عرض مشاركة واحدة
قديم 11/05/2008, 12:00 PM   #4
سليمان منذر الأسعد
شَاعر / سَادن البَوح
 
الصورة الرمزية سليمان منذر الأسعد
افتراضي أنقذونا من هذا الشعر (2)

(المجلة) – (كاركتر) نيسان/أبريل 2008م


أحد شعراءنا المجني على قريحتهم كان مولعاً بألعاب الهواء والمناطيد الجوية فأراد أن يسفّه مقولة البحتري: (الشعر لمح تكفي إشارته)، فكتب لا فضّ فوه:
(أحياناً تسقط لأنك تختار مكاناً تسقط فيه
أحياناً لا تسقط لأنك لا تجد مكاناً تسقط فيه
أحياناً تسقط ولا تسقط لأنك وجدت مكاناً تسقط فيه!!)
هذه الكلمات/المصيبة كتبها "شاعر" من رواد حداثتنا الموءودة في مهدها، ولم يكتبها شاب صغير في مقتبل رحلة "السقوط" التي تبشّر بها كلمات هذا المبدع.
ومن منطلق ما يسميه هؤلاء بـ "التوزيع البصري"، كتب شاعرنا كلمات السقوط تلك بصورة منظمة، إذ رسم كل مفردة على سطر مستقل، حتى (لا) النافية تربّعت وحدها على سطر كامل! وذلك رغبة منه في تسلية القارئ "بصرياً"، وربما أراد أن يقنعنا بموهبته التشكيلية بعد أن أدهشتنا موهبته في السقوط.. والتحدي أمام القارئ الآن يكمن في معرفة: هل سقط الشاعر أو لم يسقط في المكان الذي وجده أو لم يجده؟!
رمز آخر من رموز الحداثة (المفترى عليها) كان يعاني من الأرق ذات ليلة بسبب هيامه بامرأة خرقاء أرسلت إليه –عبر الفاكس- مسحوقاً يطرد النوم ويشبه الجمرة الخبيئة، فأنشد قائلاً:
(أنت الـ ترسلين اللانوم إليّ بالفاكس).. أرجو أن تغفروا له إلحاق أل التعريف بالفعل المضارع بعد حذف الاسم الموصول (التي)، لأن قارئاً متعاطفاً قد يذكر قصيدة لنزار قباني على هذا النحو، رغم كونها من أسوأ الضرورات التي لجأ إليها نزار وغيره. نقطة أخرى: النص نثري ولا حاجة لكاتبه في استخدام ضرورة شعرية شاذة يستقيم معها وزن بحره.
الكوكا كولا وفاتورة الكهرباء والإسفلت ومثلها أصبحت من المفردات الشائعة عند هؤلاء الشعراء، فاستمعوا إلى هذه المعلقة التي أراد فيها كاتبها أن يخبرنا عن سيارته الخارقة:
(ركبت سيارتي البورش الحمراء وانطلقت بسرعة 160كم/ساعة إلى بيت حبيبتي)
قد يسأل قارئ ظريف مستذكراً دروس الفيزياء: (إذا كان بيت حبيبة الشاعر يبعد 10كم عن مكان "انطلاقته" فكم دقيقة تطلبه الوصول إلى هناك بسيارته "الحمراء"؟!).
وأمام جهلنا بالفيزياء، وضع لنا هذا القارئ خيارات متعددة كأجوبة محتملة لمسألة كهذه:
- 4 دقائق و20 ثانية
- 3 دقائق و 45 ثانية
- 3 حبوب إضافية من "الهباب" الذي كان يبتلعه وقت كتابة النص.
(اشرح البيت الآتي) من أكثر الأسئلة التي كنا نكرهها في امتحانات الأدب، فالشعر لا يُشرح ولا يفسّر، لكنني أتخيل أن سؤالاً كهذا ورد في امتحان الأدب للصف الثالث الثانوي، اشرح البيت الآتي:
(وظلّ الأعمى يفرك شرائط القُبل الملتفة على أوداج خميلة الإسطبل الخالي للحصول على "تيكت" طائرة مجاني). تُرى كم طالباً مهما بلغت عبقريته يستطيع الإجابة؟!
* * *
كان الملك لويس الرابع عشر مولعاً بالأدب لكنّ موهبته في الكتابة "معدومة". أراد ذات نزوة أن يكتب شعراً، فكانت النتيجة قصيدة رديئة أحب الملك أن يعرضها على شاعر منافق من جلسائه، فتملّقه بذكاء قائلاً: (أيها الملك، أنت قادر على عمل أي شيء مهما كان مستحيلاً. أردت أن تكتب قصيدة تافهة فأبدعت!)..
وهذا الشاعر المنافق لا يشبه نقادنا بأي حال، لأنه ألمح إلى تفاهة القصيدة على الأقل، بينما يزعق بعض نقادنا بتحليل القصائد التافهة وإسقاط رزمة من المصطلحات النقدية التي تصلح للتطبيق على أي نص!!
فقصيدة السقوط مثلاً، كتبت عنها ناقدة عربية بعد أن أجرت إحصائية طريفة لعدد الكلمات وتكرارها المبتذل وتوزيعها المدهش في النص، فقالت: (هي من نوع «قصيدة البياض» أو «القصيدة المفتوحة». هذه القصيدة المختزلة، المكثّفة، المكتنزة، التي تتخذّ من البياض حيّزها السينوغرافي)!!!.
هي صرخة محمود درويش إذن: (أنقذونا من هذا الشعر)، لعلنا نقول أيضاً: (أنقذونا من هذا النقد).
* * *
لم تعد المسألة تتعلق بالوزن الخليلي أو التفعيلي، فبعض النثر جميل، وبعض ما يكتب باسم الشعر جميل أيضاً على اختلاف التسمية (قصيدة نثر)، لكن المشكلة تكمن في الأدعياء الذين أزعجوا الدنيا بجعجعة خطاباتهم دون أن يقدموا طحيناً مقبولاً!
تجاوزتُ عدد الكلمات الممنوحة لي في هذه المساحة، ولا يسعني ذكر أمثلة أخرى من إبداعات بعض معاصرينا، لكنني أقترح على المهتمين من "خفيفي الدم" أن يعدّوا لنا أنتولوجيا (مختارات) الشعر التافه، فمن المسلّّي أن نقرأ هذه النصوص بين الفينة والأخرى، أو أن ينشئوا جائزة سنوية لـ (أتفه قصيدة) كل عام، وأنا واثق أن الشاعر سيحضر لاستلامها.
توقيع :  سليمان منذر الأسعد

 (( فإنّ الموتَ يعشقُ فجأةً مثلِي ....
وإنّ الموتَ مثلِي لا يُحبّ الانتظَار / محمود درويش ))

سليمان منذر الأسعد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس