عرض مشاركة واحدة
قديم 17/04/2007, 01:05 PM   #68
إيناس الطاهر
روح المـطر
 
الصورة الرمزية إيناس الطاهر
افتراضي



عدالة البشر




كانت دائمة السؤال ، تريد أن تعرف كل شئ وأي شئ .... كانت تعشق اكتشاف المجهول و لا تمل السؤال ، عندما أصدها لم تكن تغضب بل تعيد السؤال مرة وثانية وثالثة .... فاستسلم ولا تستسلم ... لم تكن لصغر سنها تدرك أن الإنسان وعقله ما هما إلا ذرة في هذا الكون الفسيح ... كانت تظن أنني قادر على الإجابة على كل تساؤلاتها فقط لأنني ابوها ، يعني مثلها الأعلى ... عندما كنت أقول لها : لا يا بابا هذه خطأ ، أصاب بأمطار ووابل من أسئلتها التي لا تنتهي حول لماذا ؟ وكيف ؟ ومتى ؟؟؟؟

عندما عادت من مدرستها كنت جالسا في مكتبي انهي بعض أعمالي التي لم يتم إنهائها في المكتب ، قبلتني كعادتها و ذهبت لغرفتها ، لحظات وتعود ابنتي لي : بابا ... ماما تقول الغداء جاهز
- لا بابا ... عندي شغل كثير ...
- إذا ؟؟؟
- اذهبي وكلي مع ماما وناصر
- أف ... كالعادة نأكل وكرسيك فارغ .... لماذا أنت أبونا إذا ؟؟؟
- سارا ! – مصطنعا الغضب-
- حسنا ذاهبة لا تغضب ... سأقبلك لاتاكد انك لست غاضب .
تقدمت مني وبدل أن تضع شفتيها على خدي عضت أذني ، وعلى صراخي انطلقت ضاحكة ...

في المساء اجتمعت آسرتنا كاملة – ونادرا ما كانت تجتمع بسبب غيابي ، عندها وقبل أن ارتشف من فنجان قهوتي الذي أعدته سلوى ابتدأ دماغ صغيرتي بالحركة لتسألني :
- ما العدالة يا بابا ؟؟؟
استغربت سؤال طفلتي ابنة الثانية عشر ربيعا ، لكني قلت لها : العدالة ؟؟؟ العدالة !! آآآآآآآآه .... العدالة يا سارا في أن يحيا الضعيف دون خوف ... والفقير دون جوع ... و دون وجود مشردين على الارض ... والإنسان بلا استعباد ...

صمتت وبدا أن صمتها حمل عدم الرضا عن الجواب أو كان ما قد قلته لها لم يقنعها ... لذا وقبل ان ارشف من فنجاني قالت : ضعيف ؟ فقير؟ مشرد ؟ استعباد ؟ .... هل يعني هذا يا بابا ان العدالة لا تبحث الا عن هؤلاء .؟؟؟ لا شأن لها بالأقوياء والأغنياء والظالمين والأحرار ؟؟؟

ابتسمت ومسحت على شعرها وقلت : بلى بلى يا سارا ... فعلى القوي ان يراعي الضعيف ، وعلى الغني مساعدة الفقير ... واما الظالم فلا يحق له الا ان يكون عادلا وطيبا وعندما نقول الحر فنحن نعني الابيض و الاسود دون استثناء لعرق أو دين أو لون أو جنس أو عمر يا صغيرتي ...

حكت شعرها ببراءة وقالت : وان لم يفعلوا يا بابا ؟؟؟
- تنتقم منهم العدالة – اجبتها دون تفكير –
- وان كانوا فوق القانون ؟؟؟ - سألتني بثقة –
- فوق القانون ؟؟ كيف ؟؟ لا اجد احدا فوق القانون يا سارا –متشككا-
- بابا ؟؟ تذكر... وكانها تريد ان تحيرني
- لا افهم .... فعلا يا سارا لا افهم ...
- اصحاب الشبح والليموزين ... اصحاب الفيلل والقصور ... اصحاب الملايين يا بابا والشركات و المؤسسات ... اولئك الذين يدفعون في سهرة واحدة ما تنفقه انت علينا في عام ؟؟؟

عندها نظرت لصغيرتي ... انها ليست سارا الطفلة البريئة ... كيف لعمرها ان يعرف الليموزين و الفيلل ؟؟؟ كيف لعقلها الصغير ان يفهم الحساب ويعرفه ؟؟؟ نظرت اليها ولا اعرف هل افخر بها ام اخشى عليها ... حدقت بي وكانها عرفت ما افكر

- بابا ... لست طفلة يا بابا ... ادرس في مدرسة خاصة ... اجلس على النت .. اعرف اكثر مما تعتقد ... العصر يتقدم يا ابي ...

عندها فتحت فمي دهشا ... ابنتي محللة وقارئة افكار ؟؟! وهنا انطلقت ضحكة ناصر ... ابن الستة اعوام ... يقول : سارا تغلب بابا ... سارا تغلب بابا ... هيه هيه ... سارا تغلب بابا ...

شعرت سلوى بمدى الحرج الذي انا فيه وقالت : سارا ، بابا متعب الان ... لن يستطيع مناقشتك ، أتعلمان اننا سنذهب في الغد الى البحر ... سنقضي اجازة الاسبوع معا

علت ضحكات ولداي ... وخرجا وهما يفكران بالسعادة التي سينعمان بها في الرحلة ، التفتت سلوى لي وقالت : حاتم ؟؟
- نعم يا سلوى
- شعرت للحظة انك عاجز عن مناقشة سارا !!
- لست ادري يا سلوى ... البنت تفكيرها يفوق عمرها !
- انها ابنتي !... ذكية كأمها – بفخر-
- اخشى ان اعجز عن اشباع نهمها للمعرفة
- وماذا في ذلك؟؟
- ساسقط من عينها
- كلا بربك !!! لا تفكر بهذه الطريقة يا حبيبي ، صنعت من السؤال مشكلة ...
- قولي لي سلوى ... هل ميزان العدل متساو لكل الاطراف ؟؟
- لا افهم!
- هل ميزان الرئيس يشبه ميزان المرؤوس ؟؟
- كله ميزان
- هناك فرق يا عزيزتي ...
- وما هو ؟؟
- في ميزان المرؤوس كفة له وكفة عليه وفي ميزان الرئيس كفتان كلتاهما له
- لم افهم
- الرئيس يا سلوى كفتاه لصالحه لانه صاحب المال و القرار
- حسنا والمرؤوس ؟؟؟
- المرؤوس دائما الكفة عليه ما لم يرضى رئيسه عنه ... والا فاللعنة يا سلوى اللعنة...
- حاتم ... لا افهم ، ما افهمه انك زوجي وسارا وناصر ولداي وهذه الحياة عندي

صمتّ لاني اعلم انها لن تفهمني ابدا ... مهما حاولت الشرح ...
صباح اليوم التالي كنا جميعا بالسيارة منطلقين الى البحر بين غناء ومشاكسة ولداي الشقيان ، وحين وصلنا بدأت السعادة الغامرة بيننا ... الكل سعيد ، سلوى تدرب ناصر على السباحة ... اما سارا فقد تسللت الى جواري .. شدتني من يدي وقالت بالحاح
- انت لم تجب على سؤالي يا بابا
- أي سؤال يا سارا ؟؟؟
- العدالة ؟ ما العدالة يا ابي؟؟
- اجبتك ، الا تذكرين ؟!
- اذكر ، واذكر جيدا انك توقفت عند الناس الذين تعطيهم مراكزهم تسهيلات كثيرة..
- سارا ، يا ابنتي الحبيبة ، اريدك ان تعرفي ان العدالة هي الميزان ، القانون ، الانسان ... انها...
- بابا – مقاطعة - ، ومن كان فوق القانون ؟ ، بيأس..
- للمرة الثانية والثالثة والالف والمليون ... يا حبيبتي لا احد فوق القانون ...
- أتعلم يا ابي ، لاول مرة لا تفهمني ... للاسف ، لا تفهمني .
- لا تقولي ذلك ابنتي ، قولي لي من زرع بذهنك فكرة فوق القانون اولا؟؟
- و تصدقني ؟؟؟
- طبعا.
- المدرسة !
- مَن ؟؟ هل قالت المعلمة لكم ان القانون لا يحمل سلطة على الجميع ؟؟
- لا يا ابي هي لم تقل ، هي فعلت
- وكيف حدث هذا ؟؟؟
- اول امس الاربعاء ، ضاعت نقود لطالبة معنا بالصف ، وعندما بلغت المعلمة ، طلبت المعلمة مني ومن صديقتي اخلاص تفتيش حقائب الطالبات ، وعندما فعلنا وجدنا النقود في حقيبة سوزان .. وسوزان يا بابا ابنة مليونير معروف وهو من يقوم بتمويل مدرستنا كل عام ، ويقدم تبرعات باهظة وكبيرة جدا..
- نعم نعم ... وماذا حدث بعد ذلك ؟؟؟
- اجلوا الموضوع حتى الخميس . وفي الامس طلبوا سوزان ولم يخبروا والدها ، وحين استجوبوها انكرت ذلك وقالت انها لا تحتاج لهذه النقود حتى تسرقها ، اتدري ماذا قالت يا ابي ؟؟
- اجل ...
- قالت ان اخلاص التي وجدت النقود في حقيبتها لا بد وان تكون من وضعها حين خشيت من افتضاح امرها ... أتصدق ؟؟؟ واين المشكلة يا ابي ؟؟؟ ان المديرة وافقت على هذا الاقتراح ، ومساء الامس تم فصل اخلاص لانها برأي المديرة هي السارقة ، والملفقة للتهمة لابنة المليونير ... تخيل يا بابا ... صدقوا سوزان ، مع ان الدليل واضح ضدها

لم ادري ما اقول غير : ربما ان هذا ما حدث فما حاجة سوزان بتلك الاموال ؟ مديرتك ادرى منك واعلم يا سارا . اليست اخلاص تلك الفتاة التي قلتِ لي ذات مرة ان والدها لم يدفع قسط المدرسة لها ؟؟؟ واضح ان ما قلته مديرتك هو الصواب

نظرت طفلتي لي بحنق وغضب ، ذهبت ودخلت السيارة ولم تخرج منها رغم نداء أمها المتكرر ، مما اضطرنا للعودة للبيت / وما ان وصلنا حتى دخلت طفلتي غرفتها واغلقت بابها عليها ، بضع ساعات وتبعها ناصر ونام ، اما سلوى فقد حضرت فنجانين من القهوة وجلست قبالتي مستفسرة عما حدث ، وحين اخبرتها قالت : سامحك الله يا حاتم ، الا تعلم ان اخلاص افضل رفيقات ابنتك ؟؟؟ وانها ادمث صويحباتها خلقا؟؟؟
- افهميني يا سلوى ، انا واثق من براءة الفتاة
- اذا ؟؟؟
- لا اريد لابنتي ان تتعلم قاعدة فوق القانون ... لا بأس من ان اشوه صورة صديقتها امامها طالما ان ذلك سيساعد في المحافظة على صورة الحياة امامها
- تقصد انك لا تريدها ان تعتبر سوزان حالة عامة ؟؟
- تماما يا عزيزتي

عندها سمعت صوت نشيج ياتي من خلفي ، وقبل ان التفت كان صوت سارا يقتحم اذني ، لماذا يا بابا ؟؟ ماذا كانت ستكون حجتك؟؟ لو كنت انا من وجد النقود ؟؟ لماذا يا ابتي ؟؟؟

التفت اليها وصرخت : منذ متى وانت هنا ؟؟؟ كيف تتنصتين علينا ؟؟
- - اسفة ابي . لم اكن اقصد ، اتيت لاقول لك ان اخلاص بريئة ، لا تمد يدها لممتلكات غيرها ، امانتها تمنعها من وضع نار في يدها ... اردتك يا ابي – تنشحت – ان تعلم ان لاخلاص الفقيرة قناعة لا تملكها سوزان الغنية التي تعودت ان تحصل على ما تشاء ... اردت اخبارك بكل هذا ... فوجدتك واسفي تعرفه كله... وجدتك تزيف الحقيقة يا ابي ، ان لم تعرف العدالة مع اخلاص ومعي ، فكيف ستعرفها مع الناس ؟؟؟ ان لم تكن عادلا في حكمك على الحق فكيف تجيب معنى العدالة ؟؟؟ كيف تجيب عن معنا انت لم تعرفه ؟؟؟ ساقول ما قد قلته لامي منذ قليل ) لا بأس من ان اشوه صورة صديقتها امامها طالما ان ذلك سيساعد في المحافظة على صورة الحياة امامها ) ولكني ساغير فيه : لا باس من ان امحي صورة ابي القديمة لتحل مكانها صورته الجديدة ... ساحافظ على المنظور الذي تحب يا ابي ... اعدك...

ذهبت ابنتي لغرفتها واغلقت بابها على نفسها وتركتني معقود اللسان ، بينما قالت سلوى : الان فهمت سبب خوفك من عقل صغيرتك الناضج قبل اوانه ...
لم استطع الاجابة على تعليقها ، فجملة ابنتي الاخيرة بقيت تطوف بعقلي وتنزل بعدها لقلبي فتمزقه اربا ... لقد قتلت ابنتي ثقتي بنفسي ... وحطمت شيئا بداخلي وبنت بنيانا قاسيا عندي .
ومنذ ذلك الحين لم يحدث وان جاءتني صغيرتي لتسأل أي سؤال ، تغير كل شئ ... اصبحت تلجا لاي كان عداي ، وكم حاولت الدخول معها في نقاشات لكنها كانت تغلق الطريق امامي ....

ترى ايهما الصواب ، ان نغلف المرار بالسكر لاولادنا ليتذوقوه و يكتشفوا طعمه تدريجا وحين يكبرون ؟ ام نتركهم يتذوقوه مرا منذ البداية ؟؟؟
ايهما الصواب ؟؟؟ ان اخبر ابنتي كل شئ ام احاول تزييف الحقائق لها ؟؟؟
يا ترى لو كنت قلت لا ادري منذ البداية ، هل ستكون علاقتنا على ما هي عليه الان ؟؟؟ ْأشرح لها ام اتركها للايام تفهمها ؟؟؟ لا ادري ... حقا لست ادري ....!!!!!
توقيع :  إيناس الطاهر

 

إيناس الطاهر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس