عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 01:53 AM   #5
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(17)

كان أبي يزيِّن ذكري الأجداد بعقدٍ من الليالي الساهرة يمتد بطول أيام شهر رمضان ، وبعرض الواجب الذي يجثم علي مواقدنا العائلية جثوم العادة ، يدور محورها الأساسيُّ حول تلاوة القرآن ، الثرثرة أيضاً ، ومراعاة الشراع العائليِِّّّّ من ضربات الموج المباغت ، أو المضاد ، وتربية المزيد من أواصر النسب .
تتبدل وجوه المقرئين ، وتزداد تجاعيد الجدران ، وتحترق غابة من ذكرياتنا العائلية بموت رجالنا ، ونساءنا ، وتتهيأ غابة من ذكرياتنا العائلية المؤجلة بميلاد أطفالنا ، وتفقد النجوم الأليفة وضوحها ، وذلك الطقس العائليُّ صامدٌ في مكانه تماماً ، كان هذا دليلاً علي أن عبادة الآباء تسير في طريقها الصحيح .
تلك التحولات الحولية في وجوه المقرئين الوافدين ، ولهجاتهم ، جعلتنا نلمس بوضوح بساطة الأشياء ، لقد كانت المسافة الصلبة علي الدوام بين الدومة وبلاد المقرئين تقتضي أن يشاركونا موقدنا العائليَّ شهراً كاملاً ، ينفقون النهار في أقبية النوم المؤكد ، ويرفعون في المساء حناجرهم إلي سقف ٍ متواضع من جريد النخل الذي يمكن تفسيره بنوي البلح القديم أيضاً ، وينزحون من بئار يحسبها البالون وأصحاب الحد الأدني بئاراً عميقة ، وكنتهم ، يعودون إلي بلادهم قبل ياردات زمنية من عتبة العيد النظيفة ، ويتركون لنا غابة من الانطباعات الجديدة ، وغابة من الذكريات المشتركة ، نظل نستعيد علي مدار العام حداثتها ، واسم المقرئ ينتشر بمشروعية في لهجاتنا ، ويتسرب وجهه إلي أحلامنا أيضاً ، يأتون لليلة أو ليال في أوقات أخري من العام تزييناً لمناسبة طارئة ، أو معايرة ، فيكون اللقاء حاراً ، الوداع أيضاً ،
كان لابدَّ أن يجئ عامٌ ينطوي علي شهر يتسلق فيه حنجرة السهرة برهافة بالغة غرابٌ ، فينهار بفضله ، فجأة ، وبشكل ٍ مروع ، ذلك التقليد تماماً .
أتذكر أن انخفاض حالة أبي المالية قد بدأ في ذلك العام تحديداً ، وبتصرفات مذعورة ، ومن الذي لا مراء في صحته أنَّ التحاق الشيخ الأخير بأفكارنا السوداء تعقيبٌ ركيك بشكل متعصب علي ذلك الانخفاض المالي الذي حال بين أبي وبين أن يحجز أحد المقرئين المجيدين في الوقت المناسب ، ذهب إليه هو والشيخ " أحمد أبو عبداللاه " ، واختبراه في مسجد بمدينة فرشوط ، واتفقا معه ، برغم عدم ارتياحهما ، لأجراس صوته العشوائية وأصدائها السامة ، كنوع من حماية تقليدنا الرمضانيِّ من الانهيار لا أكثر .
كان عاملاً كالعديد من الدوميين بمصنع الألومنيوم ، فركله لذلك رجالنا خارج تقديرهم ، هم لا يحبون أحداً يهجم علي أطراف مسارات الآخرين دون درع أكيد ، هو خيرٌ من اللامقرئ علي أية حال .
غير أنهم تنبهوا منذ الليالي الأولي إلي عبارة تتردد تحديداً ، وبإسراف ، في أنغام صوته السامة كلَّ ليلة ، بل كلَّ تلاوة في الليلة ، حتي عبد العاطي الذي لا يركعها ، راقب تكرارها فاختبأت في ذاكرته ، وربما ازداد بزمالة الشيخ في العمل وعياً بإحساس الندية ، وفي ما بدا أنه اندفاع وراء ذلك الإحساس ، قال للشيخ كأنه يلومه علي هذه السخافة :
- إيه يا شيخ أبو المج الحكاية دي ؟ ، كل ليلة فاصفح الصفح الجميل ، فاصفح الصفح الجميل ، يا شيخ عاوزين حتة من يوسف !
ضحك رجالنا و أطفالنا حتي دمعت أعينهم ، لقد وجدت رغباتهم المحتجزة التعبير عنها في استنكار عبد العاطي تماماً ، وانفجر سلام الشيخ ، واضطرب ، وتذمر كالعبيد ودلي رجليه ، حشرهما في حذائه ، ثم خرج غاضباً وهو يقسم علي الرحيل دون أن يحتفظ حذاؤه بخط الرجعة ، واندفع وراءه الكثيرون ليطفئوا عزيمته .
أدهشني أن يواجه أبي تهديده بسكونه ولا مبالاته واتزانه ، ونظراته التي تنمو علي ظهر الشيخ "أبي المجد" بازدراء مسموع في قلب جزيرة عائمة من الصخب ، وتابع الشيخ تذمره ، وعدم اكتراثه لتوسلات الخائفين من انهيار الطقس :
- أمانة عليك يا شيخ أبوالمج ، صاحبك وعشمان ، عيضحك معاك ، أيام وتتقضي ، واهو رمضان وقع ، باقي سبعة وعشرين يوم ويعدوا ، وصباح الخير يا جاري ، إنتا فـ حالك ، وانا فـ حالي ........ !
لست أدري كم من الوقت ، وكم من الجهد تبدد قبل أن ينزلق المسكين في شرخ العودة ، دون أن يدور بباله أنه كان يعود نحو الأسوأ .

(18)




أتذكر أن العمل في نهار رمضان كان شاقاً ، حتي أن إتمامه علي وجه لائق يعتبر فعلاً إضافيّاً ، وإيماءة تستحق الشكر ، شحن القصب في عربات شركة السكر الحديدية بشكل خاص ، يتلاشي عند الظهر ذلك الحيز الداخليُّ لطاقة الشحانين تماماً ، وتزداد تدريجياً عضلة العطش صلابة ، وتزداد أعصاب أبي عراءاً ، لانخفاض مستوي المخدر في دمه ، ويضيق لأتفه الأسباب ، بل يباشر تربية الذرائع لإضاءة فريسة ، أي فريسة ، ليفجر فيها غضبه . لا يتمكن الشحانون عادة من القيام بإيداع كلِّ القصب في عرباته قبل أن يداهمنا جرار الشركة ، يصيح الجرار من بعيد ، وتشتعل العزائم فجأة .
يكون السائق عادة مرناً ، يتوقف بالجرار علي بعد لائق ، ويشير إلي الشحانين بمتابعة العمل ، غير أن مخافة انطفاء عزائمهم لا يطفئ الجرار أبداً ، يطلق صافرته من آن لآن أيضاً ، فيحيطنا أبي بالتوترات ، وينهر العاملين الأصغر سناً إذا تراخوا في جمع أطراف الأعواد الساقطة ، أو البوَّال في لهجتنا ، وحدث ذات ظهيرة شديدة الغربان ، وفي مثل هذه الظروف ، أن رأي أبي الشيخ قادماً من بعيد ، يتصنع الوقار وتيه الشيوخ ، فصوب حنجرته نحو خطواته البطيئة وصاح :
- قدم قدم يا شيخ ابو المج !
وقدم الشيخ خطواته القلقة ، وكنوع من التماهي معه ، انحني هو قليلاً يجمع البوال ، قبل أن يرميه بحجره المعتني به تماماً ، وهو يقول له :
- لمّْ لك بوالتين مع العيال !
كانت لأبي أحوال .
وتبادلني إحساس بالخجل من تصرفه غير اللائق ، وازددت وعياً بضراوة ذلك الإحساس عندما رأيت وجوه الشحانين تكاد جلودها تنفجر بفعل استحواذ الضحكات المحتجزة ، عيونهم الدامعة أيضاً ، وإحساس بالرثاء الحقيقي لذلك الشيخ الذي انحني ليجمع مثلنا نحن الصغار أطراف الأعواد الساقطة .
وأتذكر أنَّ جملاً لنا نفق في ذلك الشهر المريب ، فردّ أبي نفوق فقيدنا الطيب الذي كنت أحبه كثيراً ، وأحب رائحة عرقه بشكل خاص ، إلي (فقر) الشيخ أبي المجد !
تألمت في تلك اللحظة كثيراً ، لقد أدركت أن أبي أبداً لم يصفح الصفح الجميل للشيخ تذمره الطبيعي لإهانة عبدالعاطي ، واشتعال عزيمته لتفريغ رمضاننا من مقرئ كاللامقرئ علي أية حال ..

(19)


يصغي المسنون من أهلنا إلي ماضيهم المجيد في ظل شيخوختهم ، ويؤكدون لنا أن أجمل صوت تردد حول موقدنا العائلي في رمضان هو صوت الشيخ " أحمد أبو طه " ، لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي ، فذلك عقدٌ لم أشهده ، وإن كنت قد استمتعت لبعض الوقت بعطاء النار المستمدة من شتلاته البعيدة .
لقد زرع العم "إمام" عامل ماكينة الصوت المرافق له ثلاثة شتلات من شجر الكافور تقف علي مسافات متزنة ، في خط أفقي معاير ليظلل الردهة الداخلية من المكان بدقة ، لم أراقب نموها ، كانت ذاكرتها أقدم من ذاكرتي بسلة من السنين ، فقط كنت ، وكان الآخرون ،أصعد إلي سطح المندرة لأنام في نهار رمضان الساخن في ظلالها ، لا أجد أحياناً حيزا فارغاً في الظل يتسع لهزالي ، فأهبط قانعاً بالنوم تحت أقدامها .
ذهب الشيخ" أحمد أبو طه " ، وذهب العم "إمام" متضمناً فيه ، وبقيت قامات ظلها طويلاً ، ثم بدأت خضرتها تذوي تدريجياً حتي جفت في وضوح قاتل ، وبنفس الوتيرة الزمنية ، كأنها تنتمي إلي جذر واحد ، حيرة .
أرجع الكثيرون جفافها إلي الماء المختلط بالصابون الذي كان يتسرب إلي قلبها عقب الموائد الدهنية في مآتمنا وأعراسنا . ومزق الفأس سيقانها وجزءاً من ذاكرتي ، ورممت جرحي في الكثير من المساءات الباردة بنارها ، قسوة .
أصغي إلي ماضيَّ الذي لا مراء فيه ، وأتذكر أن أجمل صوت تسلقت لعاميين متتالين حوله ، فاستشرفت رحاباً غير مطروقة ، هو صوت الشيخ " هنداوي عبدالمالك" ، أجراسه الثرية ، هو أيضاً ، بدانته التي أتمت امتلائها ، وجهه النقي وعطره النظيف ، لولا أنه ، ولابد أن يواجه النقص التعبير عنه في ملمح ما ، أيُّ الرجال المهذب ؟ ، كان يلحن أحياناً ، ولقد ضبطت لحنه مرة ، فزففت البشري إلي أبي الذي سعد كثيراً بشيخه الصغير ، لكنه ولست أعرف ماذا كانت دوافعه أخبره بسري ، فامتصني الخجل ، وابتلعتني المسافات .
كان واضحاً منذ الأيام الأولي لانخراطه في سرنا ، واطلاعه علي يومياتنا ، وأساليب حياتنا ، ولهجاتنا ، وأقواس نجومنا ، أنه استراح إلي الولد عصام تحديداً ، ووجد الولد عصام التعبير عن أكثر أعماله مدعاة لفخره في إيثار الشيخ له علي مدار عام كامل ،وأبعد ، وكان يذكرنا علي الدوام بعادة الشيخ الغريبة التي تجاور الخطر ، حاول الكثيرون تقليده ولم يحرزوا علي الدوام إلا الفشل ، أيُّنا ذلك الرجل الذي لا يشعر بالظمأ ، ثم يختزن في معدته دلواً كاملاً من الماء في مدي لا يتجاوز الدقائق القليلة !
كان اسم عصام يتردد في الأيام الأولي ، قبيل الفجر في فمه حياً دافقاً ، ويذكره بطقس الإمساك الماضي ، في الأسبوع الثاني كان الولد عصام بحكم العادة يحضر الدلو من تلقائه ، ويشرع الشيخ في الشراب متحمساً في البداية ، ثم يفتر حماسه تدريجياً ، وتتسع المسافة بين دفقة وأخري ، وينبت العرق علي جبهته بغزارة ، فيتوقف قليلاً ، ثم يحتجز أنفاسه ، ويفرغه في معدته حتي آخر قطرة .
وأتذكر أن غيرتي من الولد عصام كانت في ذلك الوقت صلبة ، وحقدي عليه عظيماً ، لقد أصابه اليتم المبكر بالخوف من الخضوع للمسئولية ، ومخاطر الانطلاق التلقائي ، ظل لذلك يعتمد حتي عمر متقدم علي عمل أمه في سلة من الأسهم الطينية الموروثة ، هذا أتاح له أوقاتاً من الفراغ للجلوس طويلاً أمام المرايا ينسق خلالها وسامته . وهذا يدفعني إلي ذكري عالقة ، لقد تسبب لي مرة في ألم جسدي بدين أمطر في أوجاع هزالي ، لقد رأيته في وقت مبكر من النهار ، بمجرد أن نفض أبي عن جسدي النوم واقفاً تحت شجرة الكافور المتوسطة ، يحمل حقيبة الشيخ ، وسعادته الجلية قد أتمت امتلائها ، ورأيت الشيخ في قلب هندامه ، واتصل خيط بين الصورتين ، فأصبح خفقان قلبي مزعجاً ، وسألته عن سبب هندامه والحقيبة ، هو لا يخفي سعادته بالذهاب مع الشيخ إلي قريته لزيارة أهله ، تتجلي المكايدة في لهجته أيضاً ، وتفاقم تهافتي ، ورعت الغيرة قلبي ، وقلصت دلائل اليأس المسبق بحكم العادة وجهي ، ونشط رجاء ، وأعلنت أبي برغبتي في الذهاب معهما ، واتسعت المساحات البيضاء في عينيه ، وتذمر، وبكيت ، فهرع نحو تهافتي وهو يقول في غضب حقيقي :
- ع الصبح القوِّيق دا يا خالي ؟
وركلني بقسوة ، وتابع ركلاته بوتيرة عصبية ، وأنقذني الشيخ من موت أكيد ، واقترح من باب اللياقة ليس أكثر أن أصحبهما ، ولكن أبي رفض تماماً ، ورأيتهما علي أرداف دموعي يبتعدان ، واستطعت خلال هذه المسافة أن أمد نقمتي علي الولد عصام ، وتنبه حضن أبي متأخراً ، وخرج صوته من أقبية حنان غامض يخبرني أنَّ من العيب أن أحمل الحقيبة لأحد أياً كان .
ولماذا لا أحملها .. ما دام التعقيب سفر إلي "هوّْ" .. سفر إلي الماضي ؟
أجدني أجد شيئاً من الغرابة يكمن في ذلك الحيز الداخليِّ المشحون بجبال من الطاقة الصلبة التي أمنت لسلة من الكلمات دون غيرها الصمود أمام موجات الهجرة المتكررة ، وما يواكب تياراتها المتعددة الأبعاد من انحرافات أيديولوجية ، وتحولات لغوية صارمة . كيف اختبأ اسم " هو" ، القرية التي حل بها الشيخ تمائمه في قشرة الألسنة الأكثر عمقاً ، فاستعصت علي الذوبان ، وهي التي ، تسلل عمرانها إلي إقليمنا منذ عصور سحيقة .
كان الدوميون يتحدثون كثيراً حتي لتطال المبالغة الحديث ، عن أهلها الذين يجدون الآثار الفرعونية علي عمق ضحل كلما هدموا بيتاً ، أو حفروا أساس بيت ، لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي .
" سخمت " أيضاً . أو اللبؤة ، في الجوار المتقدم ، لقد احتفظت بلياقتها حتي كتابة هذا السطر في ألسنة الجنوبيين ، والتحمت بلا مشروعية بحديثهم عن ذلك التابوه الشهير ، أو الجنس، يقولون إذا التحق رجل بامرأة ٍ في ذلك العناق الصحيِّ :
- سخمطها !
وأتذكر أن البحث عني تصدر لائحة اهتمامات الولد عصام بعد عودته خلف الشيخ من " هو " ، هو لا يصبر علي معرفة أثر عودته علي قلبي ، ووجدني أجلس علي حافة أبي والكثيرين من رجالنا ، يقتلون ساعات الظمأ والجوع الأخيرة بالثرثرة الكسولة حول نقاط تافهة ، تفاقمت انزعاجاتي الداخلية بمجرد رؤيته ، غير أني أمسكت بجهدٍ إضافيٍّ بحقدي ، وتظاهرت بعدم الاهتمام بحديثه، وهو يحكي للجالسين ، ونظراته تستهدفني وحدي ، عن المائدة التي حظي بها هناك ، هو لم يصم يوماً واحداً من رمضان قبل أن يصبح أباً ، وكان صومي المبكر يضخم من إحساسي بقيمة ألوان الطعام التي صنعتها له خصيصاً امرأة الشيخ ، أدرك أبي وجهة حديثه ، ونظر إليَّ فارتطم بعضلات وجهي تتقلص بتصرفات منخفضة ، فقال لي والشيخ واقفٌ علي حافة الحلقة :
- والله عيكدب عليك ، والله الشيخ هنداوي ما لاقي ياكل !
وضحكوا ، وضحك الشيخ ، وقال له في غضب رخو :
- اسكت يا ابن المنتول !
كلمة يتعذر مدلولها ، ولكن كثرة استعمالها في الدومة أضفي عليها أصداءَ أليفة .
لكن ابن المنتول لم يسكت فقط ، بل كان كأنما يتجسس علي رغباتي ، وقال في لحظة يأس ٍ واضحة :
- وركبنا القارب !
وأشتبه أنه كان قد فطن إلي انتباهي المفاجئ ، ونظراتي البعيدة ، وتقلصات وجهي المؤدية فأضاف سريعاً :
- ورحنا السيما !
ضحك رجالنا الصائمون بتصرفات مذعورة ، وسرت همهمة أصداف جماعية بعيدة :
- يا ابن المنتول !
وانفجر مجري دمعي بتصرفات مرتفعة ، وأفلت هو من محاولة أبي الإمساك بمرحه من جلسته ، وتوقفت سعادته التي في ذروة النقطة بعيداً ، ورممت جرحي بالصياح فيه ، دون التفكير في مراقبة نموِّ العواقب :
- الشيخ هنداوي "عيسخمطك" في هو !
وازدحم الهواء حولي بالضحكات العطشي ، وصاح هو من بين ضحكاته المرتوية :
- الشيخ هنداوي ؟! ..فكرتني بعمُّرضي !
تلك السرعة في الربط بين النقطتين ، وبحماية معرفتي بطريقة تفكيره أيضاً ، أستطيع أن أؤكد أنه قد استمدَّ تقليده الخاص جداً في استدعاء سلالته من عبارة من القرآن كان الشيخ يرددها كثيراً في ليلنا ، تلبية لرغبات رجالنا : " ونفخنا فيه من روحنا".
إنها إحدي تكلسات الماضي التي ادخرها لوقت الحاجة .
لقد كان ينظر إلي الشيخ نظرته إلي القاضي الذي لا يرد قوله ، ولا تجوز إهانته .
قد تضئ ظني المستدير تلك الحكاية التي يلحُّ الدوميون في روايتها .
لقد كان المرحوم " عبد المرضي بظيو " مجنداً لم يتَّسع لتقاليد العسكرية الصارمة ، ففر من معسكره ، واختبر الضياع في القاهرة ، وأمسكوا به في زحامها الذي لا يخون الطريدة غالباً ، وترصد لمحاكمة عسكرية ، وحوكم ، وينشط الدوميون عندما تصل الحكاية إلي ذروة النقطة ، فيدخلون قاعة محكمة مدنية ، ويتصنعون الوقار ، والامتلاء ، ثم يتوحدون بالقاضي ، ويتكلمون بالعربية الفصحي :
- حكمت المحكمة حضورياً علي المتهم عبد المرضي عبد الشافي بظيو بالسجن ثلاث سنوات مع الأشغال الشاقة المؤبدة !
ثم يتوحدون سريعاً بالمتهم ، فتتقلص الوجوه ، ويرتسم الألم الصناعيُّ علي سمرتها الداكنة ، ويعلو القانون عن الأرض أميالاً ، ويقولون بالدومية :
- ليه يا سعات البيه ، الله يخرب بيت أبوك !


(20)

كلمة " بس " أيضاً ، وهو الإله المنوط بحماية المنزل عند الفراعنة ، وهو الإله المنوط بطرد القطط المقتحمة من منازل الدومة الحديثة ، يهدد الدوميون القط المقتحمة
بقولهم :
– بس !
لماذا اختصروا – أعباء – وظيفته في تهديد القطة تحديداً ؟! .
لا أدري ..
بل هناك بلاد متاخمة ، وفي تقاطع حاد مع إطاره القديم ، والمتعب ، وحدته بالقطة ، أو البسة كما يسمونها .
حتي مفاتيحنا لصندوق التاريخ متناقضة ، مناديل أحزاننا أيضاً !
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس