عرض مشاركة واحدة
قديم 14/04/2007, 10:32 AM   #51
إيناس الطاهر
روح المـطر
 
الصورة الرمزية إيناس الطاهر
افتراضي مجموعتي لـ مسابقة نعمان ناجي / 10 قصص

الزنزانة


غموضٌ يكتنفُ تلكَ الزنزانةِ ، حين لا يكونُ المُدرَك عنها سوى أنها سجنٌ إنفرادي يدخله المرء بإرادته ، وقد يَتكوّن فيها دون إرادته، ولا يمضي على سجنه أياماً حتى تُزلزَل الأرض بصرخةٍ تملأ الأبدان رجفةً ، ثم يتصاعدُ من خلفِ القضبان الغليظةِ دُخانٌ ينبئ عن جثة قد احترقت ، لا أحد يدري أذهبَ السجينُ للموتِ بإرادته أم أنّ هنالك سرّ دفينٌ فيها ؟
كان الأمرُ بالنسبةِ إليه أشبهَ بالتحدي ، وربما بطوق النجاةِ الممدود من علٍ ، عليه أنْ يجازف ، فذقنه الطويلة ممتلئةٌ بالأتربة ، إنه غير قادرٍ على نفضها أو قصها لقصر ذات اليد ، وثوبه الفضفاض قصيرٌ متهم بالقذارة ، ضاقت عليه الأرض بما رحبت فمن حوله يندّدون به ويتهمونه بإرهاب التصرف ، ويحيكون ضده التهم ، ليُجاد وضع الحبل حول عنقه بدعوى معتقدِه الذي يجهله ، ينظر حوله ، الجوع يسيطر على الأفواه المفتوحة .
دون أن يترك خبراً عن وجهته ، انطلق حيث القضبان الغليظة مؤمناً بأنّ عليه أنْ يسبح ضدّ التيار ، أو يعانق جدار الموت ليحيا إلى الأبد . وحتى يقوى على ذلك الخوف الذي يسيطر على نفسه كان عليه يجد النقطة التي يبدأ منها ، تلك التي تحسم الاتجاه الذي يسلكه نحو النور ، عليه أنْ يتعلم ما جهل من أمورٍ نُسبت ضده زوراً وبهتاناً ، يجد حلولاً لكل ما يعانيه شعبه المهمل ، وطبقته التي سكنت تحت الأرض ، يعيد الدفء إلى البيوت التي جعلته شمّاعة فقرها وموطن حزنها ، وسبب معاناتها .
وصل زنزانته ، استشعر لون الرماد على الجدران ، استنشق رائحة الجلود المحترقة ، قبل أن تخطو قدماه داخل القفص اهتزّ كأنه يدخل قبره حيّاً ، أيخطو إلى الداخل ويصبح رهين قراره ؟ ، أم يعودُ أدراجه ، حيث منيع غاية ! ، خياران أحلاهما مُرّ ، إنه يخاف من المجازفة ، ففيها رهانٌ على ما يجهل ، نادته جاذبية السجن : ما الحياة إلا تجربة ! فمن لا يملك مفاتيح قيده يملك على الأقل حقّ الدفاع عن حريته .
ويخطو أخيراً للأمام ، لظلمة الزنزانة .
لمْ يختلف هذا اليوم عن سابقه ، ما تزال تعبق في أنفه رائحة الجلود المحترقة ،
- لكنني لا أرى شيئاً ، كم مرّ عليّ هنا ؟؟ هل أنا نائم ؟ أمستيقظٌ أنا ؟؟هل هذه ظلمة حلمي أم يقظة واقعي المظلم ؟؟
هكذا كان يفكر وهو يحدّق في المدى ، شعرَ بجوعٍ يتغلغل في أوصاله ، انحنى حتى لامس فمُهُ أصابع أطرافه السفلى ، وبدأت أنيابه بنهم تقضم البنان تلوَ الآخر، في لذةٍ عجيبةٍ ، وألم فيه الاستيقاظ !
- هل أعاقب نفسي ؟ لا أملك إلا اشتهاء لحمي وقضمه ! ، ماذا يحدث لو قضمتُ إصبعي كاملاً ؟
الجوع يشتد ، فينتقل فمه إلى يده ، غارساً أنيابه في لحمه ، فإذا ما تألم استيقظ ، فيستشعر روحه ، ليرى صوراً تقفز إليه من الماضي حاملةً غصن زيتون وفخراً تواسي وحدته وظلمة وحدته ، فإذا أخذ الألم منه مطلبه سقطَ دون شعور ، وعندما يفيق تثيره رائحة دمه المراق ، تزيده نهماً لمزيد من احتواء نفسه ، وكأنه كلما قضم من خارجه جزءاً أعاده إليه ورتبه كيفما يريد ليقف قوياً إزاء العاصفةِ من حوله وفي كيانه ، إن جزءه المبتور ما عاد له ، وما دخل جوفه ينمو ليحيا
- هل حين نتألم نكتمل ؟ قال حكيم :انظر إلى نصف الكوب الممتلئ ، أما علم الحكيم أنّ ما بقي من الكوب بقايا فقط ؟! إنها بقايا وإنْ بلغت ثلاثة أرباعه و ليس نصفاً ،
إن من انتُزع منه شيء لا يظل كما كان بل يصير جزءاً مشوهاً ،
يؤرقني شعوري بالتشوّه ، أريد أن ]أرتبني وأحتويني [* من جديد ، فلن يخاف عليَّ أحدٌ أكثر مني ، سأعيد بناء ما ضعف حتى عدِم " لأن الخطأ الأكبر أن أنظّم الحياة من حولي ، ثم أترك قلبي في فوضى" ،
لن أرضخ للضغوطات ، ولن أقبل بعد اليوم بما يضرّني من مسلّمات ، مهما كان الخارج سيئاً فأنا قادرٌ على تغييره ، سأبني داخلي مملكتي ، أنا داخل أنا ، لينقص منظر الخارج ، ويزيد نضجاً ورفعةً داخلي ، سأواجه الفتن.
ناداه من أعماقه خوف : ماذا عساك وحدكَ تفعل ؟ هيهات حلمك .
- مالي أجبن ، تتنحى عني ثقتي فتضعف عزيمتي ،
ما بالك يا رجل ؟ أفق ، إذا لم تثق بنفسك فلن يثق بك أحد .
مرة أخرى عاد له إصراره ؛ نورٌ خفيفٌ ينبثق من أعماقه ، يمنحه العزيمة ، رويداً رويداً كانت قضماته لخارجه تتزايد بتناسق في اختيار الموضع ، يمضغ بعضه نصف مضغة تاركاً لذاك النور تكوينها من جديد ويضعها حيث يجب أن تكون .
وصل إلى مرحلة صار الخارج فيها هشاً فبدا شاحباً مرهقاً ، صارت تضايقه رائحة دمه ؛ وكأن ما يشتمّه قد فسد ، مهما كانت الرائحة منفّرة فإنها أقل فساداً من نتانة الفتن ما ظهر منها وما بطن .
نور انبثق من الجدار . شعر بتواصلٍ مع ذلك النور ، كأنه يخرج من نبضه ، وكأنّ وقت المخاض جاء وحان للجنين معانقة الحياة ، الضوء يكبر تارة ويخفت أخرى ـ كان يشعر بألم وإرهاق يزداد كلما توّسعت الدائرة وابتعدت عن مركزها ، حتى فقد وعيه للحظات ، وحين أفاق ، كان النور قد أخذ نصف الجدار فأنار المكان.
بدا الأمر أشبه بصفعة أخذت من وجهه مستقرها ، لم يكن الرماد يملأ الحائط كما كان يظن ، بل كان هناك عشرات الوجوه المعلقة عليها ملامح الفزع والرهبة ، صدمةٌ هالته همّ أن يخرج صرخةً من أعماقه ، لكنه أدرك أنه إن فعل سيسحبه النور فيحترق ما تبقى له من جسد ويكون وجهاً خائفاً التصق بالجدار ، وهكذا سيكون ضاع في أزمة الضغوطات بعد أن وجد نفسه ،
كظم جزعه ، ونظر كلّه ، كان كاملاً لم ينقص منه شيء وكأنه ما كان يقتات على بعضه ولا يلتهم أجزاءه ليحيا ، ساعده النور على رؤية حدوده الجديدة ، نهض ، بدا وكأنه يتعلم الخطو من جديد ، و سرعان ما تملكته قوّة هائلة خرجت من داخله و انطلقت لتفجّر قضبان الزنزانة ليخرج وقد ولدَ الرضا والكمال فيه !! أو ربما كان هذا شعوره !


******************************************


]أرتبني وأحتويني [ : أدركُ انها غير جائزة في قواعد العربية ، لكنني أردتُ التلميح لثورةٍ خارجية ثم داخلية وصلت إلى تحطيم قواعد العربية } ربما احتاج الكاتب أن يجعل منها شيئاً جديداً {
توقيع :  إيناس الطاهر

 

إيناس الطاهر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس