عرض مشاركة واحدة
قديم 10/02/2008, 02:00 AM   #2
عبدالجواد خفاجي
شاعر و أديب و روائي
 
الصورة الرمزية عبدالجواد خفاجي
افتراضي

تابع الموضوع أعلاه :

إننى ومن هذا المنطلق وبالتركيز على اللغة باعتبارها جوهر العمل الأدبى سأبدأ في طرح بعض النقاط الأدبية التي من شأنها أن تحقق أدبية النص:
1ـ لابد أن تتحقق صفة الإغراب عن طريق المجاز, وعن طريق الحيودات التى يصنعها الأديب عن اللغة الاعتيادية أوبمعنى آخر عن طريق الانزياح عن الإرث المشتترك إلى اللغة الخاصة للأديب. فثمة ما يقال : اللسان العربى ولغة الجاحظ . الأولى هى الإرث المشترك والثانية هى الخبرة الخاصة عندما تتعلق بالشخص والذوق والأسلوب والاختيار، والأخيرة تتعلق بقدرة الأديب على ممارسة التشويه المستمر للغة الخطاب العادى, وكل ما تعارف عليه الناس وألفوه من أنواع الخطابات الأخرى حتى وإن كانت خطابات أدبية شائعة.
والإغراب لم يكن أبداً في يوم من الأيام قاصراً على مذهب أو مدرسة أو جماعة بعينها على مدى التاريخ الأدبي كله، ولم يكن قاصراً على مذهب أو مدرسة أو جماعة بعينها على مدى التاريخ الأدبي كله، بل إنه سمة الأدب في كل عصر من العصور.
وقد يظن البعض أن كلمة حيودات عن لغة الاستخدام العادي تعني أن هناك لغة مخصوصة صالحة لتحقيق الأدبية، وأخري غير صالحة لتحقيقها ، ولعل هذا ما لا نقصده .. إن مقولة إن هناك ألفاظاً صالحة للأدب أو الشعر أو القصة، وألفاظاً غير صالحة مقولة قديمة ، انتفت منذ الأربعينيات؛ فكل المفردات صالحة للاستخدام الأدبي ، المهم هو التركيب ، ومناسبة اللغة بمستواها وطريقة بنائها للموقف الخاص الذى تستخدم فيه أو تعبر عنه، أو كما يقال في البلاغة التقليدية "مقتضى الحال" ، والأديب بحساسيته الخاصة يعرف ما هو المناسب من لغة وتعابير لمقتضى الحال، وربما هو القادر أيضاً على إرباك اللغة لحملها على التعبير عن موقف خاص.. ولعل الأديب وحده هو القادر كذلك على التوفيق بين المفردات توفيقاً جميلا أمثل للتعبير عن الموقف أو الحالة أو المعنى بطريقة جديدة ، ربما أن المتكررأحياناً هو الموقف المعبَّر عنه، لكنما يظل التعبير عنه بطرق جديدة مدهشة هو مهمة الأديب، وبصرف النظر عن كون اللغة مباهية بوجودها المادي، أو برصانتها، أو بضلاعتها القاموسية،أو غير مباهية، فقد تكون البساطة والتلقائية أحياناً هما الأنسب والأجمل لهذا الموقف أو ذاك من غيرهما.
وثمة ما يجب أن نؤكد عليه أن الإغراب لا يتحقق باللغة وحدها ، بل أحياناً يكون الموقف الذي تُستخدم فيه اللغة مساهماً معها في تحقيق صفة الإغراب، ولعل جهد المؤلف أو مستخدم اللغة هنا أنه بلغ من الذكاء مبلغ اختيار المناسب للمناسب، وصولاً إلى هدف بلاغي يبتغيه، أو إلى معني متسع يرتجيه. ولأضرب مثلا على ذلك : عندما نردد عبارة من عينة "هذا عبور مرعب" ونحن نشاهد فيلماً تسجيلياً عن عبور الجنود المصريين لقناة السويس يوم السادس من أكتوبر عام 1973، ربما أن هذه العبارة ـ التى لم تُبنَ على هيئة مخصوصة ـ رغم عفويتها لا تعتبر أدبية أو شعرية في هذا الموقف تحديداً، لكونها عبرت عن المعنى مباشرة، ولكونها اعتيادية في هذا الموقف ، وهي لهذين السببين واقعة ضمن الإرث المشترك من استخدامات لغوية .. لكنما لو ردد هذه العبارة طبيب أو طبيبة أمراض نساء أو جراحة ، في لحظة معاينة أيهما للآثار الدموية والتهتكات الشنيعة التي أحدثها عريس بعروسه ليلة الزفاف.. تُرى كيف يكون حكمنا على استخدامها؟.
إن استخدام العبارة في هذا الموقف الأخير ينطوي على توظيف دلالي مغاير ينشأ عنه إغراب لم يوفره استخدامها في الموقف الأول. فلفظة " عبور" في الموقف الأول لم تتجاوز دلالة مواضعتها أو دلالتها الاصطلاحية .. أما في الموقف الثاني فثمة "إغراب" منشأه المغايرة بين "فض غشاء البكارة" و "عبور قناة السويس".. غير أن العبارة في الموقف الثاني تنطوي على تصور خيالي لما حدث ليلة الزفاف على أنه اقتحام ، أو حرب، ومن ثم فالعريس هو العدو المدجج المقتحِم (بكسر الحاء) والعروس من ثم هي المقتحَم (بفتح الحاء) ، وهكذا تنشأ المفارقة عندما تحل العدوانية المستبعدة محل الحميمية المفترَضة ، وهكذا أيضاً يمكننا تصور فكرة التعشق على أنها اقتحام، وبداية الحياة الزوجية على أنها بداية حرب .... وهكذا قد تكتسب العبارة قدرة لانهائية على فتح هويس الدلالة ، والتأويلات المتسعة لمجرد أنها حققت إغراباً من خلال الموقف الذي قيلت فيه، وليس من خلال قاموسيتها أو رصانتها أو ضلاعتها أو ما شابه ذلك.

