عرض مشاركة واحدة
قديم 09/06/2007, 03:53 PM   #106
إيناس الطاهر
روح المـطر
 
الصورة الرمزية إيناس الطاهر
افتراضي


(سي السيد - تابِع )


رغم أننا نحيا في بيت سي السيد ، إلا أننا لم نكن نشعر برجولتنا الكاملة ، فكان لا يحق لنا أن نضرب أخواتنا الإناث ، ولا يحق لنا أن نأمرهن ، أو ننهرهن ، أو نمارس طقوس الرجولة المتخمة في حضرة الوالد الكريم ، كان يوبخنا إذا ضايقناهن ويقول بعينين تقدحان شرراً ، لن يطال بناتي ضيم وأنا أتنفس

أبي مزيج عجيب ، لم أكن أشعر معه بالرحمة أبدا ، وكنتُ أشعر بالمقت له أحياناً كثيرة ، فطبيعته العجيبة ، توحي بالديكتاتورية والظلم والجور ، أيام العطل حين كنتُ أنزل معه إلى محل الأقمشة كنتُ أراه ذلك السيد الذي استولى على قلوب أهل الكار ، كلهم يقدمون الولاء والطاعة له ، يهتمون برضاه ، كان دوماً يتعامل مع الجميع بأسلوب التاجر المتمكن ، لم يخسر في تجارته يوماً ، وكان يقول لي بين الفينة والأخرى ، التاجر الحقيقي ، هو الرجل الحقيقي ،
لم أره في يومٍ من الأيام يردّ جائعاً أو متسولاً أو حتى فقير ، كان يعطي بلا حساب ، كم هو غريب هذا الرجل ، فيه من كل شيء خصلة ، حتى الرحمة اظنها تسكن قلبه الغليظ أحياناً

حين كنتُ أرافقه إلى المسجد أنا وإخوتي في الجُمع ، كان يقف في الصفِّ الأول ، وكنتُ أخجل ان أقف جواره ، كيف أقف جوار الملك ، فكان يشدني من ساعدي ويقول : أتكره أن تحصّل من الأجر أكثره ؟! ، الرجل الحقيقي لا يتخلّف عن المجلس الأول
يووووووووه ، من هو الرجل الحقيقي ؟؟ أهو التاجر الحقيقي ؟؟ أم صاحب المجلس الأول ؟ أم هو ذلك المتصدّق المحسن ؟ أم هو قابض الأصوات ؟؟ ما عدتُ أفهم تلك الفلسفة الرجعية ، ولكنني في ذات الوقت لم أكن لأجادل أبداً
وتمرّ الأعوام ، لأنهي الثانوية بمجموع كبير ، وتدخل الفرحة البيت من أوسع أبوابها ، فالابن البكر رفع رأس أبيه ، وتزغرد أمي في حضرة السلطان ، والغريب انه لم ينهاها أبداً بل كانت الضحكة تتراقص في عينيه وكأنه عاد طفلاً صغيراً يفرح بالعيد حين يحضر ، وزاد زهوه في الحارة ، ( يا أرض انهدّي ما عليكِ قدّي ) ، أنا من نجح وليس هو ، فلم كل ذلك الفخر العجيب؟

ذات مساء يناديني فأقبل إليه مهرولاً وأجلس قبالته وقلبي يطرق بشدّه
- والله كبرت يا ناصر وصرت رجّال
- كلّه من خيرك يا والدي
- إياك ، هو من خير الربّ يا ولدي فإياك أن تنسب الفضل لغير أهله
- عذراً والدي ،
- والآن ، ماذا تفكر أن تدرس يا ولدي ؟

ويلوح الصمت ، أدرس ؟؟ صدقاً لم أفكر في ذلك البتّة ، هل يعني ذلك أنني سأكمل تعليمي الجامعي ؟ وأدرس ؟ كنتُ أظنه سيطالبني الوقوف جواره في المتجر وتعلّم الصنعة ، يااااااااااه ، أنا طالب جامعي ما أجمل ذلك
قال أبي وكأنه ما كان ينتظر إجابة مني
- معدلك يؤهلك لدخول كلية الطب ،

صدمني ، لقد قرّر عني ، وافرض مثلاً أنني لا أريد دراسة الطب يا أبي ( طبعاً قلتها في قلبي )
- ألمحُ فيكَ خيراً كبيراً ، أظن نيويورك ممتازة لدراسة الطب ، وخالك هنا فلن تشعر بالغربة أبداً

ويقرر مرّة أخرى بالنيابة عني ، ويحك يا رجل ، من خوّلك لتفكر عني أنا ، فلتذهب للجحيم ما أبشع طريقتك !
- هاه يا ناصر ، ماذا قلت
- إ، إإإ ، أووووه ، كما تشاء يا والدي
- جميل جداً ، حضّر نفسك ، سأهاتف خالك اليوم ونتفق

لا أدري كم مرّ ، لكن عرفت من أمي أنّ أبي أرسل أوراقي بالبريد إلى خالي في ولاية نيويورك ،وبعد فترة جاء قبولي في إحدى الجامعات هناك ، وتحددّ سفري في اكتمال بدر الشهر المقبل ،
ولا اعرف ، هل كنتُ سعيداً بذلك أم حزيناً ، لقد كنتُ أصغر من أن أتحمل مسؤولية الغربة ، وفي ذات الوقت كنت سعيداً بالخروج عن سيطرة أبي ، كنت سعيداً أنني لم اعد من أملاكه الخاصة

وسط دموع أهل البيت جميعاً ، أغادر البيت ، ويرافقني أبي حتى المطار
وقبل إقلاع الطائرة ، يناولني مصحفاً في يدي ويشد على كتفي ، إياك النساء والخمر يا ناصر ، إياك ، كن رجلاً حقيقياً
توقيع :  إيناس الطاهر

 

إيناس الطاهر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس