إملائيـة
|
أناْ الصُّبحُ في يومي فغارَ مَساؤهُ .. أناْ النُّورُ في الدُّنيا فـسَلْ مِصْباحي !
مِـشكاةٌ يا حَياتي
بقلم : دلال الشّبلان
لا أعرفُ مِنَ الدُّنيا سوى صحراء الرُّبع الخالي مِنْ كُلِّ جَمالٍ و أُناس
إلاَّ نفسي و امرأةٌ عجوزٌ بكماء لا تنطِق , و خيمةٌ ضيِّقة تحويني و إيَّاها و قليلٌ مِن غذاءْ .
هكذا بَدَأتْ حياتي !
بدونِ مُقدِّمات جذبٍ لهذهِ الحياة الدُّنيا
فقط فلاةٌ , و خَيْمةٌ , و عجوز !
حياةٌ جامِدَة لا تتحرَّكُ و لا تتغيَّـر
لَـيْـلٌ نهار .. نهارٌ لـيْــل
صَـيْـفٌ شِتاءْ .. شِــتاءٌ صَـيْـف
و عجوزٌ بكماءَ تشيخُ كُلَّ يَوْم !
عِشتُ سنواتي السَّبعةُ الأولى هكذا لا أعرفُ وطناً لي و لا مَوْلِدا
أجهلُ لُغتي و أهلي و اسمي
كنتُ أظنُّ أنَّهُ لا يوجدُ في الدُّنيا سِوى ما أراهُ أمامي
أُغنـِّــي مع الطُّيورِ إذا حامَتْ فوقَ رأسي , و أرقصُ إذا زارنا المَطَر
و عجوزي في خيمتنا بلا حِراك
تخرجُ لِثواني تُشاهِد الحياة ثمّ ما تلبث قليلاً و تعود !
أكونُ صادِقة إذا قلتُ : ( لا أُحبّـها ) لكنّي في الحقيقة لا أكرهها
فأصلاً أجهلُ الحُبَّ و الكُره
إلاَّ أنـَّــني أأنسُ بالعصفورةِ إذا داعَبتْ شَعري
و أنزعِجُ مِنَ الدَّواب إذا سَرَقتْ ما وَضَعتْ لي عجوزي مِنْ طَعَام .
بل كيفَ أُحبّ هذهِ العجوز و هِيَ لم تُبادلني الحُبَّ قط ؟!
لم تُكلمني مُذ عرفتها , و لم تُبادلني البَسَمَاتْ , و لم تُقبّلني و تحضنني
فقط تضعُ ليَ الطَّعام و تعتكفُ في خيْمتها تتعبَّد .
و في كُلِّ شهرٍ تقريباً تحبسني في خيْمتنا بضع دقائق و تمنعني منَ الخروج
ثمّ تدخل عليّ تحملُ الغِذاء و المَلبس , و تُخزِّنه في زاويةِ الخيْمة بـصمتٍ و سكون !
رغم جفاف حياتي و غرابتها إلاَّ أنَّني لم أكن أستنكرها قط
فــكيف أستنكرها و أنا لا أعرفُ في الوجود غيرها ؟!
سَكَني الخَيْمة
و عالمي الصَّحراءْ
و أصدِقائيَ الشَّمسُ و القمر .
كُنتُ أشعر أنَّ خلفَ هذا الوجودِ مُوجِد , و وراء هذا الخلق خالِق
لكنّي لم أجدُ مَن يُثبت لي شعوري و يؤكّد إحساسي
فــعالَمي كفيف , و صديقيَّ أصمـَّــيْنِ مِنْ بُعدِهما
و عجوزي بكماءْ !
***
و حينما بلغتُ السَّابعة مِن عمري حَدَثَ ذلكَ الموْقف العظيم , و المَشهد الجسيم
الَّذي غيَّـر مجرى حياتي و لا أظنُّ ذاكِرتي تنساه
و لو تزاحَمَتِ الذِّكريات .
في يومٍ مِنْ أيَّام حياتي المُعتادة الجامِدة
رأيتُ ما لا يخطر بالبال , و لم ترهُ عيني أبدا !
مخلوقَيْنِ اثنيْنِ غريـبَـيْـن , أتيا إلينا قاصدَيْنِ خيْمتنا
رجُلَيْنِ يبلُغ طولَهُما طولَ عجوزي
إنــس ! لا أُصدِّق بأن يكون في الوجودِ إنسانٌ غيري و العجوز !
خرجتُ مِنَ الخيْمة أتأمَّل خلقهُما مندهِشة
و كأنّي بــعالَمي ينظرهُما معيَ بــاندهاش !
فـحين أحسّتْ بهِما العجوز ارتبَكَت و أمسكتْ بيدي مسرعة , و ردَّتني إلى الخيْمة
كنتُ أحاوِل مِن بين يديْها جاهِدةً أن أفلت منها ؛ لكي أُكمل المُشاهدةَ و التأمُّل
لكنّها أصرَّت على حبسي في الخيمة ..
جلستُ في خيمتنا مُتعجِّبة مما حدَث !
علِمتُ حينها أنَّ هذا هُوَ سببُ حبسها لي كُلَّ شهر
فــانتظرتُها تدخلُ تحمل غِذاءً يضمنُ لنا الحياة
و لم أعلم أنَّ هذا الحَبس يعقبهُ تغيـُّـر الحياة !
ارتفعَت أصواتهم خارج الخيمة , و لأوَّل مرَّةٍ أسمع حديث البشر
دخلوا عليَّ الباب , فــنهضتُ إليهِم مُتأمَّلة ...
ابتسمَ أحدُهُما في وجهي , فـــبادلتهُ الابتسام
أتأمَّلُ و أحاوِل أنْ أجد لـتساؤلاتي الجواب !
أمَّـا عجوزنا فـكانت واقِفة بالبابِ تدرُّ الـدَّمع مِن عيْنيـها الشَّـاحبتــيْن على ثيابها الباليَة
الـتفـتا إليها و ألقيا عليها بعض الكلمات بـخشونةٍ و صلابة
فـتـمَعَّـر وجهها و صكَّـته , و أمطرب على ثيابها الحُزن و البُكاءْ ..
ولازِلتُ بينهم واقفة أتأمَّل بـاندهاش
خرجوا بها من عندي .. فــتبـعْـتُـهُـم
فــوَكَزني أحدهما يأمرني بالرُّجوع !
فـــسقطتُ في مكاني أكفكِفُ الدَّهشة , و أرمِّم ما تهاوى من الوجع
جلستُ في مكاني لحظات و إذا بي أسمعُ الصُّراخ و البُكاءْ
هرعتُ أنظر إليهم مِن طرف الباب .. و يا ليْتني مُنِعتْ !
كانا واقِفيـْـن و عجوزي بينهُما جالِسة , ذليلةً صغيرة , تستغيثُ و تطلب الإكرام
أخرَجَ أحدهما سكِّيناً مِن جيْبه و ركزها في رقبة العجوز
و بدا يُحرِّكها يمنةً و يسرة ينوي ذبحها !
و عجوزي تصرخُ بكُلِّ ما أوتيَت مِن صوْت .
نظَرَتني مِن خلف الباب فـبكتني و بكت نفسها طريحةً بينَ مَجهوليْنِ غريبين
صريعةً بيْن أنهارِ الدِّماءْ
فاضت روحها , و سَكَنَتْ , فلا حِراكَ و لا بُكاءْ !
رفعَ يده منها , و رمى سكِّينهُ في الفلاة
و زحفَ الأخرُ عنهُما يحفر الأرض
ثمَّ حملاها إلى الحُفرة و جَثُّوا عليها من التُّراب !
لم أستوْعب المَشهد
رجعتُ إلى مكاني مُسرعة ؛ خشية أن يروني
أرتجف تفكيراً فيما حدث !
دخلَ أحدهُما عليَّ يُقلِّبُ عيْـنـيْـه في الخيمة بحثاً عنّي
فــوَقَعَتْ عيناهُ عليَّ فــتبادلْنا النظر لبُرهة !
كنتُ أنظرُ إليهِ بكُلِّ جمودٍ و بلادة
أقرأُ في كتاب عيْنيْهِ التَّوتُّـر و الارتباك .
أشارَ بـيدهِ أنْ تعالي
فــأتيتهُ على الفوْر , فـمسحَ رأسي و جلَسَ ليقرب مني
فـــابتسمَ و سألني : ما اسمُكِ ؟
ابتسمتُ في وجهِه و لم أفهمِ السُّؤال , فـنطقتُ ما حفظتهُ من حروف
ثمّ كرَّر عليَّ السُّؤال : ما اسمُكِ ؟!
ابتسمتُ و تحيَّرتُ في الإجابة , فـأعدتُ عليهِ ما سأل
فــعَبَسَ و بَـسَـر , ثمَّ رمى عليَّ كلماتٍ لم أفهمهُـنَّ
فــتـبَـسَّـمـتُ خائفة رجاءَ أن يُبادِلني الابتسامة
و لكنَّهُ غضب هذهِ المرَّة و قام إلى صاحبهِ يُحاوِرُه
نظَرتُهُما بكُلِّ براءةٍ و جهْلٍ بما ينطقون
مَـيَّـلتُ رأسي يميناً إلى الخارج فإذا بي أرى قبر العجوز
فــركضتُ إليها لأراها
فــمَسَكني الأخرُ بـشعري يمنعني مما أردت !
حينها
أجهشتُ بالبُكاء يومَ تملَّكني الخوف , و آلَمَني رأسيَ مِن شدِّه
مسَكني يُكلّمني دونَ أنْ أفهم حرفاً واحِدا
كنتُ أفِـرُّ بـوجهي عنه أنظرُ قبرَ العجوز أنتظِرها تُنقذني
و لكِن هيــهـــــات
فــقد خرجَتِ الرُّوح , و ودَّعتِ الحياة
و غابَـت بلا شُروق .
ضمَّـني إلى صدرهِ , و قبَّلني , و مَسَحَ رأسي يداوي الألم
سَـكَـتُّ مِن بُكائي و حبستُ الدَّمع
و بقيتُ أنظر إليه , أحملق عيني في وجهه
فلأوَّل مرَّةٍ في حياتي يهديني الحُبّ أحد !
أنِسْـتُ به , و نسيتُ الألَم , فـــتبَسَّمَ لي و تبَـسَّمتُ له
ثُمَّ وقفَ و أمسك بـيدي و مشى قاصِداً الخيمة
دخلتُ معه
فإذا بصاحبه قد جرَّد خيْمتنا مِن كُلَّ ما سَكَنَها !
ثُمَّ دعا الآخر يطلبهُ هدم البناءْ
ترَكَني صاحبي بعدَ أن ابتسمَ لي و نطقَ بحروفٍ يُشيرُ إلى مكاني
فهمتُ أنَّـه يطلبني البقاءَ و عدم التَّحرُّك .
وقفتُ في مكاني تملأني الدَّهشة !
فـغدَيا يُهبطانِ الخيام حتى ألقياها على الأرض ترقُبهم عينيَّ بكلِّ انزعاج
فــانتظرتُ أن يُخرِجَ أحدُهُما السِّكين مِن جيبه ؛ لـيذبح الخيْمة المِسكينة
لكنَّـهُــمـا حَمَلاها إلى المركبة , و نفضا ما تَعَلَّقَ في أيديهما مِن التُّراب .
أقبلَ أحدهما إليّ و أمسكَ بيدي يُريد مني الرُّكوبَ معهما
و لكِنَّ صبري نفد و سيلي بلغَ الزَّبى
صرختُ بكُلِّ صوتي رافضةً الرُّكوبَ معه
فـحَمَـلني مُتوجّهاً للمَركبة , فـزاد صُراخي و بُكائي أنظر قبر العجوز مُستنجِدة
و أضرِبهُ بـيديَّ بكلِّ ما أوتيتُ مِن قُـــوَّة
فـأمسك بـيدي يطلبني الكَفّ عنِ الضَّـرب
و لكني كنتُ مُصرَّة على حالي
أدخلني السَّيـَّـارة و ركِبا معي , فـقادها أحدهما يبعد عن وطني و عجوزي
كنتُ أنظر الخلف و أهوي مِن البُكاء
أنادي العجوز و أستنجد بالخيمة طريحة في ظهر سيَّارتهم .
مَـرَّتِ السَّـاعات
و لَـبِـسَـتِ الدُّنيا السَّواد
و جَنَّ علينا اللَّيلُ بـظلامِه
و أنا لازِلتُ في بُكائي , أحاوِل النَّـجاة و لا أدري ما النَّـجاة ؟!
أحاوِل تفسير ما لم يستوعبه عقلي
و هُمَا لازالا يَنهياني عنِ الدُّموع , و يَأمُراني بالسُّكوت
هَـدَأتُ قليلاً بعدَ أنْ فقدتُ أمل العَوْدَة
و كنتُ أبكي بلا صوت و لا دموع
أنظُرهُما
أُترجم الواقع , و أنتظر النِّهاية
زارني النُّـعاسُ في سَيَّارتهم , فـسعيتُ جاهِدةً أمنعه هذهِ المرَّة
لكِنَّهُ غَـلَـبَني , و غيـَّــبَـنـي الرُّقـاد !
فـــــآآآهٍ يـا حــــياتي
كُــلُّ كَـوْنِيَ خــائــنْ
عـجـوزي لـم تُـودِّع
و بيْــتـي بـاتَ نـائـم
و أرضي لــم تُـدافِع
و تـمـنعُـني الـشَّـتائم
و نـوْمي صارَ لِـصَّاً
لأحـلامـي العـزائــم
***
تركَني النومُ و أيقظني النُّور في مكانٍ بعيد
فتحتُ عيني فإذا أناْ بين رجُليــنِ آخريْنِ تنبضُ قلوبهم بالخيرِ و الإشفاق
جلستُ خائفةً بينهـما ألـتفِـتُ يمنةً و يسرة !
أبكي
أتساءل
و لكن مَـن يفهمِ السُّـؤال ؟!
كانا يُـطمـئناني و يُتمـتِـمانِ بـلُغةٍ أجهلها
شعرتُ بالرَّاحة قليلاً و لكننـي متوتِّـرة من الحال , لا أفهمُ ما يحدث حولي !
أريــــــــــــــــــد الجواب , أريـــــــــــــــد الجوااااب
حمـلَني أحدُهُما بكُـلِّ رحمةٍ و شفقة و أنا محدقة عيني في فمِه
أحاوِلُ أنْ أترجم ما ينطقهُ مِن كلِمات
و لكن محاولتي باءت بالفشلِ و الخسران
لم أفهم إلاَّ البَـسَـمات , فهيَ تعني لي حُـبَّاً و حناناً و أمانْ
لكنني لم أبادلهُ تلكَ اللُّغة , بل كانت ملامحي جامدة
يكسوها تعـجُّبٌ عريض , و سُؤالٌ مريض عجز مَن رآني أن يحلَّهُ أو يهديني للعلاج !
مشى بي يتبعُــنا الآخر
إلى أنْ وصلنا إلى بابٍ مُـغلق فـوضعني على الأرضِ بجانبه , و طرقَ الباب
فــفتـحَتِ الباب أنثى و كلَّـمته جاعلةً منَ البابِ حِجاب
دعاني إلى الدُّخول
فــنظرتُ البابَ مُتعـجِّـبة ! و إذا بـيدها مِن خلفهِ تُناديني
نظرتُ ثانيةً إلى صاحبي فـابتسمَ يدعوني إلى الدخول
فــالتفتُّ إلى يدها تدفعني الدعوة , و يردّني التَّـردُّد !
تقدَّمتُ بخطواتٍ باردة صَوبَ يدها
و حينما دخلتُ رفَعتُ رأسي أنظر إليها بعيْـنـيْـنِ أرهقهُما الحُزن , و أضناهما التفكير
نظرتُـها .. و يا جَمالَ ما نظرْتْ !
فتاةٌ لم تبلغ العشرين عاما , خلقها ربُّنا خلقاً حسناً , و أنبتها نباتاً حسَنا
و جمَّلها بـابتسامةٍ فيها شِفاءٌ للناس , و راحةٌ و أمان لكلِّ الحائرين !
استقبلتني بـــبشاشةٍ و حماس .. يشعُّ نور وجهِها في وجهي
فـتحتْ ذراعيْـها و ضمَّــتني إلى صدرها
و هِيَ تهتفُ مُتهلِّلة : ( أمل .. أمــل ) !
أعجزُ عن وصف ذلكَ اللقاء
و أعجز عن وصف شعوري تلكَ اللحظات
لستُ أذكر ما حَصَل بالتحديد
لكن الأكيد .. أني كنتُ سعيــــدة بها جدَّاً , و دبَّ في روحيَ حُبّها
نظرتُها و أناْ بينَ يديها
و لا أفهمُ سوى الشُّعور المَكتوب على صفحة وجهها الجميل
أقرأ فيهِ حُبّها العميق لي , و شوقها الحارّ لي , و صدق شعورها تِجاهي
لا أعرفُ مَن هي ؟ و لمَ تحبّني كُلّ هذا الحُبّ ؟!
حملَتني و ركضتْ بي إلى نِسوةٍ كُـنَّ جالِسات
فـأقـبَـلَـت عليهِنَّ و هِيَ تُردِّدُ بـصوتٍ عالٍ : ( أمــل .. أمــــــــــــــــــــل )
فـأقـبَــلْـنَ إليـنـا مُسرِعـاتٍ يَتـسـابقـنَ على السَّلام عليّ فـكنتُ أتـنـقَّـل بين أيديهنّ
يعرِفـنـني , و أجهلهُـنّ
يُـكلِّـمـنـني , و أنا صامِتة
سَـقَـطَـتْ صاحبتي على الأرض مِن الفرحِ داعيةٍ تبكي , فــتـحَـلَّـقـنَ حولَها يُسلِّمنَ عليها
يا عائشة الحمدُ لله .. الحمدُ لله
فـحَـمَـلْـنَــني إليها تُقبِّـلني و تحـتضنني و تُحدِّثني تسبق دموعها الحروف
و أنا لا زِلتُ في صمتي , تتكاثرُ في رأسي التَّساؤلاتُ و الـتَّــعـجُّـبات !
لم أجرأ على التَّـحـمُّـل أكثر
انفجرتُ بينهنَّ خائفةً أبكي
أريـــدُ الأمـان .. و لا أدري ما الأمــــان ؟!!
يا فَـرَج .. أيُّـها الـمّـفـقودُ أقبِل
فـالأماني الغائباتْ أرهَقتْ قلباً مُكبَّـل
و همومي مُثقلاتْ
سوفَ تمضي حينَ تُـقـبِـل
يا ملاذي .. يا أماني , لا تغِب أرجوكَ عـجِّـل
***
|
|