2ـ لابد أن تكون اللغة مكثفة، بمعنى محملة بأكبر قدر من الطاقة الايحائية والرمزية والدلالية والنفسية والرؤيوية فى آن، وليس بمعنى الاختزال والرشاقة والنحول ـ كما يفهم البعض ـ فذاك وإن كان مطلوباً إلا أنه ليس أكثر من مظهر خارجى للغة المكثفة.

ولكى يحقق الأديب هاتيك المواصفات لابد أن يكون قادراً على :

1ـ الاشتباك الدائم مع اللغة بشكل أكثر عسراً ووعياً بها، وربما لكي يكون مؤهلاً للاشتباك مع اللغة لا بد أن يكون مستعداً ـ بجانب الوعي ـ على بذل جهد الانتقاء والتوليف والجمع بين المفردات، وهو جهد مطلوب، وربما أساسي إذ لا يتعين الأسلوب الأدبي بمجرد الخبرة المباشرة وحسب، بل ثمة حساسية فنية باتجاه اللغة لدى الأديب يجب أن تُستحث للقيام بفعلها أثناء الكتابة، الأديب وحده القدادر على أن يجمع كلمة تمتُّ إلى الأرض وأخري تمتُّ إلى السماء من عينة " شجرة" و "غيمة" ليعطي يعبيراً مثل:" غيمة شجرية" أو"شجر الغيم" .
أما عن الوعي فهو بالضرورة متنامي، ولكي يتنامى بحاجة إلي ري دائم ليس بالاطلاع والتمرس وحدهما، وإنما بالنية المسبقة علي هجر كل ماسبق أن استخدمه الآخرون من تعبيرات في مثل هذا الموقف الذي هو بصدد التعبير عنه، حتى وإن كانت تعبيرات أدبية راقية.. إن مثل هذه النية المخلِصة ستكون دافعاً للخلق على غير مثال سابق ـ كما يُقال ـ أو على الأقل دافعا للبحث عن جديد نسبياً.

( يتبع )
توقيع :  عبدالجواد خفاجي

 لأنى اسـتنطق الصمت كان لابد أن أُسْـكِتَ الضجيج

عبدالجواد خفاجي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس