عرض مشاركة واحدة
قديم 10/02/2008, 02:11 AM   #4
عبدالجواد خفاجي
شاعر و أديب و روائي
 
الصورة الرمزية عبدالجواد خفاجي
افتراضي

تابع الموضوع أعلاه :

2 ـ السارد ووضعيته:


كثيراً ما تنتاب المرء منا رغبة أن يحكي لأصدقائه حكاية ما حدثت معه أو أمامه في الحقيقة، وهو يعلم أنه بمجرد أن يشرع في الحكي عليه أن يتحول إلي راوية، ومهمته واضحة هو نقل حكاية ما، حدثت حقيقة، لكنه حقيقة يتساءل: لماذا أنا راغب في نقل هذه الحكاية للآخرين؟ .. وعليَّ أن أجيب بيني وبين نفسي؛ إذ لابد أنني أهدف إلى توصيل رؤية ما من وراء الحكي، إذ ليس من المعقول أن يكون الهدف هو مجرد التسلية، أو حتي مجرد إعادة إنتاج الواقع الذي يراه ويشاهده الناس ويألفونه.. إن مجرد ألفتهم للواقع تعني أنني بالنسبة لهم أطرق المطروق، أو أعيد عليهم ما يخبرونه جيداً .. من ناحية أخري لابد أن أسأل نفسه: أين أنا من الأحداث التي سأرويها: أو بالمعني هل أنا مجرد مراقب من الخارج ودوري الآن هو النقل فقط،، أم النقل والتعليق والتعقيب على الأحداث، أم النقل فقط .. أم أنني حقيقة كنت مشاركاً فيها مثل بقية الشخوص، وهل أنا مشارك بدور أساسي أم كنت هامشياً في الأحداث، أم أنني حقيقة سأنقل أحداثاً لم أكن مشاركا فيها، ولم أكن أعي تماماً ما يدور ولكني سأنقل ما يمكن أن يكون قد وصلني منها علي قدر استيعابي .. باختصار علي الراوية أن يحدد وضعيته من الشخوص والأحداث .. السؤال الذي يمكنه أن أسأله لنفسه قبل أن أشرع في الحكي: من أين أبدأ ؟ لقد حدثت الأحداث في الحقيقة دفعة واحدة أو جملة مترابطة، وفي زمن مركب ( زمن القصة في الحقيقة) وعليَّ الآن أن أسلسلها في زمن آخر متسلسلة أفقيا حدثاً وراء حدث ( زمن القصة في النص) ، ثم أقوم بعملية الربط بينها حتي يستوعب المحكي له العلاقة بين جزئيات الحدث، إذن عليَّ أن أكون صاحب منظور قصصي معين يؤهلني لتشويه زمن القصة التى حدثت حقيقة؛ ليتسني لي عرضها بشكل آخر وفق تراتبية زمنية مختلفة.. من ناحية أخري أنا أسأل نفسي أيضاً : كيف أبدأ الحكاية .. هل سألتزم بمنطق حدوثها في الحقيقة أم سأبدأ وفق منطقي الخاص، كأن أبدأ من نهايتها ـ مثلاـ ثم أعود لاحقاً إلى البداية، أم أبدأ من المنتصف، ثم أرتد إلي البداية، وهذا معناه أنني لابد أن أكون صاحب منظور معين للقص يتفق مع وضعيتي التي حددتها سلفا، ويتفق مع وجهة النظر التي أمتلكها أساساً، وعلي أن أتساءل أيضاً هل أنا مجرد سارد للقصة، أم أنني في الحقيقة صاحب أسلوب قصصي مشوق وممتع ومتفرد ( مؤلف ) وعلى أن أفصل بين كوني مؤلفاً، وبين كوني سارداً، وربما أنني تراجعت أمام عملية القص إذا اكتشفت في لحظة ما أنني لست أهلا لأن ألعب دور المؤلف .. ومن جهة أخرى علي أن أسأل نفسي هل ما حدث فى الحقيقة يصلح لعرضه الآن كحكاية لها خاتمتها المنطقية، أو المفارقة؟، وهل لها مبتدؤها الممهود لاستيعاب وجهة النظر، وهل هي حكاية غنية بما يؤهلها لتغذية السرد بعناصر مؤهلة لصنع حكاية مشوقة ذات مغزى؟؟ .. ثمة اسئلة كثيرة إذن وسمة أدوار، ووضعيات ووجهات نظر ومنظور قص، وأسلوب سرد، ورؤية ما من وراء السرد، وفي النهاية ثمة مؤلف ناسج له سمة الأديب الذي يستطيع أن ينشيء باللغة وعليه أن يتسامي عن مجرد كونه سارداً إذ المفترض أن السارد من إختراعه، والمفترض أن السارد مجرد أداة من ضمن أدواته الأخرى.
لعلني بهذه المقدمة أكون قد مهدت للوصول إلى ما أقرته نظرية البويطيقا بخصوص دور السارد (الراوية) ووضعيته، وبخصوص التفرقة بين القصة كما حدثت في الحقيقة، وبين العمل القصصي.. وقبل أن أعرض لهذه الآراء أتوقف عند مقولة من عينة ما قرأناه ونقرأه عند المبتدئين وأحيانا غير المبتدئين وهم يضعون لافتة فوق النص تؤكد أن " هذه قصة واقعية" دون أن يدركوا أن كلمة واقعية لا تعني أنها حدثت في الحقيقة، فثمة واقعي وحقيقي، الواقعي هو النقيض من الرومانسي، وهو أيضاً النقيض من السريالي، وهو النقيض من الأسطوري، ولا يعني ذلك حدوثه على وجه الحقيقة، بل يعني إلتزامه بالواقع على مستوي الرؤية، هو تصنيق رؤيوي فلسفي إذن، يجر إلي اشتراطات فنية عند الكتابة، أما الحقيقي فهو ما حدث بالفعل وما يمكن أن نقرأه في صفحات الحوادث في الجرائد، وما يجري على ألسنة الناس من حكايا حول ما فعلوه أو ما شاهدوه ، ومهما كان أسلوبهم، فإن ما يحكونه ليس عملا قصصياً، لأنه لم يجب عن كل الأسئلة التي سبق أن طرحتها، ولأن مهمة عرضه ليست مهمة الأديب / الفنان، فإعادة إنتاج الواقع ليست من الفن في شيء، الفنان هو من يفن، ولعل الإبداع أساسا ـ كتعريف قاموسي ـ هو الخلق على غير مثال سابق .
ولعل كل الدراسات التي تمت أو تتم على القصة القصيرة أو الرواية ، تبدأ من اعتباره عملاً سردياً، له سارد (راوية) وهو شخصية وهمية مخترعة لأداء دور معين، مثله مثل الكاميرا أحيانا في يد المصور عليه أن ينقل الأحداث بحيادية، إذن هو في النهاية أداةمن أدوات القاص (المؤلف) وله مستوى لا يتخطاه، أو بالمعني هو في إطار دوره يختلف عن المؤلف، ومن ثم له وجهة نظر ترتبط بوضعيته بالنسبة للشخوص والأحداث، وله مستوي معين من الفكر والثقافة في إطار دوره أيضاً، وهو مختلف بالضرورة عن مستوي المؤلف (صاحب آلاف الرواة أو الساردين عبر أعماله الإبداعية) لذلك يمكننا ببساطة اكتشاف سطوة المؤلف على الراوية ودوره عندما نجد أسلوب الراوية أعلي بكثير من وضعيته في القصة، وأعلي من مستواه الفكري والثقافي المفترض إذا كان من الشخوص ساعتها يمكننا التعرف علي مستواه من خلال حكيه عن نفسه ، ومن خلال سلوكه الفعلي ومساهماته في الأحداث، أو من خلال المعلومات التي يوفرها لنا عن نفسه، كأن نأتي بعامل في البلدية مثلا، ولم يتلقى تعليماً، ومن وسط فقير ثقافياً، ومادياً وحضارياً، ثم نجعله بطل القصة وراويها ، ثم نجعله يتكلم فى حواراته بلغة قاموسية رصينة ، ثم ننطقه بمنطق المثقفين، ثم نجري على لسانه حديثا يفيض فلسفة وتحليلاُ للواقع ، أو تتساقط منه عبارات تنم عن تخصصية علمية، أو تبحر فكري .. هنالك نكتشف أن المؤلف أعطى الراوية أجازة مفتوحة وبدأ يتحدث نيابة عنه، وهنالك نقول : لقد سقطت الأداة الأولي في يد المؤلف وهو الراوية ومن ثم لا عمل قصصي في الأساس، إذ بانهيار السارد (الراوية) ينهار السرد تماماً.

إذن عندما نشرع في السير فى دراسة وضعية /وضعيات السارد فى علاقتها ببنية النص يجب أن نفرق بداية بين القصة كما حدثت أو تحدث في الحقيقة وبين العمل القصصي / النص باعتبار الأخير وسيطا قصصياً / خطاباً 0
ثمة فارق كبير إذن بين النص القصصى والقصة أو الأحداث الحقيقية قبل أن تتجسد فى نص0 إذ تُرى أحداثا ينظر إليها على أن لها وجوداً مستقلا عن أية وجهة نظر معينة تظهر من خلالها الأحداث فى العمل القصصي / النص. ويُنطر إليها على أن لها خصائص الأحداث الحقيقية التى لها وجود فعلي ، والأحداث فى وجودها الفعلي يمكن أن تحدث جملة " فى لحظة واحدة " لكنها فى الخطاب القصصى تأتى بكيفية ما وفق نظام زمنى أفقي تراتبى قد يستغرق مساحة زمنية طويلة لذلك يمارس السارد( الراوية ) كافة صلاحياته – باعتباره صاحب الخطاب القصصى وصانعه- فى تشويه هذا الزمن الأفقى ليربكه ويجعله قادرا على استيعاب الأحداث بشكل أو بآخر، وربما يترتب على هذا الإرباك والتشويه الزمنى أن العمل القصصى ربما لا تظهر فيه العلاقات بين حدث وحدث بشكل يتفق ومنطق الواقع أو منطق حدوثها فى الحقيقة أو حتى ترتيبها.
والسارد وهو يقوم بهذا الفعل لا يقوم به اعتباطاً وإنما يتم الأمر وفق منظور معين أو وجهة نظر معينة 0هذا المنظور أو وجهة النظر هو الذى يحدد وضعية السارد مكانياً وزمانياً بالنسبة لشخوص قصصه .
والحقيقة ان وضعية السارد تثير مشكلات منهجية عدة ، يتعلق بعضها ببنية النص وبعضها الآخر يتعلق بالقيم المبثوثة فى النص ، وبعض ثالث يتعلق بالعلاقة بين النص والمؤلف ، وبعضها يتعلق بأسلوب السرد ، وبعضها يتعلق ببنية الزمن القصصي، وبعضها يتعلق ببنية المكانية في النص.
ولقد حدد " تزفيتان تودوروف " وضعيات أو تجليات السارد فى النص فى ثلاثة أصناف:
السارد أكبر من الشخصية القصصية أو الروائية (الرؤية من الخلف)وهو ما يسمي بالسارد العليم الذي يبدو أعلي من شخوصه .
السارد مساوٍ للشخصية ( الرؤية مع أو الرؤية المصاحبة) وهو أقرب إلى الكامرا الذي عليها أن تنقل الأحداث بحيادية.
السارد أصغر من الشخصية ( الرؤية من الخارج أو الأمام) وفيها تبدو معلومات السارد أقل من شخوصه، كأن ينقل مثلا قصة من داخل المناجم ، وهو لتوه يدخل منجما لأول مرة في حياته.
ولقد كان القصاص والروائيون التقليديون لايعرفون أو لا يكادون يعرفون إلا مايسمى في تقنيات السرد بالرؤية من الخلف، حيث الراوية المسيطر على الحدث والشخوص يعرف كل صغيرة وكبيرة ويسمح لنفسه بالشروح والتعليق على الأحداث ، وربما أعطي لنفسه حق السخرية من الشخوص، ويسمح لنفسه أيضاً للدخول إلى جوانيات الشخوص وينقل ما في ضمائرهم، ونفسياتهم، وربما يمارس بعضاً من التعليق عليها وشرحها باعتباره عليما بكل شيء، ولذلك يبدو سرده ملئ بالثرثرة، وبالفجوات غير الدرامية أي الخالية من الفعل ورد الفعل ، أو الأحداث، فيما يحتل وحده مساحات كثيرة من السرد، بعيدا عن صلب الأحداث.
هذا بالنسبة للسارد ووضعيته .. أما عن القصة القصيرة كعمل نوعي له سماته الفنية المحددة التي تجعله عملا فارقا عن الأجناس الأدبية الأخري ومهما قيل أنه يستوعبها أو يتماس معها، ومهما قيل أن الحدود سقطت بين العرق والجنس واللون ، فإن كل ذلك يأتي من باب التقارب والاستيعاب وليس من باب القضاء على النوعية.
إننا لا نستطيع أن نلغي تاريخ الأدب ونظرياته والمنجز فيه من أعمال فنية، ولكن علينا أن ننطلق منها لا عليها، هذه واحدة، الثانية لكي أنطلق منها لابد أن أعيها أولاً، ومهما يقال إن الفن هو التجاوز أو اجتياز المحددات التقعيدية ـ ولعل هذا صحيح ـ يبقي شرطنا ـ في مضمار الفن ـ أن الخروج على الفن لابد أن يكون بفنٍ أيضاً .
ولعلني أكون ممهدا بذلك لعرض ما اتفقت عليه المراجع الأدبية في مجال القصة القصيرة كعمل نوعي .

( يُتْبع )
توقيع :  عبدالجواد خفاجي

 لأنى اسـتنطق الصمت كان لابد أن أُسْـكِتَ الضجيج

عبدالجواد خفاجي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس