وتتبعنا الموكب الخالد ، خطواته القصيرة ، آه يا أبي ، ظننتك تخبئ جسداً بديلاً في جيب جسدك ، تركته أمي في الحمام ، وارتدَّت إلي سياجنا القلق حول خيمتنا :
- متكوكرين كده ليه ؟ ، روحوا عند النار !
لقد درجت أمي علي اعتباره قامة هائلة ، فلا تريد أن تتحول في عيوننا إلي شكوك ، ربما ،أو ربما ، فطنت إلي أنه يحتجز صراخه تكريماً لقلق كوافيله الماضية ، انفض قلقنا العاري من حول خيمتنا ، ولكن عبد الوهاب سمَّرَ عراءه بالقرب منه قليلاً ، دهمنا بعد قليل : - عيصرخ بصوط مكتوم !
أعاق الألم ذهني أن يعمل ، ولكن انطباعات السلوي وجدت التعبير عنها عي استحياء في استدعاء التجارب السابقة ، المشابهة ، في مثل هذه الظروف يكون الذهاب بالمريض إلي الطبيب هو البروتوكول الطليعيّ ، واشتعلت عزائمنا فجأة ، وأرسلنا " بهاء " لاستدعاء سيارة الحاج " الأمير " ، ولكن ، قبل أن تطرد " بهاء " عتبة بيتنا المتواصلة ، أطلَّ ، فجأة ، وجهه ، لقد تحلل تعبير الألم إلي ارتياح ، رجع " بهاء " مسحوباً بخيوط نداءاتنا ، وبادر هو " عبدالوهاب " قائلاً :
- قبَّضت الأنفار يا عبدلوهاب ؟
كأنَّ شيئاً لم يكن .
انكسرت حدة قلقي ، وتحرر ذهني من العتمة ، وفتح أزراره العلوية ، فتدفق شلال من النور الفاشل ، فتنبه متأخراً إلي إشارات أمي الخافتة ، سبقتها إلي حيز لا يخون الهامسين ، فهمس لي قلقها عن مذبحة في الحمام ، وسبقتني إليه ، وهناك ، رأيت ما دفعني إلي الرثاء لأبي ، وللشاعر القديم امرئ القيس متضمناً فيه ، فلو أنها نفسٌ تموت سوية ً ، ولكنها نفسٌ تساقط أنفسا ، ما دعني إلي أمنية بموته الفوريِّ ، ليمرَّ شبهاً بشرياً تحت قوس هزيمته المنكرة ، بعيداً عن رقابة عدوه الذي لا يقهر ، قطع ممتلئة ، مختلفة النسق ، من اللحم الكريه الرائحة ، أشبه بشرائح الكبد الحيوانيِّ ، تتناثر في كل مكان ، أذهلني اتساع مجري البول الضيق لخروج الأكثر من مجرد قطعة منها ، ووجدت التعبير عن تفسير في دموع أمي المنسابة من زرقة قلبها الحميمة ، وهي تجلدني بهمسها المذعور ، لقد كان يجذب بإصبعيه أطراف الشرائح العاجزة عن المرور ، تصاعد قلق من جديد ، الألم الضاج أيضاً ، وبرغم دراستي التي تدور الكثير من منعطفاتها حول السرطان ، وقراءاتي الحرة ، والكثيرة ، عنه أيضاً ، لم أقترف تعريفاً لبشاعته المملئة ، قبل تلك الحدآت الزمنية ، وعلي ضوء المذبحة . ولكنَّ انطباعات التهوين بدأت تتناسل في ألمي سريعاً ، وهل فوق رجل مات ؟ ، ظل الألم باقياً ، ولكنه أصبح خافتاً ، يمكن معايشته ، والألم حالة ذهنية إلي حد بعيد ، وربما إلي مدي أبعد حالة الإيمان به .

(30)


أن يقتني بيتٌ في الدومة جاموسة ، أمرٌ لا ينطوي علي شئ من الغرابة ، أو استحقاق للفخر ، ويتم غالباً دون أن ينبه الآخرين ، ولكن أن يقتني عصام جاموسة ، فحتماً سوف تعرف الدومة كلها بأمر هذا الاقتناء ، هو لا يستطيع أن يكتم فرحته ، وزهوه ، بجاموسته التي شاركته حمل أعباء المعيشة ، وملأت بيته لبناً وسمناً وجبناً وقوشة ، وبفعل إضافيٍّ ، نقوداً أيضاً ، كانوا يبيعون الكثير من عطائها كلَّ أسبوع في المدينة .
لم يتسع عصام لثرائه المفاجئ علي أية حال ، وكان أسلوبه للعمل بسيطاً ، وجد التعبير عنه في الدوران حول مجتمعات الدوميين في المقاهي ، والجالسين يثرثرون أمام البيوت ، والجالسين يأكلون أمام البيوت ، والنائمين أمام البيوت ، والأطفال ، يبدأ انخراطه عادة في ثرثرتهم بسلام حار يعرفونه عنه ، يشاركهم حمل سماع الكلام المعاد حتي يفسحوا له لحظة من الصمت ، فيستميت هو علي الإمساك بأطرافها بكل ما يعنُّ له ، ثم .. يملأ ، فجأة ، حنجرته بصوتٍ يراعي أن يثقب آذان الحاضرين جميعاً ، ويصرخ :
- الجموسة مطبخ البيت !
يضحك العارفون به بشدة ، ويشاركهم الضحكات دون أن يسمح لفرصة الكلام المتاح بالذوبان قبل أن يدور بالباقين في شوارع غير مأهولة إلا بفوائد السمن ، أو مسمار الجسم حسب تعريفه ، وأزقة غامضة بلون الجبن ، أو إفطار الملوك ، ودروب تتثاءب إلا عن اللبن ، أو طعام أهل الجنة ، حتي يعلنهم بأمر جاموسته الجديدة ، ثم السلام عليكم .
وهو يعرف ، ونحن نعرف ، أن أفكاره السابقة عن منتجات الألبان لم تكن هكذا ، بل كان خلال عجزه عن شراء جاموسة ، يتهم اللبن بتحريض الأزمة الربوية ، والسمن والجبن بتحريض الخواء والقئ ، ويروج لغباء الذين يقتنون البهائم ، ويتكفلونها ، وحجته قوية ، ما معني اقتناء مسئوليتها ، ما دام اللبن يباع علي الأرصفة .
إن لعصام أحوال !
كان من الواضح في الأيام التي سبقت السقوط المدوي ، والأخير لعصام ، أنه حلَّ تمائم فقره تماماً ، وسطعت أضواء الاكتفاء الأولي علي وجهه ، الاكتفاء بحماية مفهوم الاكتفاء في الدومة طبعاً ، وازداد بمغادرة الفقر وعياً بإحساس الجرئ أيضاً .
انحرف يوماً من مركز البطحة إلي طرف منعزل من أطرافها ، يشتهر المقيمون به باللدد في الخصومة ، واحتفاظ نواياهم بتقليد جماعي لا يطاله التحريف فيما يطال من الثوابت المسنة ، إنه الولع الوافر بشراء الأرض ، وتنكمش بعد هذا كل الرغبات إلي أبسطها ، وأعقدها بدائية ، وتخيل العثور علي غنيمة في الظلال الصلبة ، ربما بدقة أكثر ، أغرته الحصرية ، فما من تاجر لأي تجارة سوي الأرض ، يتوقف هناك طويلاً ، ألقي السلام علي أطراف الحاضرين المدببة ، ثم وجه حنجرته نحو نوافذ البيوت الطينية ، ونادي :
- الشمام البلدي ، الشمام البلدي !
وخذله الصمت المفاجئ ، وتنبه متأخراً إلي أنه كأنه تسلل إلي مقبرة ، وأحاطه الكساد بالتوترات ، فداعب لحيته النابتة قليلاً ، وتناسي أفكاره السابقة عن تهوراتهم الشهيرة ، ووجه حنجرته نحو الجالسين وصاح في غضب حقيقيٍّ :
- صوطي اتنبح ، وانا عنقول الشمام البلدي الشمام البلدي ، ومحدش قال وينك ، والله لو قلت الفدان "البلدي" لجيتوا طايرين ، حسبي الله ونعم الوكيل فيكم !
ضحك أخواله ، وقدموا غضبه علفاً للرياح ، وضم الدوميون ، "الفدان البلدي" ، إلي الكثير من مخلفاته المثيرة .


(31)


ازداد السيد ألم خشونة تدريجياً ، حتي امتلأ فجأة ، ذات ليلة غامضة القويم ، ولكنها مفعمة بالأحداث تماماً .
أتذكر بوضوح أكثر مما ينبغي ، أنني كنت أشاهد برنامج "ستار أكاديمي" علي قناة إل بي سي اللبنانية ، في بث متأخر من الليل حتي أنه مبكر من النهار ، وكنت ، قبل أن يصبح الضحك بالنسبة للأنا المؤجل ترفاً ، أضحك بتصرفات مرتفعة ، كان ضحكي تعبيراً عن تصرفات متسابق من الإمارات العربية يسمي "خليفة" – ورحيق الحنظل- ، لقد توقف ذلك العربيُّ فوق جذور الجنون ، عندما علم بأمر زيارة السيدة هيفاء وهبي إلي الأكاديمية ، جزيرة من العطر لا شك ، ولكنه العطر المتاح ، ولأنه متاح فهو تافه ، لا يحرك أحاسيس الخواص ، ولكنه يجد التعبير عن شهرته داخل تقدير الكثيرين .. الكثيرين جداً من الجائعين ، من الماء إلي الماء .
كان خليفة – ورحيق الحنظل- ، يفكر في كل ما يفكر فيه علي ضوء زيارة هيفاء ، فهرول إلي الحمام ليستحم ، وكانت كلمات المتسابق اللبنانيِّ لهيفاء سهلة ، ورائجة ، وهو يقول لها ساخراً ، في تقييم صائب لعطرها قريب القاع :
- خليفة لما عرف إنك هون ، راح يتحمم !
مقاربة من تليفزيون الواقع ، تفسر ببساطة ، الفارق الرحب بين المتوقفين علي ساحل الثقافة الراكد ، والراقد ، بين الوتد ، وسطح الخيمة ، وريح الشمال ، وحنين النوق ، ووجه شيخ القبيلة أمام نوافذ العقول ، يحجب الجبال البعيدة ، وبين المفتوحين أمام الثقافة المشرعة علي النبع الكوني الشامل ، سليمة التفاعل مع أي موج ، وكل موج . كان المتسابق اللبنانيُّ يعرض علي هيفاء الزواج منه بإيقاع ساخر ، لا يقيم وزناً للعطر الذي أثار جنون خليفة – ورحيق الحنظل- ، في عالم صغير ، يستعرض ألوان العطر لكل من يريد الانزلاق في شرخه في كل وقت ، وأي وقت .
سمعت ، فجأة ، صوتاً يحاول السكون في صرخة ، ثم ، فجأة ، اكتمل ، فتحولت نار المرح الداخليُّ إلي ذعر عصبي ، وركضت صوب النبع ، فرأيت أبي يتألم بكثافة شديدة ، ويمر منحنياً تحت قنطرة ألمه ، متجهاً نحو الحمام ، ظل الصراخ باقياً ، لكنه أصبح هابطاً ، عندما أحس بأجراس خطواتي المذعورة ، وتظاهر بالسعال يضللني ، والأمر واضح ، لم أفهم كيف كان يقدِّر علي أية حال ! .
جعلني عدم خروج أمي كالعادة ، أخمن أن الذي يحدث تعقيبٌ علي محاولة جنسية تامة ، لابدَّ أنها كانت في تلك اللحظات تبكي ، طمأنت ذعر جدتي التي قطعت أنينها ، واستيقظت بفعل الصراخ ، وذلك الكابوس القذر ، انحسر الألم فجأة ، عن أبي يخاطب جدتي وهو يلهث :
- روحي نامي يمَّايا ، مفيش حاجة !
مضت لتستعيد أنينها ، وأدركت أن بيتنا يتحرك بعصبيةٍ نحو الأسوأ ، أردت أن أؤكد له أن الاتصال الجنسيَّ في مثل حالته من المحظورات ، أو يكاد ، وردني الخجل ، سلة من الكلمات لا أكثر ، ولكن ، سوف تحطم لو قلتها تابوهين في الوقت نفسه ، الحديث عن الجنس في حضرته ، والحديث ، وإن كان معاداً ، عن الوحش الذي يكبر في جسده بإيقاع حاد ، وسوف يظلُّ يكبرُ حتي يتوحدا ، ويتلاشي ، ويتمدد في مساحات الغياب .
اشتعلت عزيمتي ، فجأة ، وفي نفس اللحظة ، علي السفر إلي القاهرة ، قرار ينطوي علي الكثير من النذالة ، ولكنه ينجح ، لقد امتلأ ضعفي أمام ضغط القوي السلبية في الطبيعة حتي التفكير في الموت الاختياريِّ ، والفوريِّ ، كنت أنشد الهدنة لا أكثر ، سلة من أسابيع الهدنة لا أكثر ، بعض السلام النفسيِّ لا أكثر ، ذلك التوازن بين القلب والكون ، الظاهر والباطن لأتواصل ، لا أكثر .
في الصباح التالي ، وعلي غير إرادتي ، وأكثر من أي وقت مضي ، شدت الدومة كلها صوب الذنوب رحالها ، معلقة في مسار القطار المختل صوب أعصاب القاهرة العارية ، سوف أدرك هذا ، هناك .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس