عرض مشاركة واحدة
قديم 14/04/2007, 10:33 AM   #52
إيناس الطاهر
روح المـطر
 
الصورة الرمزية إيناس الطاهر
افتراضي 2

المُهرّج



كل البطاقات قد بيعت لمشاهدة أفضل مهرج في تاريخ السيرك ... بـ شهادة الملايين فقد صار الوحيد القادر على جعل كل من في الصالة يضحك ...

" في الغد علي أن اقدم عرضا يروق المشاهدين ، كم هي صعبة الشهرة ، علي أن اقدم كل مرة أضعاف مجهود أول مرة ... "

اجتماع مطول مع مدير السيرك ... نصائح وكلمات تهديد مختبئة خلف ستار البسمة الصفراء ، وحين هموا بالانصراف جاءه صوت المدير : ، في الغد قدم افضل ما عندك ...
هزّ رأسه واعداً وانصرف ...

غرفةٌ مظلمة ، لا تناسب مهرجاً ... شمعةٌ ضعيفةٌ مضيئةٌ بـ زاوية الغرفة ، بدت الألوان والأقنعة مترامية على طاولة فخمة ... غرفة واسعة ونغمات كلاسيكية تنبعث من الحاكي ... تعلو تارة وتنخفض أخرى ومع دق الوتر يرتفع نبض مهرجنا وينخفض مرة أخرى ... جلس أمام المرآة ، أمسك قطعة القطن وحين همّ بـ مسح الألوان ، خانته يده ، كم يخشى أن ينظر لـ وجهه بلا ألوان ، نسي ملامح وجهه ، نسي ذلك الشحوب الذي يعتلي بشرته ، نسي لونه مع الألوان ... بل بات يخاف لونه دون ألوان ، ترك قطعة القطن ونهض ... كان متوتراً ، كاذبة تلك البسمة العريضة التي تملأ وجهه ... كاذبة ، إن خلفها ألف آه و آه محبوسة !!! ولكنها صارت الحقيقة التي يراها الناس ، حتى ما عادت حقيقة انه معذب موجودة في قاموس المشاهدين ، خرج ناظراً للـ سماء ... مرّ شهاب مسرعاً ، حياته كـ هذا الشهاب ، بـ لا استقرار ، بـ لا عائلة ، مجرد حركات بهلوانية ، وأطباق تتأرجح على كفه المنهكة ، ورقصات ظريفة فوق كرة متدحرجة ، وربما السير على حبل بمرافقة مظلة ، هذه حياته ، التي نسي معها حقوقه ، ونسي انه أب لثلاثة أولاد أكبرهم صبي مريض .

حدق بـ الأقفاص ، كان الأسد مستسلماً للـ نوم ، اقترب منه ، حدق به ... سمع ضحكات الشمبانزي خلفه ، دوماً كان صديقه ، وكان التدريب يتطلب من المهرج الرقص والشمبانزي يضحك في قفزات محببة للجمهور ، ولكن هذه المرة ولأول مرة ، تصبح حركاته ثقيلة باردة وتافهة ومستفزة لقلبه ...
كفى ، صرخ به لكن الآخر ما ازداد إلا حركة ورقصا ، ينتظر من صاحبة تصفيقا وتشجيعا كـ عادته...
ما عاد ينظر ، ما عاد يرى ، دون أن يستطيع أخرج خنجراً من مجموعة مرصوصة على طول بنطاله الملون ، نظر بـ حقد للقرد ورمى الخنجر فتربع في صدر المسكين ، فـ اخرج آهة متألمة تمزق لها قلب المهرج .. استيقظ على فعلته بـ قهر وندم .. فتح القفص ، رفيق عمره قد مات ، وهو قاتله ، لماذا فعل ذلك ؟؟؟ بـ ارتعاشة حزينة حمل القرد ومشى به لأقرب أرض ترابية ، حفر ودفن القرد ... وبكى ، بـ مرارة بكى ... ليتهم يعلمون انه إنسان ، ليتهم لا يحملونه ما لا طاقة له به ... يضحك وفي القلب ألف همّ ، تزدان ثيابه بـ مئات الألوان المتفائلة وفي قلبه سواداً لا يضيئه فجر جديد ،

عاد لجناحه ، تمدد على سريره ، إذاً فقد بات مجرما ... جريمة لن يسأل عنها أحد ، ولن يهتم بها أحد .. سيقول انه قتل .. قردا قتل ! ومن يهتم الآن بقرد !؟!؟..

" ويحي ، أين اذهب يوم يشكيني لربي ويقول : قتلني وما أذنبت بحقه يا رب ؟؟ " ،
مرت قشعريرة باردة في أوصاله ، يا رب .. يآآآآه .. أنساه عمله الإله .. فضاقت النفس وما وجدت ملجأ .. ضاع دفء القلب .. بالابتعاد عن رضا الرب .. فـ هل عساه يعيد التفكير ؟؟ هل تراه يغير خطوات الضياع ؟؟ أيّلون نفسه بتناسق وتناغم بدل تلك الفوضوية ؟؟ يسأل ولا يجيب .. وأخيراً فضل الصمت حتى بالتفكير ...
تك ، تك ، تك ....

عقرب الثواني يدور ،
انه السر الذي لا يعلمه أحد ، خوفه من ساعة العقارب ،
حين كانت أمه تغلق باب غرفته بعد أن تتمنى له أحلاما سعيدة ، كانت تتركه في صراع مع ساعة الحائط ، عقرب الثواني في سباق مستمر مع دقات قلبه ، لماذا هذا الخوف الطفولي ؟؟؟ اعتقد انه مات من سنين لكنه اكتشف انه ما يزال موجودا متأصلا فيه ،
كان ذلك حين أهدى والده ساعة يد له وهو في الرابعة من العمر ...
وحين استعد للنوم فزع من شئ يطرق ، يسمعه ولا يعرف ما يكون ، صرخ بعلو حسه ...
وحين حضرت أمه شرح ، ففهمت ، وبدل أن تربت على كتفه جعلت منه أضحوكة بين العائلة ،
ومنذ ذلك الحين نشأ خوف وكره لـ ساعة العقارب ،
زادت بوجود ساعة الحائط ، عقارب أكبر وقهر نفسي أبطأ ! ..
بدأ يشعر بضيق عجيب .. قلبه يضيق ، وروحه وصلت بوابة حنجرته ، يعض شفته السفلى بقهر أدماها ، يداه تنتفض دون وعي ، يهز رأسه بغضب ، يمنة و يسرة ، وهي تصر
تك ، تك ، تك ....
صمت لاح بالمكان غير صوتها ، كفى ، كفى ،، دون أن ينطق ، كانت أنفاسه المتلاحقة تنبئ بما في ذاته ، ودون وعي منه مرة أخرى .. يمسك شيئا بيمينه ويضرب ساعة الحائط ...
دوي كأنه انفجار مع سكون الليل .. ثم ...
تك ، تك ، تك ...
لم تخرس ...
دون إدراك سبقته قدماه ووطئها ،
سحقها بقدمه ،
ألا موتي وليمت معك خوفي ..
يموت صوتها ...
ويعود السكون ،
وتهدأ نفسه المتعبة ...
اغمض عينيه . واخذ نفس جد عميق ،
ثم زفير طويل .. شهيق ، زفير .. وعاد له سكونه
... لينتبه لذاك الشيء الذي رما الساعة به ...
إنها صورة أولاده و أمهم ..
كم يشتاق لهم ... الوقت متأخر ، لكنه يضرب النقال على هاتف المنزل ...
وقت طويل قبل أن يأتي الرد : نعم ؟؟
انه ولده .. حياه .. وبشوق كبير ، وبدمعة مكبوتة من نار المحبة الأبوية ، يسأله عن أحوال أهل الدار طالبا عدم إيقاظهم ..
وقبل أن ينهي المكالمة يهمس الصغير على خجل ...

" أبي ، اعلم انك تعمل لأجلنا .. أمنا طلبت ألا نخبرك ، ولكن أخي الكبير متعب جدا ... جاءته النوبة ، الأطباء يقولون إنها اخطر من كل مرة ...
بابا .. لقد ادخرنا أنا واخوتي أموالا كثيرة ..
أرجوك عد .. لاجل أخي الكبير .. انه الآن بالعناية المركزة ،
صباح الغد يتحدد وضعه .. يتمنى أن يراك ،
أبتِ ، قد لا تراه بعد الآن .. عد أرجوك "

أنهى المكالمة ، وقلبه يتمزق ،
" قد لا تراه مرة أخرى " ، يا له من مهرج حزين ..
يا له من مرتدي للألوان في حداد !

شقت الشمس ظلمة الليل ..
فاق كل من في السيرك إلا هو ما غمض له جفن ،
وقبل أي شئ ، جرى نحو غرفة المدير يريد إجازة ،
ابنه مريض جدا قد يموت

"تمزح ، العرض اليوم ، سيبدأ بعد ساعة ، أنت تعلم ،، الكل حضر لاجلك وأنت تريد إجازة ؟؟"

أصر على الإجازة فابنه مريض

" حسنا قدم عرض اليوم وسافر على طائرة المساء حتى الغد .. وعد مساء الغد لعرض ما بعد الغد ، أنت تعلم ديونك كثيرة للسيرك ، ابذل جهدك ليحيا أولادك بعزّ .. ابنك مريض منذ الأزل ، اهتم بمستقبل الاثنين الآخرين "

يا لها من كلمات باردة .. حياة هذا المدير بين الحيوانات أكسبته استرخاصا لارواح البشر ..
بل إن الحيوانات لتقدر وتشعر اكثر منه ...
كانت هذه الكلمات ما يدور بخلد مهرجنا .. عاد لجناحه ،
هاتَف منزله ، جاء صوت ولده الصغير يبكي " لا تعد ، لا حاجة لان تعود .. مات أخي الكبير و أمي معه بالمستشفى ، مات أخي ولم يرك ، لا داعي لان يراك ، هو بكفن الموت وأنت بألوان الحياة ، هو بألم الموت ، وأنت ببسمتك المزيفة ... لا تعود .. لا داع لان تعود "

أنهى مكالمته .. اغمض طرفة ثوان ..
ثم .. توجه للمرآة ، صبغ وجهه بزيادة ..
جعل الألوان تصرخ طربا وحيوية ..
بدل ثوبه بآخر فيه عشرات عشرات الألوان ،
نظر لبسمته بالمرآة .. جميلة ، تبعث الأمل والصفاء والضحك ، ما رأى أي ألم على ملامحه ،،
استعد .. حتى جاء صوت المدير من على المسرح يطلب تشجيع المهرج الضاحك ..
يعلو الصراخ والتشجيع والتصفيق ..
ويخرج هو على عجلة صغيرة ، بضحكة ملأت حدود السيرك ،
ويتضاحك الأطفال ، تدخل الفيلة العملاقة ، يتراقص مع خرطومها ، ترفعه وتنزله على ظهر الأسد .. راقص الحيوانات من ألطفها لاخطرها .. قدم عرضا رائعا ، كانت فيه روح فوق روحه .. ولم يكتف ، صعد السلم العالي ، ومشى على الحبل دون مظلة ، لم يسقط ، تأرجح في الفضاء ،
بعد أن انتهى العرض .. وحيا الجمهور الذي وقف يسبقه تصفيقه ..
وهو ، ينظر من علٍ .. رأى السعادة بعيونهم .. وعند قمة سعادة البشر ، ومن صفوة ضحكات السعداء ، ومن فوق رؤوس الحضور ، مد يده للأعلى بقوة المنتصر .. وصرخ بصوت ضاع مع صوت الحضور .. صاح بملء فيه وقال بدمع يغسل ألوانه المزيفة ..
(( .... آآآآآآآآآآه .... ))
توقيع :  إيناس الطاهر

 

إيناس الطاهر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس