عرض مشاركة واحدة
قديم 11/08/2008, 05:31 PM   #2
أحمد بدر
شـاعـر
 
الصورة الرمزية أحمد بدر
افتراضي

عادت تتأمل الصبار من جديد وبدأت تتفكر بهيئته وطريقة خلقه ثم تجم عنه وتصد - وتشيح بوجهها اليافع البريء لتلعنه من جديد - حتى دخل الليل, هي لا تشتكي ألما فلقد ولى ورحل أما أنها متعبة فنعم.. لكنها لا تدري لمه النوم فارقها ومنذ أن خُدشت
حاولت أن تدافع فتدفع عنها هجوم تلك الأفكار والتي بدت وكأنها وساوس جنون - أو نوع من هستيريا شنّجتها الشيء الكثير, هواجس ليس لها حدود لتنتهي - وكأنها السيل العرم الذي أكتسح كل مكان - حيل بينها وبين الرقاد - وما أن دخل الصباح حتى تمكنت من النوم واستيقظت في نفس الموعد الذي استيقظت فيه من يومها المنصرم .

هكذا انقلبت حياة الأوركيدة المسكينة رأساً على عقب, أصبح وجودها مرتهن بجوف الليل وعتمته, أمَّا نهارها فإن هي تواجدت فبدون إدراك أو تفاعل - وكأن الجنينة الحبيبة إلى قلبها بالأمس قد أصبحت غريبة عنها اليوم.. لا تمت لها بصلة, وما باقات الزهور التي بجانبها سوى جمادات لا تحسها حياة وليست ممتلكة للحواس - هامدة تفتقر لحرارة الكائن ونائية عنها للبعيد كما لو كانت من صنف غريب.
وما أن جاء الليل - وأقبل بنجومه البعيدة المتلألئة - وبقمره الصافي الوضاء - حتى دبا فيها شعور غريب - ما قط شعرته من ذي قبل – راحة – سكون – هدوء, وكأنها وجدت عالما جديدا - اكتشفته للتو فهي إليه أقرب, شعرت معه بالانتماء وتنفست خلاله الصعداء, كأن ابتعادها عن رفيقاتها - قد أضفى عليها سكنة جعلتها أقرب إلى نفسها أعرف بحالها, سكون الليل - أضفى على تلك الأوركيدة شاعرية مثقلة بالعواطف - تعجُّ برومانسية غريبة عنها - مبهمة الكنه - وحاجة ملحَّه لفهم مكنونات الأشياء - وطباع المخلوقات وما شعرت بذلك لولا حاجتها لاكتشاف نفسها التي هي بين جوانحها سكن.

تراكم على جرحها طبقة من البروبوليس معربا عن توجه حثيث للشفاء,
لكن - ثمة حكَّة تؤرقها من ذلك الجرح وهي عاجزة من أن تجد من يقوم لها بمهمة حكه تلك, فحينما تَلامس جسدها الرقيق الناعم مع أجساد رفيقاتها الأخريات - شعرت أن تلكَ النعومة لا تمتلك أداة الخدش وهي الآن بحاجة إلى الخشن أكثر من حاجتها للناعم
شعرت بالنقص - بالشح - بالحرمان
وذات يوم :
كانت تتهيأ لموعد نومتها المعهودة - فتأخرت قليلا دون قصد منها حيث هبت نسائم الصباح مبشرة بالخير - ومستبشرة بسحر نهار جميل, وأوراق الأوركيدة تكاد أن تنحني فتنطبق عليها لشدة تعبها الذي تشعرُ وحاجتها للنوم,
أخلدت نفسها للنسمات معتمدة عليها كسرير, مالت بها النسمات - وحنت عودها الرقيق أكثر فأكثر - وما وجدت نفسها إلا وهي تقترب من مكان الصبار حيث جسده الشائك الجاثم الواجم, شعرت الأوركيدة بحجم الخطر المحدق - ولكن ثمة هاجس جعلها تغض الطرف عن ذلك الخطر - وكأن سحرًا قد استحوذ على لبها - فسلبها قدرة المناورة والقرار. بدأت النسمات تدفعها تجاه الصبار - وتعيدها لمكانها وهي متأرجحة هنا - مترنِّحة هناك - فراحت وريقاتها الناعمة تمر فوق أشواك مشط الصبار اللاذعة وهي تحبس أنفاسها بداخلها وعيناها تقلبتا - أما وقلبها فبدا خافقا خائفا يرتعد فرقا - وما قرارها بقادر على أن يتخذ لنفسه من مكان بين زحمة الاضطراب الذي يغلفها فينحرف بالحدث جانبا, أرخت نفسها أكثر فأكثر - فراحت تمرر جرحها من على أمشاط الأشواك المدببة الدقيقة للصبار - وبرفق تام – وبتماس خفيف شعرت خلالها بلذة ما بعدها لذة وقشعريرة سلبتها حتى أدنى حركة وجعلتها أضعف من أن تستطيع حتى أدراك ما يحدث أو سيحدث لها إن هي تمادت بالميلان نحوه أكثر, وكلما زادت نشوتها تلك - زاد معها الخوف فقالت لنفسها:
حين أبتعدُ عنه هذه المرة - سأكتفي ولن أعاود الميلان نحوه مجددا, وحينما عادت لمكانها الطبيعي - تلبثت قليلا وما أحست بنفسها إلا وهي مستسلمة لنسمة أخرى أرخت نفسها لها من جديد - وكأنها تقول: مرة أخرى لن تضر.
بدأت وريقات الأوركيدة تتخدش الواحدة تلو الأخرى- وهي متلذذة بفعلتها تلك
حتى سكنت نسائم الصباح.. هكذا سلخت الأوركيدة سويعات ذلك الصباح مع عدوها أمس, ( ؟) أليوم.. بتجربة - تركت داخلها انطباعا يحتاج منها لتفسير مبين ولكن - بعد أن تستفيق من نومتها التي داهمتها على حين غرة - فتغلغلت داخلها - وأسدلت فوقها الستار.
تفتحت الأوركيدة من جديد - لتبصر ما حل بأوراقها من خدوش, لكنها وبهذه المرة - لم تك ناقمة على أحد - بل على العكس - التفتت نحو الصبار ورمقته بنظرة - كادت تفيض خلالها مهجتها فتفقدها الحياة,
نظرتها تلك ما اسطاعت ترجمتها, فهي لا تقوى على إدراكها, شيء خارج عن الإرادة
والصبار كطبعه - راقد - جاثم - لم يع شيئا مما يجري حوله
بدأت الأوركيدة تتفكر مليا في ما جرى - وتتفرس تفرس اللبيب في ما يمتلكه ذلك الكائن الغريب - وما تمتلكه هي وشعرت نحوه بشد وجذب - وحاجة شديدة للمكوث قربه وأن تنهل من أشياءه التي تفتقرها, تساءلت:
تُرى - لِمَ لا تمتلك الرقَّة من أن تمدني بأسباب السعادة وتملأ علي حياتي ؟
ولِمَ النعومة لا تفي معي بالحاجات؟ ولِمَ الوجع والألم اللذَان مرا بي - تحولا للذة منقطعة النظير, فَبُتُّ اشتهيها في كل لحظة تمر علي ؟.

وهكذا جابهت الأوركيدة ألف سؤال كان عليها الإجابة عليهم الواحد فـ الآخر
تفكرت قليلا بالصبار - فقالت:
هو وهبني الراحة - فكان نصيبي من وخزه إحساس ما شعرته من قبل,
واستدركت: نعم هو جعلني أتذوق طعم التغيير الذي كنت أتوق له - ولمست بقربه وجودا ما تلمسته في غيره من قبل –
ترى هل هو صنوي الذي يعلم عن مكامن احتياجاتي الكثير ؟
أجابها صوت خافت من داخلها:
ما لكِ - آستخفاف بنفسك ؟؟
كيف خطر ببالك أن الحرير والشوك يمكن لهما أن يلتقيا؟, انظري من أنتِ - بل انظري له - لا مجال حتى لمجرد التفكير بالمقارنة, أعيدي النظر فيه من جديد - تمعني بأشواكه
تطلعي بجثته - تبصري بلونه - إنه وحش يقتات على جثث الموتى - مسخٌ مقزز
وأنتِ
أنتِ يا من تتمايلين برشاقة الغيد يا من تخطفي النظرات - فلا تقوى الحِدق إمساكا عن التطلع بجمالك الأخَّاذ.
أقرت الأوركيدة لذلك الهاجس الذي يكلمها - واستسلمت لحججه الدامغة - ثم عادت تتفكر وتتساءل من جديد: ترى ما ألذي وهبته أنا ؟, هل هو بحاجتي ؟, أم أنا التي بحاجته وحسب ؟, وإن كنت أنا من يحتاجه - فذلك يعني أنه قائم بذاته ليس تبعا لأحد - متصرف بطباعه - لا يجبره على فعل هو لا يراه أحد, أما أنا فقائمة بغيري - سليبة الإرادة
وها هو لم يحرِّك ساكنا ولم يعرب لي ولو عن أدنى حركة أو يحاول تكليمي – وأنا أتضور له إعجابا.. أجابها هاجسها من جديد:
حتى وإن كان الأمر كما تقولين – فذا لا يعني انه جميل - وأين الجمال من ذلك الوجوم ؟
وأين الجمال من تلك الخشونة؟ - انه خشن ثابت وأنتِ ناعمة تتمايلين,
سكتت .. وعادت تبصره مجددا وهي تقارن نفسها به, تقارن النعومة بالخشونة, تقارن الرشاقة بالغلظة, تقارن اللون, تقارن العبير, وبعد كل ذلك التفكر والتدبر - برز أمامها سؤال آخر: تُرى - آلصلابة أصل الجمال, أم الرقَّة ؟؟
ثم ازدادت تساؤلاتها وبإلحاح.. قالت:
علامَ يوصف الرقيق بالجمال ؟, أنا لست أدري إن كانت حصة الصلد منه العدم ؟؟
ثم راحت تهمهم بصوت خافت - ترى ما هو كنه الجمال ؟
إن أنا عبتُ عليه وجوم صورته وجثوم جثته - فذلك يعني أنه هو المتصرف بالريح أو على الأقل هو قادر على عنادها, أمّا رشاقتي وتمايلي - فذا لأنني مُلك للرياح هي التي تعبث بي - وهي من يمتلك خيار سكوني وحِراكي بل وقتلي متى ما أرادت ذلك.

بدت الأوركيدة على حال لا تحسد عليه
أين كانت هذه المسكينة من كل هذه الأحاسيس والتساؤلات والاضطرابات - وأين كانت عنها من ذي قبل - ولِمه كل هذه الأفكار والهواجس تهجم عليها هجمة رجل واحد في آن واحد ؟؟, لم تستطع الأوركيدة أن تدفع عنها شعور الإعجاب تجاه الصبار - على الأقل بينها وبين ذاتها التي تكلمها – فتقلب الغرائز معهود, ولكن – وبهذه السرعة ؟؟!!
ذا يعني أن أوركيدتنا تعاني من خلط حقيقي بما يختلجها من عاطفة وغريزة,
هي لمست في غلظته رقتها - وأبصرت في قوة جثته ضعفها, فعنى لها التكامل والجمال وأحسها بالنقص وما تفقد ..
فإن كانت هي ضعيفة – فما أحوجها لقوي يشعرها ضعفها بقوته
حتى لو لم تنتظر من ذلك القوي أن يدافع عنها إن أحدق بها خطر ما, وإنما وجود القوة لجانب الضعف - يعني التكامل والانسجام,
كذلك الذي لا يمتلك لبعض مقومات الجمال - فوجود الجميل لجانبه - يعني له التكامل
ووجود الضعيف لجانب القوي - يعني التكامل للقوي, كما هو حال هذه الأوركيدة
كلما أطالت النظر في ذلك المخلوق اكتشفت فيه أشياء تتحول أخيرًا إلى إعجاب, هذه الأشياء التي تكتشفها - هي لم تكتشفها بالصبار حقيقة الأمر بل اكتشفتها بنفسها التي تسكنها فانتبهت لها - فهي عندما كانت تجوب به وتتطلعه - كانت تجوب بداخلها وتتطلع بنفسها - فتبصر نقصها عبر ما أمتلك الصبار فانسجم ما عنده مع ما تحتاج
عاد هاجسها يكلمها من جديد

وكيف ستجمعين بين الرقة والشوكة, كيف ستعانقيه ؟

قالت:
إن كان ملمسي كالحرير - فهل خلق الله هذا الملمس لناعم مثله - يتلذذ به - وهو ممتلك له فاقد لغيره ؟
أم قد جُعلتْ لذتي - بناعم مثلي - وأنا التي تعلم عن النعومة أكثر من أي كائن آخر ؟
ها هي شوكته مزعتني - وأنا ما زلت أتوق لوخزها من جديد - ها هي شوكته كسرت كبريائي وتعبدي لجمالي الذي استعبدني - فأدركت أنني كنت على وهم كبير - حيث ركنت إلى نفسي - وهي بحاجة لأشياء أخر.

بدأت الأوركيدة تبحث عن من يشعرها بضعفها عبر قوته
ويشعرها بقوتها وهي معه ليلبي لها حاجاتها

قالت:
هل حاجاتنا للغير ضعف ؟
إن كان كذلك فكلنا ضعيف
بل كلنا ضعفاء
من ذلكَ الذي يمتلك أن ينتهي بنفسه نحو أقصى محطة للعمر
وهو لا يشعر بحاجة لأنيس ورفيق أو أذن تعي الكلام - وقلب يفقه المعنى - وإحساس يدرك الإحساس - وصدر يتقبلك كما أنت - ينهل من صفائك - ويستر ما شابك من عيوب - وبدون أن تسايره بالتكلف وتحاول أن تخفي عنه نقصك ألذي لا يخلو مخلوق منه ؟

أدركت الأوركيدة أن العيب الذي يترعرع بهوَّة ظلمات الأنفس حتى يوهنها لتصبح أسيرته - سيتحول ذات يوم لغول قاتل يحاول من يحاول جاهدا إخفاءه وكتم زئيره - حتى عن نفسه - وهو لا يكاد يبرحه - يكبر ويترعرع ويتسيَّد عليه كلما حاول أن يخفيه - حتى إذا ما ركن إليه استعبده – وبات يسير دفته ويحركه كيفما شاء .
هي أدركت أن الحاجة تكون قريبة جدًا من التنفيس عن النفس وإفراغ محتواها أو بعضه – لذلك شعرت برغبتها لأن تبوح له عن ما يعتريها وشعرت أنها لا تقوى على إخفاء ولَعَهَا به - فإن أمسك اللسان - وشَتْ العينان, وفضحت السرائر, بل وتحدثت الإيماءات, فمحل كل الحاجات - القلب - وطبيعته أنه لا يقوى على كظم الحاجات طويلا –
يضيق بها ذرعا - أما باقي الأعضاء فتبع له - إن أنبسط بسطت وإن انقبض قبضت – وإن اضطرب اضطربت, فإن عصفت به الريح تخلخلت معها كل الجوارح.

تعبت الأوركيدة كثيرا, وستتعب أكثر فأكثر
خلدت للنوم كعادتها وهي لا تعي ما ينتظرها
توقيع :  أحمد بدر
أحمد بدر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس