عرض مشاركة واحدة
قديم 09/06/2007, 03:50 PM   #105
إيناس الطاهر
روح المـطر
 
الصورة الرمزية إيناس الطاهر
افتراضي

( سي السيد )




لستُ خيالياً ، ولا متأثراً بأفلامِ السينما القديمة !! صدقوني لستُ كذلك ، إنني فعلاً أنقل واقعي بتلقائيةٍ وشفافية ، فأنتم لا تعرفونه ، لقد كانَ لصوتُ أبي في الردهةِ مهابةٌ تنفثُ الخوفَ فينا ، فيصمت عن الكلامِ حتى دبيب النملِ في أعشاشه لا تسمع ، فأبي ، كان ( سي السيد ) ، حين يدخل البيت بعد عناء يومٍ طويل ، ونسمع تنحنحه ، تلوذ منّا كلّ كلمة كادت تخرج ، وتقطع كلّ جملةٍ قبل أن تكتمل ،
ملكُ البيت إنْ حضر ، عميَ من عيوننا البصر
حتى أمي ، تصبح كالنحلةِ الشغالة ، ما تفتأ تجلس حتى تقوم ،
تحضّر طست الماء بالملح ، والمنشفة الزرقاء الناعمة ، وجلابية أبي الحريرية ، وما أن يجلس على أريكته حتى تسرع إلى قدميه ، تخلع عنه نعليه ، وجوربيه ، ثم تدخل قدميه الطست وتغسلهما بحنان ، كأنها تداعب قيثاراً أوتاره أصابع أبي ، ثم تنشفهما جيداً ، وتدهنهما بالزيت الدافئ ،

وتبدأ النحلة الشغالة وبناتها بتحضير مائدة الطعام ، كلّ الأصناف التي يحبها والدي تتواجد على الطاولة ، وأولها طبق الزفر الذي يرمّم عظم الرجل الكادح في البيت ، ويوضع إناء الماء والكوبُ أمام الكرسي الذي ترأس الطاولة ، ثم تدخل النحلة غرفة نومها لتنادي سي السيد حتى يتناول غداءه ، وحتى يخرجان من الغرفة تبقى عيوننا ترمق المائدة ولعابنا يتسايل من أطراف الفم ، ورائحة الطعام تنخر أدمغتنا الصغيرة ، ألا ليت لي بقضمة قبل أن يحضر أبي .

ويأتي ليجلس خلف كرسيه ، ثم ينادينا للحضور فنحلق حوله كما الحمائم الوديعة التي تخرج هديلها الهاديء تطالبك العطف عليها ومسح جناحيها بحنان ، وننتظر والدنا حول المائدة ليبدأ طعامه أولاً ، وطبعا قبل أن يمدّ يمينه يرفع كفيه للسماء ، وبصوتٍ رصين يقول :

إلهنا ، ربّ الأرباب ، الواحد الرحمن الرحيم ، الحمد لك من قبل ومن بعد على ما أنعمت به علينا ورزقتنا ، شكر لا يليق إلا بوجهك ومهما زاد نقص في كمالك ، نسألك دوام النعمة والعافية ، ونسألك طهر مأكلنا ، وطهر مشربنا ، وطهر ملبسنا ، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا أتيناك طائعين ، أدمها علينا من نعمة وامنعها من الزوال ، بسم الله

ويمدّ يده للطعام ، لنهتف بعده آمين ثم بسم الله ، ونمد أيدينا ، وطبعاً لا نأكل من طبق لم يضع أبي يده فيه ، ولا تسمع طيلة جلوسه صوتاً لملاعق أو صوت طعام يمضغ ، ومهما كانت لهفتك للطعام فلن تقبل عليه بشرهٍ أو فجع ، بل تدعي أدب تناوله في حضرة الملك ، حتى يشبع ويقول الحمد لله ، فتسرع النحلة الشغالة معه إلى المغسلة تمسك له منشفة تناوله إياها بعد أن ينتهي ، ينشف يديه ويدخل غرفته ليأخذ قيلولة الظهيرة ، وطبعاً لن أتحدث عمّا يحدث بعد نهوضه ، فكأن ضغطاً كبيرا ارتفع عن صدورنا لتبدأ رحلة العراك حول المائدة ، ويأكل كلّ بطريقته والشاطر من يأكل أكثر من حصته
توقيع :  إيناس الطاهر

 

إيناس الطاهر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس