عرض مشاركة واحدة
قديم 20/05/2008, 08:02 PM   #3
عبدالجواد خفاجي
شاعر و أديب و روائي
 
الصورة الرمزية عبدالجواد خفاجي
افتراضي

النقد وأممية العرب (3)

عبدالجواد خفاجى


أما السؤال عن الخصوصية ، فتأسيسًا على ما سبق أجيب أن ثمة خصوصية للشتات : غساسنة ومناذرة وما بين بين من موالى .. هي الصورة القديمة من عدم الاتفاق والتلاقي ، والتناحر والتباغض ، والولاء للقوى الكبرى ( الفرس والروم ) التي تقتسم ولاءنا ، في ذات اللحظة التي تستدفىء فيها بنيران ما بيننا من حروب .. هي صورة قديمة جديدة، سمتها الثبات ، يلخصها قول " مناحم بيجن " : " العرب لن يتفقوا إلا على موعد يختلفون فيه " . هذه هي الخصوصية إذن .. إنها خصوصية الاختلاف والتباغض الذي يفسد للود كل قضية .
أؤكد أن الذين كانوا يراهنون على البعد القومي ، وعلى أممية شعوب المنطقة التي تتعايش في المساحة من المحيط إلى الخليج لم يكن رهانهم ذلك على شيء قائم بالفعل ، وإنما كان رهانهم على ما يمكن تحقيقه استنادًا على جذر تاريخي من الثقافة العربية الإسلامية ، وعلى ما كانوا يزعمونه من المصالح المشتركة لشعوب المنطقة ، وعلى ما أسموه وحدة المصير المشترك ،أؤكد لك أن حروب الخليج أكدت أن المصالح المشتركة كذبة كبرى ؛ فالمصلحة قائمة ، ولكنها ليست مشتركة إلا مع ما هو ناجز من قوى أجنبية توفر الحماية ، أما المصير المشترك هو حقيقة تاريخية معطلة ، نحن لا نتعظ ولا نقرأ التاريخ .. دعونا نؤكد ـ إذن ـ أن كل الشواهد تؤكد حتى الآن أن ما يحدث هو مقدمة لملوك طوائف أخرى ، ومقدمة لنكبة تاريخية كبرى .. ماذا تبقى للرهان غير عنصر الثقافة ؟ ودعنا نؤكد أن الدولة الإسلامية وعبر قرون من حكم شعوب المنطقة شكلت جذرًا من الثقافة العربية والإسلامية ، تتفاوت نسبة الانتماء إليه من شعب لآخر ، ومن جماعة إلى أخرى ومن طائفة إلى طائفة .. ومرجعية التفاوت قد تكون تاريخية ، أو عقدية ، أو عرقية ، أو جغرافية ، أو حضارية .. الإشكالية الآن : كيف نراهن على هذا الجذر الثقافي وحده ، رغم تفاوت الانتماء إليه ؟ .. قد نذكر العولمة في إطار كهذا .. العولمة منظومة اقتصادية وثقافية سياسية وإنسانية ناجزة تسعى إلى تحقيق صيغة موحدة للعالم اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا ، وسأفترض جدلاً أن هذه الصيغة هي الشر كله .. فكيف يكون التصرف حيالها ؟ .. أرى أن هناك توجهات ثلاثة علينا أن نختار منها .. الأولى هي سياسة النعامة التي تخبئ رأسها من المصيبة التي لاشك ستدركها والثاني هو إتباع سياسة وقائية فقط ، والثالث هو التعامل مع ما نفترض أنه شر وفق استراتيجية تركز على فاعليتنا في العصر من جهة بما يحقق لنا كينونة ما يمكنها أن تفرض شروطها ، وتؤكد وجودها المخصوص في العصر ، ومن جهة أخرى التكتل في مواجهة التذويب للخصوصيات و الهويات .. وفى رأى أن الخيار الثالث هو الأوجه والأنسب .. تبقى الإشكالية في أسلوب تنفيذ هذا البرنامج أو تلك الاستراتيجية . . إذا كنا قد اتفقنا على أن العولمة منظومة اقتصادية سياسية ثقافية فإن عصبها في الاقتصادي الذي يشد أو يوظِّف السياسي والثقافي خلفه ... إذا كنت متفقًا معي في هذا فإن أسلوب استراتيجيتنا يجب أن يركز على نفس عناصر تلك المنظومة ، وعلى نفس ترتيب عناصرها .. من الخطأ الرهان على الثقافي في البلدان العربية لا لشيء إلا لأنها تتبع السياسي وليس العكس ، ومن الخطأ الرهان أيضًا على الاقتصادي لنفس السبب ؛ فما دام السياسي هو الذي يتحكم ويوظف الثقافي والاقتصادي فلا أمل يرتجى .. تبعية كل شيء للسياسي ، وتحكم السياسي في بقية عناصر المنظومة يفسد أسلوب المواجهة ويقلب موازينها .. أما إذا تأكد لنا تكتل السياسي في شكل نظم شمولية تستثنى شعوبها ، وحاجاتها الملحة ، وتداخل العصر ، بعقلية وأساليب حكم يرفضها العصر ، وتكرس بقاءها بغير شرعية ، وهى تعمل جاهدة على وأد الحريات وتمييع الرأي ، كأسلوب ثابت للتحكم وليس الحكم فلا أمل ، وكل رهان على اقتصادي أو ثقافي يبدو خاسرًا .
لذلك يسقط من بين يدي رهان " النقد "، كما سقط من يدي رهان "العربي" .. ثمة أزمة تبدأ بالمصطلح وتنتهي بالمنهج ، وثمة فوضي تنظيرية ، وثمة سباق محموم خارج السياق الذي نفترضه، وغربة عن روح النص، وثمة محاولات تشكيل إبداع وفق منظومات فكرية سابقة التجهيز ، والحقيقة أن الإبداع ظاهرة تُرْصَد ولا تُصَنَّع .. كثير من التيارات الإبداعية العربية بفعل فاعل ، وتلك خطورة النقد في ساحتنا العربية ، أنه يلوث الإبداع ولا يوجهه ، ويصنع الظاهرة ثم يقوم برصدها ، إنه الدوران في الفراغ.. دعونا نذكر مثالاً بمقولة " الحساسية الجديدة".. مقولة جوفاء ظلت تشكل وعي المبدعين من الشعراء في مصر عقداً كاملا من الزمن مرتكزة على افتراض جدلي لا أساس له .
ويبدو أن أعترض الدكتور سيد البحراوي له بعض الوجاهة عندما سخر من خانة الحداثة أو الحساسية الجديدة التي تصدر الأوامر النقدية بالترقية إليها أو الحرمان منها، فلا أحد يعرف ما هي الدرجة الصحيحة من عدم اليقين أو الشك أو الشعور بالغربة أو الإحباط التي تجعل قصيدة ما حداثية أو تنتمي إلى الحساسية الجديدة في مقرها المركزي بمكتب هذا الناقد أو ذاك.
والوجاهة نابعة أصلا من الفهم والوعي الكامنين في الاعتراض بهذا المصطلح القديم الفارغ نوعًا المسمى "الحداثة" فليس في الحداثة مركزية، حتى لو افترضنا أن الحداثة أصبحت بمثابة العقيدة بالنسبة لهؤلاء، فإنه ليس من مهمة الأدب أن يوصل تلك المعتقدات بصورة مباشرة.. إن الملكية الخاصة متراس الحرية، كما أن مهمة الأدب هي نقل الحقائق اللازمانية، وربما بهذا يمكنه أن يغذي في الجماهير روح التسامح والكرم وبذلك يضمن بقاء ملكيته الخاصة.
ليس غريبًا في سيادة مفاهيم التعصب أن يتحول محطم الأصنام إلى صنم جديد! ، ويبدو أننا يجب أن نعترف ـ دون أن نستسلم ـ بمركزية النقد عندنا رغم أن الحداثة ـ كمفاهيم ـ ضد المركزية بشكل عام، بما فيها مركزية التراث أو حتى مركزية المفاهيم الحداثية.
إن مركزية النقد عندنا ساهمت في انحصار مفهوم الحداثة أو مفاهيمها عند دائرة المركز، أو المراكز الثقافية التي ظلت ومازالت تمارس سطوتها على الأطراف . ومن ثم اصطبغ النتاج الأدبي الحداثي بصبغة واحدة ومن ثم ضاقت مساحة "الحداثات" المفترضة لتصبح مجرد "حداثة" متحققة هنا أو هناك. وأرى أن هذه المركزية جزء من هيمنة الخطاب الثقافي للمدينة العربية (المركز) على أطراف الخريطة التابعة لها.
ومن ثم فإن نظرتنا النقدية في النصوص الحداثية يجب أن تكون متجاوزة لهذه المركزية بما يسمح بتجاوب أصداء الحداثات في كل أطراف الخريطة الإبداعية دون أن نقيم اشتراطات معينة للحداثة، إذ أن الإبداع متجاوب بالضرورة مع ملامح مكانه وزمانه بل ومع الخلفية الحضارية والاجتماعية له.

(يتبع )
توقيع :  عبدالجواد خفاجي

 لأنى اسـتنطق الصمت كان لابد أن أُسْـكِتَ الضجيج

عبدالجواد خفاجي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس