عرض مشاركة واحدة
قديم 10/06/2007, 12:00 PM   #109
إيناس الطاهر
روح المـطر
 
الصورة الرمزية إيناس الطاهر
افتراضي

( سي السيد - تابع )



الأحد ، يوم العطلة الرسمي ، الذي يصير ميل فيه شخصاً آخر ، كان يخرج مع صديقته ويمضيان النهار خارج البيت ، يقول لي : لم أقرب الكنيسة في حياتي ، أمي تقول عني كافراً ، لكنني لا أؤمن بيسوع ، أتعرف يا ناصر أكره أن أفكر في أنني أصلي ليسوع الأبيض ، ربما إن كان أسوداً فسأؤمن به

كانت تلك المرة الأولى التي يحدثني ميل فيها عن معتقده ، صدقاً لم أظن في حياتي أنني سأستمع لرجل يجعل لون البشرة سبب إلحاده ، سألت ميل عن امه فقال أنها امرأة في السبعين من العمر ، تسكن في حي السود ، وهو لم يراها منذ عامين تقريباً ، طلبت منه التعرف عليها فضحك وقال أننا العرب عاطفيون بشكل مقيت ، وفعلاً ذات أحد أخذني عندها ، ودخلنا البيت ، كانت هنالك امرأة بدينة جداً ، تجلس على كرسي متحرك ، وجوارها كلبٌ أسود أيضاً ، نظر ميل نحوي همس بارتجاجة بدت في صوته
- أتعلم ، لم اكن أدري أن أمي تستخدم كرسياً متحرك
- هل هنالك أحد ( جاء صوتها المبحوح )
- إنه أنا ، ميل يا أم ، تقدم نحوها وطبع قبلة باردة على خدّها
- ميل ؟؟ ظننتك متّ ، جميلٌ أنك حضرت ميل

عاد ميل نحوي مشدوهاً
- ناصر أمي صارت عمياء

لا أنكر ، شعرتُ بحزن عميق نحو هذه السيدة ،
- ماذا تريد ميل ؟
- فقط أحببت أن اطمئن عليكِ وسأغادر حالاً

لم تتفوّه العجوز بكلمة ، وحين همّ بالخروج أمسكته من ذراعه وقلت له
- هل أنت مجنون ألا تريد ان تقضي اليوم معها
- مجنون لو بقيت ، ماذا أريد من امرأة عمياء كسيحة ؟ إن حضن صديقتي هذه اللحظة اجمل منها

وخرج ميل ، ولم تقوى قدماي على اللحاق به ، إلى أن جاء صوت العجوز
- ميل أما زلتَ هنا ؟؟
- لا يا سيدتي ، إنه انا ناصر ، صديق ميل
- أوه ، سعيدة انك ما تزال موجوداً ميل ، الجو بارد هل تدخلني لغرفتي

لا ادري ، هل أصيبت بالصمم ايضاً ، لكنها حادثت ولدها فكيف لم تسمعني ؟ ومع ذلك حرّكت كرسيها وأدخلتها لغرفتها
- ميل ، هلا أحضرت علبة الدواء إنها على المنضدة الموجودة تحت النافذة ومعها كوب ماء لو سمحت

وبحركات آلية أحضرت الدواء وكوب الماء
- هلا جلست جواري ميل ؟

وفعلاً حققت لها طلبها وجاورتها ، فمدت يدها البدينة ومسحت وجهي قائلة ، حلقت ذقنك إذاً ، اظنك صرت وسيماً يا صغيري ،
لم أحرك ساكناً ، وبقيت مشدوهاً من تلك المرأة ، خشيت انها لم تسمع صوتي في الخارج بسبب صوت الهواء فإن سمعته الآن فستعرف أن ولدها هجرها وربما لغير رجعة لذلك اكتفيت بتلبية رغباتها بصمت حتى استسلمت للنوم ، فتركتها وخرجت

بينما كنتُ أعود للبيت ، كانت الأفكار تأخذني لبيتي ، هل سيأتي الزمان وتضام أمي فيه وتحلم برؤيتي فأنأى عنها ؟؟ وهل لو عرف أبي أنني أخدم امرأة مسنة سيفرح بي ويفاخر ؟؟
لا ادري ، صدقاً لا أدري ، ومنذ ذلك اليوم ، أنهي جامعتي وأذهب إلى بيت تلك المقعدة ، اخدمها واطعمها واغسل ثيابها لها ، وأنظف البيت أيضاً ، مسكينة كانت تستأجر من يخدمها وتدفع المبلغ الذي تمنحها الحكومة إياه في سبيل خدمتها ، والغريب أن العجوز ما كانت تكف عن الحديث ولم تحاول يوماً ان تسألني ولم تستمع بعد تلك المرّة لصوتي أبداً ، ميل كان ينظر لما افعله باستغراب شديد ، كان يقول لي أن ما اقوم به هو الجنون بعينه ، لكنني لم أكن اجيبه ابداً ، وتركز محور حياتي حول دراستي وتلك العجوز ، حتى ذلك اليوم ، الذي دخلت البيت فيه ، وكانت العجوز ملقاة على الأرض ، اسرعت نحوها ، ورفعتها رغم ثقلها ثم هاتفت الإسعاف وتمّ نقلها إلى المستشفى ، أخبرني الطبيب الذي كشف عليها أنها تصارع الموت ، هاتفت ميل لأخبره لكنني لم أستطع تحصيله ، فتركت له رسالةً صوتية وكلّي أمل أن تظفر العجوز بلمس خدّ ولدها قبل رحيلها ، سهرت قربها طيلة الليل ، رغم فقدانها للوعي ، وحين استيقظت بحثت يدها عن خدي حتى لمسته وقالت بصوت منهك متعب : شكراً يا ناصر ، ليت ميل حمل قلبك .
ثمّ أخرجت الروح ، أدركت حينها وبعد موتها أنها كانت تعرفني لكنها كانت تمثل على نفسها ، كانت تريد ان تشعر أن ثمرة حملها لم تكن متعفنة
الغريب أن ميل لم يشعر بالحزن لموتها بل اعتبره راحة لها وله ، ورفض التكفّل بمصاريف الجنازة بحجة أنّ الحي أولى بالمال من الميت ، فدفعت تكاليف الجنازة مني ودفنتها وحدي حيث لم يحضر جنازتها أحد ، الجميل أنها عرفت كيف تنتقم من ميل ، فقد اوصت بالبيت وبكل ما ادخرته طيلة حياتها للكنيسة المجاورة لبيتها وأوصت لي بكلبها ، شعرت انها أوصت لي بأفضل شيء تملكه ولكن لأنني لا أحب الكلاب فقد اطلقته لسبيله فلا حاجة لي به
توقيع :  إيناس الطاهر

 

إيناس الطاهر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس