عرض مشاركة واحدة
قديم 10/02/2008, 02:15 AM   #5
عبدالجواد خفاجي
شاعر و أديب و روائي
 
الصورة الرمزية عبدالجواد خفاجي
افتراضي

تابع الموضوع أعلاه :

3 ـ الأسس البنائية للقصة القصيرة :


والحقيقة إن النقاد عبر التاريخ الأدبي الحديث ومنذ بزوغ القصة القصيرة في منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن ـ اختلفوا فى تعريف القصة القصيرة ، وذهبوا مذاهب شتى، ومع ذلك فإن محاولة تعريف القصة القصيرة تعريفاً جامعاً مانعاً لم يُكلل بالنجاح، ولعل تقريب مفهوم "الشكل" وتقاليده، عن طريق مقارنته بالرواية التى تشاركه في بعض الملامح والقسمات، يصبح أكثر إقناعاً وتيسيراً ـ لتقبل خصائصه ومميزاته ـ في محاولة السعي من أجل التعريف والتحديد.
إن القصة القصيرة هي أقرب الفنون الأدبية إلى روح العصر، لأنها انتقلت بمهمة القصة الطويلة أو الرواية من التعميم إلى التخصيص، فلم تعد تتناول حياة بأكملها، أو شخصية كاملة بكل ما يحيط بها من ملابسات وظروف وحوادث كالرواية. وإنما اكتفت بتصوير جانب واحد من جوانب حياة الفرد، أو زاوية واحدة زوايا الشخصية، أو تصوير خلجة واحدة من خلجات النفس الإنسانية، تصويراً مكثفاً يساير روح العصر في إيجاز وبكلمات منتخبة، تؤدي إلى جلاء حقيقة واحدة، أو تحديد رأي معين، أو نقل انطباع خاص.
فإذا كانت الرواية تتناول قطاعا طولياً من الحياة، فإن القصة تتناول قطاعا عرضيًّا . وإذا كانت الرواية أقرب إلى التوغل في أبعاد الزمن، فإن القصة القصيرة أقرب إلى التوغل في أبعاد أبعاد النفس.
وعليه يمكننا أن نحدد الأسس البنائية للقصة القصيرة:

لما كانت القصة القصيرة تُعدُّ من أصعب الأشكال الأدبية، فإن نقاد هذا الفن الأدبي، يحاولون وضع مجموعة من المقومات والمبادئ ، تشكِّل أسسه البنائية الفنية، حتى يَتَرَسَّمها كل من يريد الإبداع في هذا المجال، ومنها:
ـ مبدأ الوحدة:
إنه جوهري وأساسي من أسس بناء القصة القصيرة فنيًّا، فالقصة القصيرة يجب أن تشمل علي فكرة واحدة تعالج حتى نهايتها المنطقية بهدف واحد، وطريقة واحدة، وهذا المبدأ هو ما يميز كلَّ قصة قصيرة جيدة عن غيرها، إذ إن طبيعة القصة القصيرة لا تسمح بعناصر مختلفةٍ تدخل في نسيجها ، وما نلاحظه في كثير من القصص الحديثة من خروج عن مبدأ الوحدة هذا هو في الحقيقة ليس خروجاً، فكثيراٌ ما نلاحظ ثمة تشعب بوسائل فنية إلى ماضي الشخصية عن طريق الفلاش باك " الاسترجاع" ، أو إلي اجتاز اللحظة القصصية إلي الأمام عن طريق الاستباق، أو الحلم، أو التداعي الحر، أو ما شابه ذلك من وسائل من شأنها الخروج بفنية ما عن اللحظة القصصية، إلا أن ذلك لا يعد خروجاً ما دام يتم وفق مع وجهة نظر الراوية ومنظور القص عنده، وما دام خروجه مبررا فنياً لتدعيم اللحظة القصصية نفسها.
وربما المثال الذي دائماً ما نعطيه كتطبيق عملي علي هذه الجزيئة ، وهو مثال افتراضي على أية حال : نفترض أننا بصدد كتابة قصة قصيرة عن حادثة تصادم سيارتين ، فإن مهمة السارد من حيث تطبيق مبدأ الوحدة هي تصوير أو رصد لحظة التصادم نفسها، أما لو نظرنا إلى وجهة نظر السارد الكامنة وراء عملية الرصد وربما دافعه إلى الرصد سنزهل.
هو سارد متابع فقط ، وأراد أن ينقل لنا حادثة التصادم هذه من خلال وجهة نظر محددة تتفق مع رؤية ما يعتنقها، ولتكن مثلاً: " فتِّش عن المرأة وراء كل جريمة، أو حدث حتى لو كان حادثة تصادم سيارتين " .. هذه الرؤية ستظل دافعه إلى عملية الرصد، وهي السبب الجوهرى من وراء نقله الحادثة، وهي على أية حال هي رؤية خاصة بالمؤلف، ولكن المؤلف اخترع لها ساردًا ينوب عنه لنقلها أو يعبر عنها من خلال نقله لحادثة التصادم تلك .. إذن العملية ليست مجرد إعادة إنتاج الواقع، وليست مجرد رصد حادثة من شأنها أن تسلي القارئ أو السامع، وليس لتزجية الفراغ، وليس للحديث عما يمكن أن يكون متوقعاً عن أحداث السير وتزاحم السيارات أو مخالفة قواعد المرور أو ما شابه ذلك مما يعرفه الناس من أحداث اعتيادية.
لهذا هو مضطر ـ بناء على وجهة نظره تلك أن ينتقل بالكاميرا ( عين السارد) ، مودعاً المشهد الآني (التصادم وما فيه من تحطم ودماء وفرقعات وقتلي) إلى ماضي كل شخصية على حدة؛ لينقل لنا معتمداً على "الفلاش باك" لقطات من حياة السائق الأول الذي كان شارد الذهن، لأن امرأته ليست جميلة ، ولكنه تزوجها دون قناعة منه خضوعاً لثقافة البيئة القروية الريفية القبلية التي قد تُلزم ابن العم أن يتزوج من ابنة عمه درأ للعار الذي لابد أنه سيلحق القبيلة لو أن ابنة عمه ظلت هكذا دون رجلٍ ، أو مطمعاً للرجال. ومن ثم فإن هذا السائق بوضعيته تلك غير قنوع بامرأته ، ودائماً يروغ ببصره إلى النساء في الشارع ، ومن ثم كان من المنطقي أن يصطدم يوماً ما بالسيارات المارقة وغير المارقة في الطريق.
السائق الثانى وهو ثري .. و سوف يتطرق إليه السارد أيضاً عن طريق "الفلاش باك "إلى لقطات من ماضي حياته ، وهو على أية حال متزوج من امرأة جميلة جداً، تزوجها دون إرادة أو رغبة حقيقية منها، خضوعاً لرغبة أسرتها في تزويجها من هذا الثري، ومن ثم لم تكن حياتهاما مظللة بالمودة والوئام وكانت كثيرة التمنع والتدلل، والمطالب ، كثيرة الأوامر ، استطاعت أن تسيطر عليه وتسلبه قراره في بيته وحياته برمتها، وكان رغم هذا صبورا عليها، غير أنه لم يجد منها ما يرضي رجولته وذاته كرجل، ومن ثم هرب منها إلى الخمر، وأمسى واضحى يعاقرها حتى لأنه أدمنها، ومن ثم كان يقود سيارته وهو مخمور.

على أن ما يجب أن ينقله السارد من ماضي الشخصيتين لا يجب أن يكون بأية حالة مثلما عرضت أنا بشكل مباشر هنا، بل عليه أن ينقله بأسلوب الكاميرا التى تنقل أحداثاً ووقائع يستشف منها القارئ ما قيل هنا بأسلوب مباشر.
وعليه بعد أن يمارس ما مارس من ارتدادات نحو ماضى السائق الأول والثاني أن يعود إلى لحظة التصادم التي من المفترض أننا لازلنا متوقفين عندها، إذ هى اللحظة القصصية الريئس، ونحن المعنيون برصدها، وهى وحدها التى سننقل من خلالها رؤيتنا السالفة.
لنعود إذن إلى لحظة التصادم وقد تجمهر الناس حول الواقعة والسيارتين المحطمتين، والدماء السائلة ، وسط لغط الناس وحواراتهم التى قد لا تعنينا فى لحظة القص كثيرا، وأنما الذي يعنينا أن تتوقف كاميرا السارد أمام امرأة جميلة جدا تمرق عبر المكان بجوار السيارتين.. ومن دون أن تعبأ بمعاينة الحادث كان الناس المتجمهرون معنيين بتفرسها، وفيما كان السارد مركزاً كاميرته عليها غابت، وربما أن في تلك اللحظة كانت روح أحد السائقين قد خرجت، فيما كان الثاني يحتضر وعينه كغيره من الناس تتابع تلك المرأة المارة.. لتنتهى القصة وقد استطاع السارد( الراوية) كسر مبدأ الوحدة والخروج منه بفنية ما تتعلق أو تتفق مع وجهة نظره، واستطاع من خلال تركيزه على لحظات معينة وأحداث بعينها أن ينقل إلينا رؤيته، وإن كان من خلال رصده لحادثة السير أو التصادم بين السيارتين، ولا يستطيع أحد من الراصدين لفنيات القصة ان يتهمه بكسر مبدأ الوحة/ وحدة الحدث ، ووحدة اللحظة القصصية، مع أنه حقيقة كسرها، وهكذا هو الفن دائما، التجاوز عن محددات الفن بذات الفن.
ـ مبدأ الثكثيف :
القصة القصيرة هي الفن الأدبي الشديد التركيز والتكثيف والموضوعية، وما دامت القصة القصيرة تعالج موضوعا واحدا، أو فكرة واحدة، أو موقفاً محدداً، أو جزئية من جزئيات حياة شخصية ما، ويتلقى القارئ أثرها ككل، وفي الحال، وبسرعة أيضاً، فإن عنصر التركيز يلزم أن يكون مقَّوماً من مقوماتها الإيجابية الخاصة بها.
غير ان البعض يعي التكثيف في القصة على أنه الاختزال، والاختصار، والتلخيص.. والحقيقة إن هذا الفهم هو وراء ما نقرأه من قصص دائما تبدو كالفرخة بغير لحمها ، نعم تبدو القصة هيكلا عظمياً، أو في تشبيه آخر مثل " شاسيه السيارة" عندما نصوره وحده ونقدمه للناس تحت شعار: " هذه سيارتكم الرشيقة"!! .
لالا .. الأمر يختلف .. هناك تكثيف علي مستوي اللغة بالاستغناء عن غير الدال من مفردات ترد في العبارة، وبناء العبارة وفق مبدأ مهم في البلاغة العربية ألا وهو الإيجاز، وكذلك استخدام لغة مكتنزة بالايحاءات والتصويرات المشفة عن معاني كثيرة ومتسعة.
وهناك تكثيف يتم على مستوى الأحداث والحوارات يُستغنى فيه عن غير الدال من حوارات، والتمهيدات ، والوصف الحسي غير الخادم، والذي لا يمت بشدة إلى الحدث، أو إلى لحظة التنوير في القصة ، أو لا يشف عن رؤية ما، أو جانب من الرؤية ،والاستغناء عن السفاسف والتوافه من التفاصيل الصغيرة غير الدالة، وغير المؤثرة والبديهية، وكذلك الكفُّ عن تدخلات الراوية وتعطيله للحظة الدرامية وتوقيفه لعملية القص من اجل أن يبث في القارئ قيماً معينة وتعليقات وشروح وتفسيرات وكأنه يقود قارئاً غبياً، أو لكأنه بصحبة قارئ ضرير وسط مجاهل غابة متشابكة.

( يُتْبع )
توقيع :  عبدالجواد خفاجي

 لأنى اسـتنطق الصمت كان لابد أن أُسْـكِتَ الضجيج

عبدالجواد خفاجي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس