عرض مشاركة واحدة
قديم 14/04/2007, 10:35 AM   #53
إيناس الطاهر
روح المـطر
 
الصورة الرمزية إيناس الطاهر
افتراضي 3


أوان الورد



لم تكن امرأة في حسنها ، جميلة الوجه ، بديعة التكوين، كحلاء العين ، سوداء الشعر .... أبدع الخالق فيها ، فوضع فيها من كل مقياس جمال قالباً... إن تحدثت أطربت ، وان صمتت سحرت.. إن نظرت أسرت ، وإن طرفها غضّت – القلوب ألهبت - .... إن مشت تهادت في مشيتها فـ تشتهي الأرض تقبيل كاعب القدم .. وإن وقفت رفعت الرأس فوق عنق كـ الخيزران ، وجسد كـ الريحان ، لؤلؤ اصطف خلف ورد ، كـ طابور ثابت قوي يتنور بـ نور وجهها إن ضحكت ، ويختبئ حياء من رقة الشفتين إن تاقت لضمهما... إن جلست وقفت لها الأجساد بـ احترام ، وإن وقفت ركعت لها الهامات بـ استسلام ...أنيقة الملبس .. عطرها يخبر عنها ، وملبسها ينبئ بـ مكانتها ... رأسها المرفوع يحذر من غرورها .

حلم شباب الأرض كانت ، لا يراها عازب إلا وتمناها حليلة تشاركه سود الليالي ... وان لمحها الثيب كره من جاورته فراشه ، مستقّلاً أيام سعده ... وان اشتم رائحة عطرها الميئوس من شفاه للعن زمانه ورجا القدر لو كان له في العمر بقية ... وان كان لا بد من موته فليكن بين ذراعيها لـ تلحظ الأطراف حورية الله على الأرض تمشي !!! وأما الصبي إن رآها لـ تمنى بسمة يحسده أقرانه عليها ... ويا ويلها إن سلكت طريق النساء ، فـ لن تجد إلا حاسدة أو حاقدة أو لاطمة خدها أساً أو عاضة شفتيها ألماً !!!؟

حقاً حلم الحالم كانت ، ونشوة النائم ، وإفطار الصائم ، واستقامة القائم ... أما هي !!!! فلم يفتها ما بها من جمال ، ولم يزدها ذاك إلا غروراً على غرور ،،، و كبرياء فوق كبرياء ... و عجرفة تهدم عجرفة ... من الخارج كانت البلور ورائحة المسك ، ومن الداخل كانت الفتور و طعم المسك !! ،
أجل لم تكن بحاجة لمرآة كي تصلح شكلها حتى لا يغير خيالها من حسنها ؟؟؟ لكنها ... وفي كهف قلبها ، تبيت شنيعة المنظر ، قبيحة المظهر ، مزرية المحضر ... وكـ حال أي فتاة مرغوبة ، جميلة ومطلوبة ، فقد تهافت الخاطبون ، وكثر الراغبون ، خاطب غني و خاطب فقير ، واحد كبير و آخر صغير ، طالب مثقف وفرد لا يحمل في العلم تقدير !!! ...

و هي ! لا ترى فيمن خطب المستحق، أو الفارس المنتظر ، ليس لأنها تحلم بـ رجل !!! بل لأنها ترى من نفسها عظماً لا يطاله الرجال ، و عزاً أكبر من الملوك الفرسان !. حتى كأنها تنتظر أن يكون آسرها نبيا منتظر – و أنّى له أن يكون – ، أو مالكا للمشرقين والمغربين – وهل يعاد مخلوق كذي القرنين ؟؟ - ، أو ربما رجل بـ حسن يوسف وغنى قارون !! ... وفي نفسها تعلم أنها لو وجدت رجلاً يجمع كل ما في البشر من محاسن لـ قالت : أنّى لهذا أن يكون مالكي؟!!!

و عاماً تلو عام و هي تخذل من جاءها طالباً ، و ترد من رجاها خائباً ، وتلحق الرفض بالتجريح ، و أخيراً أدارت ظهرها للخطاب ، و أنزلت دونهم الحجاب ، و أغلقت على نفسها الأبواب . فقبعت في حجرة من عاج ، و فراش من سندس و حرير و ديباج ، ولم تضع في مملكتها الصغيرة غير زجاجات من العطر ، و كثير من الثياب ، ولا يُدخل الطعام إلا على أطباق من الذهب وماء بـ أكوابٍ من فضة !! ولا يراها سيد أو خادم أو عبد .. و مضى على حالها سنينَ وسنين ، حتى طواها النسيان ، ونسي اسمها كل إنسان ، وبعد حين من الأحيان راقها أن تخرج للعباد ، فقد تاقت لنظرات الهيام والاستعباد ...! فـ ترتدي أجمل الثياب ، وتضع سيد العطور ، و تخرج من باب عزلتها و تبدأ بالسير والسير والسير و المسير ....
و تضايقها الأرض ، تسال نفسها: لِمَ عساها تعبت و الأرض مرصوفة بـ انتظام ؟؟ فتجيبها النفس الآمرة بالسوء – ربما طول الرقود كان السبب - ، وتمضي ، و كم يذهلها لا مبالاة البشر من حولها ،، النساء ينظرن للثوب و حسب ، والمتشاغلون يرفعون الرؤوس بعد اشتمام العطر ،،، ثم لا تلبث النفوس بـ إهمالها !!!! وما زاد جنونها أنها مرت بـ حسناوات يتبادلن أطراف الحديث فما رأت عين مراهق تحيد عنهن إليها !!! فـ تواسيها نفسها اللوّامة – يريدون أن يكيدوا لكي كيداً ، فـ تجاهليهم فـ مثلك أعلى من اللوم - ... وتصل مولاة الجمال لـ شارع ضاق من ازدحام المارة ، فـ تتوقف حيث كانت تكره مساواتها بـ هؤلاء اللا شئ !!؟ - كما كانت تسميهم - ، وهناك من بعيد رأت وسيماً يحدق بها ، و يقترب اكثر ، فـ اكثر . في داخلها قررت إن حادثها أن ترميه بـ كلمة تفقده ما به من وجاهة و سيادة ، فـ لما صار جارها أزاحت ناظريها ، فـ همس لنفسه – علها لا تراني - ، انحنى نحوها وقال برقة : أأساعدك في عبور الشارع يا جدة ؟

يا جدة ، يا جدة ! يا جدة ؟ يا جدة!!!؟؟؟؟؟
مراراً وتكراراً ترددت الكلمة الأخيرة في ذهنها ، فـ حدجته بـ نظرة شرسة ، ثم أزاحته بكل قوتها حتى كاد يسقط . لعنها بـ صوت عال فـ انقبض قلبها لـ عزة في نفسها ما جرؤ أحد منها على سبها ! شهقت و لطمته على خده ، فتجمع الناس حولهما وكلهم يحاول تهدئة الوضع ويرجون الشاب بالتزام الصبر . تقدمت منها عجوز قائلة : إهدأي يا اخيّه ، فـ قالت بـ غضب : ذلك الأخرق قد تطاول علي ، ثمّ.... جحظت عيناها و لم تنتبه لصوت أحد حولها ، فقد راعها تغيُر صوتها ، وتلك الحشرجة الخشنة في صوتها ! و كأنها فهمت بـ قهر قصد الفتى بكلمة جدة ، وما عنته العجوز بكلمة اخيّة ،،،، فـ مضت مسرعةً حتى اختفت عن الأنظار ...

أوقفها التعب أمام منزل لـ قوم يتسامرون ، التفتوا لـ لهاثها المستمر بـ اهتمام . تقدمت طفلة وبـ حنان همست : كوب ماء ؟؟؟
ردّت مولاة الجمال نافية : مرآة ... أعطني مرآة ،،
وبين ذهول الموجودين أحضرت الصغيرة مرآة وناولتها لها ، و بيد مرتجفة ، و عين دامعة ولسان يسأل الرب أمرا ،، نظرت وجهها ،، شهقت ،، ثم أعادت النظر فـ لطمت ،،،
أمعنت النظر ،، فـ صرخت ...
إنها تغار منها ، دوماً كانت المرآة تغار منها ، وإلا فما معنى ما هنا تراه !!؟؟ ، عينان ناعستان غائرتان ، شفتان ترتعشان مضمومتان !! ثم ،، خطوط كثيرة تنتشر على الخدين وتحت الذقن و على الجبهة ، أهي التجاعيد ؟؟؟ وعنقها الطويل ، عنق الخيزران ، بات مترهلا غريبا .. بكت و بكت ... بـ حرقة و ألم بكت ... حدّق الجمع بها في عدم استيعاب لكل ما يجري إلا عجوزا تقدم نحوها فلاقت عيناه عيناها ... حاولت جاهدة تذكره لكنها لم تقدر رغم ثقتها أنها رأته ذات يوم .. قال بـ همس تعمد ألا يسمعه سواهما : ألا تذكريني يا سيدتي ؟؟ أنا خاطب جاءك ذات يوم فخور بـ نفسه ، معتز بـ علمه ، عصامي بنى نفسه ، جاءك واثقا بـ شبابه ، فرددته خائبا وأهنته و أضحكت القوم عليه ... ماذا أردت ؟ أردت البقاء حلما عند الرجال ؟؟؟
أما فكرتِ أن للعمر ضريبة ؟؟ أما علّمت نفسك أنها اليوم مرغوبة ، وفي الغد ليست إلا مسلوبة ؟؟؟ ها أنت الآن بلا أهل و لا سند ، بلا زوج و لا ولد ؟ أما أنا فقد تزوجت فتاة لم تكن بـ جمالك لكن انظري الآن لذلك التلألؤ على وجهها وتلك السعادة وهي محاطة بأولاد و أحفاد عظيمة عندهم سعادتها ... أغركِ أن جمالك قاتل؟؟؟ فـ انظري ماذا عساه الساعة يفعل؟؟ لن أقوم برد كرامتي الآن خوفا على تلك الشيبات التي اعتلت رأسك ، لكن عذرا ليس لكِ مكانا بيننا ، لا اقصد هنا ، بل بين البشر!!! عودي لمخدعكِ العاجي و اجعليه قبرك، أنت الآن نسيا منسياً فـ استمري على ذلك ، و تأكدي أني لن افضح هويتك حتى تبقي في ذهن المتخيل تلك الجميلة المغرورة ... اذهبي سيدتي ...

مسحت دمعها و أدارت ظهرها ولسان حالها يقول : ((( يا من ظننتِ أن جمالكِ دائم ،،، تكدري ، فان غدا قادم .... يُميت جمالك ويقتل حسنكِ ،،، و يُبعد عنكِ العاشق المتيم... ))) ، وبقيت تردد : غدرنا الناس و استكبرنا عليهم ، و ما درينا أن الزمان غادر ......

ثـــــــــــــــم غابت في الزحام....
توقيع :  إيناس الطاهر

 

إيناس الطاهر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس