عرض مشاركة واحدة
قديم 29/10/2012, 01:55 AM   #7
محمد رفعت الدومي
شـاعـر
 





من مواضيعي

محمد رفعت الدومي is on a distinguished road
افتراضي

(25)

إن شيئاً جديداً أصبح ، بالنسبة للخيال ، قلب الدومة النابض يدعونا إلي تجاوز انطباعات الماضي كلها ، وتجاوز الزهو الشهير إلي المغالاة فيه .
كانت فعاليات العمل في العصارة لسلة من الشهور الطليعية تري في يقين الورد ، وخلَّصت الصدفة المحضة عصام من أطراف العمل اللينة في الأدوار الهامشية قليلة العائد ، فسكن مباشرة في الوظيفة المعتني بها تماماً .
لقد اكتشف أبي اتفاقاً سرياً بين التاجر والعم " عسران " ، طباخ العسل ، يقضي بأن يغلي العم "عسران" عصير القصب ليس فقط حتي ينضج عسلاً ، بل حتي يتجاوز النضج ، فيصبح العسل شديد اللزوجة ، وهذا يعني خسارة فادحة للمزارعين وأبي ، وربحاً للتاجر أيضاً ، وضبطه أبي في مكتب التاجر ، فجأة ، يحصي نقوداً ، وطردٌ ولعنة ، وشغل عصام وظيفته المعقدة ، لكن المربحة ، القاسية أيضاً .
كان عليه أن ينقل عصير القصب من الأحواض بدلو حديديٍّ إلي الاسطوانات النحاسية عبر حوض حديديٍّ ، أو خشبيٍّ ، متحرك ٍ ، يستقر علي قنطرة خشبية بين تلتين من الطوب الأحمر ، ترتفعان عن الأحواض متراً ، ثم يفرز العصير خلال غليانه من الشوائب بجرة نحاسية تتخذ شكل الخوزة واسمها ، يلقي بالشوائب بالقرب من ساحل العصارة البعيد ، ويعود ليراقب نموَّ العسل حتي تأتي اللحظة التي ينادي خلالها " الحمَّاي " ، من الداخل ، أن يمنع عن إطعام النار بقش القصب الجاف ، ليبدأ البروتوكول الأخير ، نزح العسل بمساعدة " الحماي " ، ونقله إلي أحواضه ، ثم يعود ..
بعد استقراره في الحوض يغلي ، إلي نقطته الأولي .
لقد أحبَّ عصام حرفته الجديدة ، فاستغرقته ، وأتقنها بارتياح تام ، إلي حد أنه ، كان في الأيام الأخيرة يعاير نضج العسل من بعيد ، ومن رائحته ، ومن خيوط البخار الأبيض الناتج عن غليانه .
لكنه كان لا يكف عن الشجار علي مدار اليوم ، ازدادت وتيرة الشجار يومياً ، واتسعت دائرته ، وتجاوز الشجار مع المتطفلين إلي الشجار مع المتطفلين وزملائه ، ومع المتطفلين وزملائه والضيوف .
وقد يصل الشجار أحياناً إلي التماسك بالأيدي ، وصراخ النساء أيضاً .
كنت أدرك أن غضبه ليس جاداً ، أو ذا مضمون ، مجرد أنه يشعر بالإثارة ، ويهدف إلي التعبير عن وضعه الجديد بكلِّ ما يعنُّ له ، إثر الخروج من الخمول الطويل إلي حوذة النضج الإعتباطيِّ .
كنت خلال زياراتي القصيرة إلي الدومة ، استمتع كثيراً بذلك البعد الطارئ علي شخصية الولد عصام ، عصام الغاضب .
تأتي النساء بأطباق من الألومنيوم ،أو ترسلن أطفالهن ، يطلبون القليل من العسل علي استحياء ، فتثور ثائرته ، ويبدأ في رجمهن باللعنات الباهظة ، ويبادلنه ، لهن أساليبهن أيضاً ، هنَّ يرين أنه مجرد عامل ، فليس من حقه منعهنّ ،ويحمدن الله علي أنه لم يجعله غنياً ، وإلا كان سوف يقطع رقاب الناس ، ويؤكدن أن الفقر لأمثاله علاج ، ويتصاعد إيقاع غضبه ، فلا يسيطر علي كلماته الجارحة ، ويختلق أفكاراً سوداء تلتحق بماضيهن وحاضرهن وشجرة أنسابهن ، ويتكاتف العاملون علي تهدئة قلبه ، فيزداد غضبه ، ويدَّعي ، أخيراً ، أنَّ الكلمة الأولي والأخيرة في أيِّ عصارة ، وكلِّ عصارة هي للطباخ ، لا لصاحب العصارة ، وكان أبي يأتي غالباً ليستوضح أسباب غضبه ، فيصيح بصوت كأنه يخرج من خلال جمر ورماد :
- عايزين عسل ، عشان ينتفوا !
وفي ما بدا أنه غبار معركة قد انطفأت ، ارتطمت بامرأة ، ذات صباح شديد اليمام ، تفرُّ من العصارة ، وهي تتعثر في خجلها ، ورأيت جانب فمها المبتل ، ورأيت العاملين يضحكون ، فرجمته باللوم ضاحكاً ، فقال لي في رغبة واضحة لتربية معركة جديدة :
- وانتا مالك ؟! .
لقد تجاوز .. بالإفراط في ممارسة بعد شخصيته الجديد ، كلَّ حدود اللياقة إلي الإحالة الجارحة .
أتذكر أن أيمان الدوميين لا تتجاوز الفاتحة ، ودينك ، ورسولك ، والست زينب ، ولكن عصام الغاضب ، أضاف إلي تلك المنظومة الشهيرة صدمة ميسرة للطفل " بكش " المرحوم .
كان عصام يسكن في بعد شخصيته الجديد ، عصام الغاضب ، وفيما بدا أيضاً أنه غبار معركة قد انطفأت ، شهدها المرحوم " بكش " كاملة ، لقد كان المسكين يقطع مرضه بالفرجة علي الآخرين ، طقسٌ بسيط ، غير أنه مؤلم ، وكان فمه المعوج تعقيباً علي مرضه الغامض ، فقال له عصام ثائراً :
- بكش ، ربنا يعدل لك خشمك يا ولدي ، تقول الحق ! .

(26)

يضبط القلائل .. القلائل جداً ، قاطنو الأرواح الفردية بشكل خاص ، ساعاتهم الداخلية علي الانسحاب من الوحدة في زحام النهار ، إلي الامتلاء الروحيّ في سكون الليل ، وذلك الجمال المسور عليه ، هذا إذا تنحَّت القوي السلبية في الطبيعة جانباً ، ولأنني كائن ليليٌّ ، حظيت ، وأمي ، بالنصيب الأوفر من العذاب ، لقد رأيت أبي كثيراً ، يخلِّص نومه من النار الشائكة .
أتذكر أنني ، خلف منتصف ليلة النهار التالي لذهبنا إلي الطبيب ، بالكثير من الحدآت الزمنية ، تسللت إلي غرفته في حذر ، ونظرت من بيت المفتاح المهجور ، فصدمني العذاب صدمة قاسية ، لقد رأيته ممدداً علي سريره ، خده الذي علي راحته ، نظراته البعيدة ، عمامته المرتجلة ، واهتزازات رأسه الرتيبة ، تراجعت إلي الوراء كثيراً ، ورجعت وتخلي الحذر عن خطواتي ، وطرقت الباب طرقاً ركيكاً ، فالتقطت ، فقط ، صوت ارتعاشة السرير ، وأنات جدتي تأتي من الخلف ، نظرت مرة أخري من بيت المفتاح المهجور في الباب المغلق علي الأسرار المحتجزة ، فرأيته يتظاهر بالنوم ، وأنا الذي ضبطته منذ حدأتين ، سائراً في شوارع سوداء ، تتثاءب عن عرائش لا تبتكر العناقيد ، تتبعثر الدنيا حوله غابة من التين الشوكيّ . غابة من التين الشوكيِّ ، وتعود غابات التين الشوكيِّ المبعثر من الأطراف إلي مركز لا يباشر تربية الوردة ، وثبتت ذاكرتي اللحظة ، ولكنَّ عينيَّ لا تبتكران دمعة ، حتي تلك الحدأة ، كان الدمع مقيداً إلي سطحهما بغابة من السلاسل الحريرية المنطلقة من صفر القلب المفعم ، وسوف تنكسر السلاسل ، فجأة ، سوف أعرف هذا في ساعة تخبئ في تجاعيد المستقبل الذي واكب قبونا في العصر التالي شديد اللزوجة ، وكان الرماد يسكن السحاب بوضوح أكثر مما ينبغي .
كنت أجلس إلي جواره ، وإلي جواره أمي وإسلام ، وانتبهت ،وانتبهت أمي ، إليه يعي إسلام بنظرات لم أكن أتصور أن إسلام سوف ينجو من أطرافها الحادة ، والمتواصلة ، ثم قال ، فجأة ، وبعض الدموع في عينيه :
- تعالي فـ باطي يا إسلام !
امتثل إسلام ، انخرط هو في عناقه المرضيِّ ، وهو يقبله بشهية عصبية الوتيرة ، وطارت طرق اليمام ، لم اتسع لهذا العذاب ، فنهضت ، واستدرت ، وخرجت من قبونا صاعداً ببذل المزيد من الجهد إلي عتمة الشارع ، في الطريق إلي عزلة ، وطلائع الدمع تغسل وجهي ، فاكتسبت ملامح وجهي القادم .
ثم .. كان الانهيار .
ثم .. كان التحول الذي أجدني حتي الآن ، أفتقد ذلك الشخص الذي كنته قبله ، وأجدني حتي الآن ، جالساً حول ركامه بارتياح تام ، وحول تراكماته أيضاً ، وعبره أتمَّ يقيني ببساطة الأشياء امتلائه .
حاولت في الليل الدخول متأخراً من باب القصيدة ، ربما لأتفادي الذهن ومنحنياته التي تتهافت حول الوداع من تلقائها ، أو لأوجهه وجهة أخري علي الأرجح ، ودخلت فلم أبتعد عن حالتي ، ولم أبتعد أكثر من سلة من الأبيات الركيكة :
تذوبُ بفعل الاستحواذ ماساتُه .. ويؤكد الورمُ البقــاءا
وتعقدُ غابة ُ السرطان أعضاءَه – متضمناً فيها – دمـاءا
وينمو الموتُ من تلقائه في اسمِهِ ، ويرجُّ في دمِه الشتاءا
ويملأُ سطحَ قافيتي دموعاً .. ويملأُ سطحَ خيمتنا عـراءا
ونبعٌ مشرعٌ للدفء رَبَّي.. بروَتَه الذي .. ربَّي الوعاءا
ويحفرُ فقـدُه فينا شقوقاً ،، وتمنعُ بيتنا النارُ العطاءا
كأنَّ القبرَ تعبيرٌ حقيرٌ ، عن الإنسان لا يعني السماءا
هنا ، وهناك ، يتَّحدان عندي . ولكن ما تقاربَ أو تنائي
سأنسي حالتي في الدمع حتي ، أردَّ أبي ، وما أنأي البكاءا
إن مجرد قراءتي لهذه القصيدة الآن كاف لجعل انخراطي في الدهشة يعمل ، لقد كنت أنظر إلي أبي ، وأبي يمارس مثلي بقاءه ، نظرتي إلي ميت وقَّع حياته ومضي ، ربما بدقة أكثر ، نظرتي إلي نعش متحرك ، ولست وحدي ، وإنما ، كان شعور كلِّ الذين في بيتنا يتَّحد بشعوري ، بل انخرط البيت في حزننا ، حتي أن رائحة جثة في البيت قد وجدت التعبير عنها في كل مكان فيه ، ابتكر لها كلٌّ منا أنفه الملائم ، وتسللت إلي البيت ، خلف وجوده ، سلة من المفردات الحوشية المهجورة ، الحوشية المهجورة بحماية عبثية الحديث عنها قبل وقت الحاجة طبعاً ، القبر ، وضرورة تعهده ، واسماعين الفحار ، وضرورة تعهده ببعض المال أو الغلال ، والجنازة ، وضرورة ادخار بعض النقود لها ، حتي لا نفتضح أمام الآخرين جرَّاء وداع ركيك له .
يدهشني الآن أكثر ، أننا كنا في ذلك الوقت ، نسمي القبر قبراً قبل أن يعمِّره ذلك الذي ننسِّق له وداعاً لائقاً ، وهو بيننا ، وسوف نكتشف من ذلك الوقت ، وحتي موته الباهظ ، أنه أطولنا قوة ، وأطولنا استهانة بالموت ، بل .. وهذا موطن الغرابة ، كان أطولنا اعتقاداً بالعمر الطويل .
لم ينزلق أبي أبداً ، كما ينبغي ، في الفجوة الشهيرة حيث ينبغي له .
لقد ظلّ حنينه القديم للبحث عن الكنز نشطاً ، ولكنه أصبح ، تحت ضغط عضلة العجز ، وتحذيراتنا ، محتجزاً . ولقد اشتري بعد عامين وبعض العام من اكتشاف إصابته المباشرة بالسرطان ، تلاً من القماش المختلف الألوان ، يكفي حداثة هندامه لسلة من الأعوام المؤجلة ، واستدعي الترزي إلي بيتنا ليأخذ مقاساته ، وسافر معه في مساحات الكلام في غياب فكرة الغياب تماماً ، وهو يوصي " عوض " ، ذلك القادم من نجع الزعرة ليختبر جيوب الدوميين ، وأسرارهم ، ويكتسب بدانته الطارئة ، بأسلوب العمل اللائق ، والمقاربات الجمالية التي ترضيه ، واتساع هنا وضيق هناك ، وطول هناك ، قصر هنا ، وكان " عوض " ، وهو المطلع علي جسامة مرضه ، بل علي عدد ساعاته الباقية علي طرف الزمن ، بل وهو المطلع علي أدق دقائق أسرار الدومة ، حتي أن مساره المهنيَّ اللائق كان لابد أن يكون الجاسوسية لا الحياكة ، لدهشتي البالغة ، يستمع إلي رغباته في اهتمام رحب ، ويتظاهر بالتفكير أكثر مما ينبغي ، ويدوِّن بقلم من الرصاص ملاحظاته ، بخط ركيك في ورقة باهتة .
حدث ذلك قبل موته بعشرين يوماً أو أقلّ .

(27)

أنحِّي البعد الجديد في شخصية عصام جانباً ، وأؤكد أنه كان في حرفته ، وباعتراف الجميع ، لائقاً ، ولقد احتفظ بلياقته في مباشرة تربية العسل الأسود المميز ، من قطرات عصير قصب السكَّر ، بسلالاته المختلفة ، حتي تجاوزت الرياح المرفأ ، تاركة السفينة تغرق في بطء ، ويمضغ الملاح في بطء أفيونه .
لم يكتفي أبي بتجميد العمل في العصارة ، بل باع الماكينة ، ثم باع الأسطوانات النحاسية ، ثم .. وهذا هو الأغرب ، حوَّل فضاءها إلي أرض زراعية ، ليؤكد للآخرين طللها ، بما لا يدع مجالاً للشك في تحققه .
لقد أثار تصرفه الأخير طغيان دهشتي ، لا لأسباب تتعلق بالعصارة ..
بل لأسباب تعلق بروما ! .
لقد رأي التاريخ يتمشي أمامي علي ساحل العصارة ، ويقودني إلي ذكري مشابهة ، وسحيقة .
إنَّ روما القاسية ، نسفت ذلك الحيز الشهير بمهرجانه الشهير الذي يزين ذكراها الجارية في يقين الألم ، أو قرطاج ، وردة تونس المعاصرة ، وإن وراء كواليس الهزيمة أسبابٌ تتحد بأسباب هزائمنا المعاصرة تماماً ، الغباء والقمع ومحاولات إقصاء الآخرين والفساد ، وبعد أن أتمت نسفها ، وضعت المحراث في أرضها ، لتؤكد زوالها ، ومزرعة للحبوب يديرها المنتصرون .
كانت دهشتي إذن ، بالنسبة لقواعد المنظور علي الأقل ، تجد التعبير عن تبريرها ، في ذلك التشابه الغامض بين تصرف أبي المعاصر حيال العصارة ، وتصرف روما القديم حيال قرطاج ، وحدة السياق هكذا غامضة ، ويزيدني وعياً بغموضها يقيني بعدم اقتراف أبي قراءة تاريخ روما .
وهبْ أباك قرأه ، فهل قرأه ، صديق طفولتك "صالح"، الذي لا يعرف الياء من الدجاجة الراقدة .
كان سلة من أطفال نجع عمران المتاخمة يتطفلون علي مدرسة الدومة الابتدائية ، ويمارسون الغرور علانية ، وأمام ذلك التيار من غرور المتطفلين وجدوا أحقادنا الصغيرة ، واندفاعاً وراء حقدي ، تشاجرت ذات صباح شديد الغربان ، مع "صالح عبداللطيف" ، أعلاهم غروراً ، وفقراً ، تنابذنا بالألقاب سريعاً ، ثم احتدَّ ، فجأة ، إيقاع المعركة ، فتماسكنا بالأيدي والأسنان ، وتجمهر الرفاق يشعلونها أكثر ، وجاء العم "ياسين"يجري ، وفضَّ اشتباكنا بطقس مؤلم ، غابة من ضربات العصيِّ ، لا تقيم وزناً لطفولتنا ، وكأننا أشياء ، وبكينا ، وصاح "صالح" في حدة ، بصوت كأنه يخرج من خلال متاهة سائلة :
- والله نهد الدومة ، ونزرعها بصل !
إسراف في تقدير قوته بالطبع ، فمن هو هذا "الصالح" الذي يستطيع أن يهدم الدومة فقط ، بل ويزرعها بصلاً أيضاً ؟! .
ربما لأن ذهني تتبع أبعاد تهديده الغريب ، انطفأت المعركة عند ذاك الحد .
أحسنت إليه ، بعد سلة من الأيام ، بجزء من غذائي ، فاستعرض طبقات حنانه المرتشي ، وهو يلتهم الطعام بشهية مذعورة ، وقال لي :
- إنتا اخويا يا محمد !
أعترف أن لهولاء المتطفلين حمي في القلب لا يرعي ، ومن السيئ أننا تمددنا جميعاً في مساحات البعاد .
ثمة ذكري عاق أيضاً .
قرأت كتاباً معنوناً "من حياة القديسين" ، فعثرت ، في الظل ، علي النبع الذي استمد منه الدوميون خرافة الشيخ "مطاوع" ، أحد القديسين أيضاً ، كان في حياته الأولي رجلاً فاتكاً ، أزهق تسعة وتسعين روحاً ، وفي ما بدا أنه اندفاعٌ وراء الرغبة في التوبة ، ذهب إلي كوخ راهب صالح ، وترجم له نفسه ، ثم سأله عن إمكانية توبته ، فأطلق عليه الراهب الصالح كلاماً أحنقه ، وأخطأت است الراهب الحفرة ، فأزهق روحه ، ثم .. ذهب إلي أحد العارفين ، وروي له أسطورته ، فأشار عليه أن يزرع في أرض منعزلة ، الأداة التي استخدمها في كل جرائمه ، وأن يتعهدها في الصباح التالي ، إذا وجدها قد نبتت ، فهذا يعني أن توبته قد قبلت ، أو لا ، فلا .
وبالطبع ، وككل الأساطير ، كان لابد أن تورق العصا الجافة في الصباح التالي ، تكريماً لذلك النقيِّ الذي قتل فقط مائة إنسان .
منذ ذلك اليوم ، وأنا أعتبر قوة الشيخ مطاوع ، الذي يتربص ضريحه بالمارين في منتصف المسافة بين الدومة وزليتن ، وهي قوة داخل تقدير الكثيرين ، خرافة جميلة لا آخذها مأخذ الجد .
عجل مطاوع أيضاً .
ذلك العجل الذي درجت علي الإيمان بقداسته ، ودرجت عليه ، يهجول في الحقول ، لا مقود في رقبته ، ولا نجمة علي سطحه ، ولا وجل في أقدامه ، ولا خجل ، وبرغم أنه ، وربما بفضل أنه ، يتلف الكثير من المحاصيل ، يعتبر الدوميون مجرد إلمامه بحقولهم بركة لا تطاولها بركة .
كأنما عجل مطاوع هو ذكري حية لعجل أبيس ، المعبود المصري القديم ، هذا يقودني إلي الظن المستدير ، حتي أنه المنعزل ، أنَّ ديانات أسلافنا المنسحبة ، تجد علي الدوام ، التعبير عنها بقوة في طقوس دياناتنا الحالة .
ولكن ، ماذا عن وحدة الأساليب التي تجعل التشابه بين تصرفات الآخر البعيد ، والآخر البعيد ، طليقاً إلي هذا الحد ، لو لم تكن الخوابي الإنسانية كلها واحدة .
محمد رفعت الدومي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس